فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      هل يمكن توحيد الجهد الإسلامي لإخراج الأمة من مأزقها التاريخيّ؟

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

      مما شك فيه أن الأمة الإسلامية في مأزق كبير، مأزق تاريخيّ، من أضيق المآزق التي مرت بها في الأربعة عشر قرنا الماضية.

      والسبب في ذلك الوضع الأسيف يرجع إلى أمور عدة، تواطأت كلها على وضع المسلمين في هذا الركن الضيق الحسير في واقع الحياة المعاصرة، لا حيلة لهم ولا قوة، على ما لديهم من ثروات مالية وعقلية، مهزومون، ضعفاء، مستعمرون، مشوهون عقدياً ونفسياً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

      وحتى نصل لمرادنا من هذا المبحث، وهو الإجابة على سؤالنا هل يمكن توحيد الجهد "الإسلامي" لإخراج الأمة من مأزقها التاريخيّ؟، فإنه يجب أن ننظر في عدة أمور:

      1. ما هي الطبيعة التركيبية العقدية الإجتماعية للمسلمين اليوم؟
      2. من هم أعداء اليوم، داخليا وخارجيا؟
      3. ما هم أصحاب الجهد الإسلاميّ الذي يمكن توحده لهذا الغرض، وما هي أغراضهم في العمل الإسلامي؟
      4. أسس توحيد الجهد، وإمكانية تطبيقه.
      5. الاستراتيجية الشرعية في العمل الإسلامي
      6. الخلاصة، والإجابة على السؤال.

      والله المستعان

      (1)  الطبيعة التركيبية العقدية والاجتماعية للمسلمين اليوم 

      من الطبيعي للباحث في أمر الجماعة الإسلامية اليوم، بمعناها العريض، أي الأمة، أن يلقى نظرة فاحصة على التركيبة العقدية والاجتماعية لهذه الأمة، مسلميها وأقلياتها، لما ينعكس من جزاء ذلك على أي تصرف لعنصرها الأساس، وهم المسلمون.

      فالكتلة العظمى من الجمع المقيم في بلاد المسلمين، مسلم "تاريخياً" وباستصحاب الأصل. ثم هناك المجوس الرافضة وهم ليسوا بمسلمين على الإطلاق. ثم تجد أقليات نصرانية أكبرها في مصر ثم الشام والعراق، وأقلية يهودية في المغرب، والكيان السرطاني اليهودي في فلسطين، ثم بعض الأعراق والأديان المختلفة الصغيرة الحجم الدرزية واليزيدية.

      ثم نرى في هذا التعدد، طبقات اجتماعية، تكاد تنحصر في طبقتين، الطبقة الثرية، وفيها الحكام ورجال الجيوش والأمن المخابرات والإعلام والقضاء، في كل بلد على السواء. والطبقة الفقيرة الكادحة، وهي الغالب الأعم من الجمع المسلم "تاريخياً" وباستصحاب الأصل. ولا ثالث للطبقتين.

      وهذا، على ما يظهر، ليس فيه تعدد كبير يمكن أن يؤدي إلى مشكلة للمسلمين العاملين على عودة دار الإسلام في بلاد المسلمين، إلا الرافضة. فإن المصيبة الأكبر تكمن في أن الرافضة يتمركزون في الشرق العربي بشكل مخيف. إيران هي المركز، ثم  نصف العراق وسوريا ولبنان، ثم عُمان، ونصف اليمن التي كادوا يسيطرون عليها ، والبحرين وبقية دول الخليج، والشمال الشرقي في جزيرة العرب. ، إلى جانب سلطة كبيرة في غزة. وهذا الانتشار المخيف كان من جراء التسيب من جهة حكام الخليج المرتدين، تهيبا من القوة المجوسية بعد ثورة الرافضي الهالك الخميني، مما أدى إلى أن أصبحوا يشكلون نصف الشرق العربي كله.

      وهناك بلا شك ارتباط ما بين المنظومة الاجتماعية والانتشار العقديّ الرافضي، فإن الروافض قد اتخذوا من الفقر العربيّ الغالب وسيلة إلى التدسّس بينهم ونشر عقيدتهم، سواء على مستوى الأفراد، أو الحركات، كما في حماس غزة.

      أمّا عن أثر الفقر والغنى في التوجه الإسلاميّ، فإن من المُفترض ألا يؤثر المستوى الإجتماعي على هذا الأمر، فقد رأينا على مدى التاريخ الإسلامي أغنياء يساوون الفقراء في الهمة، بل أكثر فاعلية ونشاطا. وما مثال الشيخ أسامة بن لادن والشيخ الظواهري ببعيد. لكن، يجب أن يكون في حسبان الحركة الإسلامية، أن النفوس اليوم ليست هي نفوس الأمس، وأن معايير اليوم ليست معايير الأمس. فقد استهدف الغزو الفكريّ الطبقة الغنية واخترقها بشكلٍ غير مسبوق، حتى تعطنت كلها أو كادت.

      وقد أنتجت هذه التركيبة الإجتماعية شعوباً مشوهة عقديا وخلقيا وولاء وتوجها. فقد اخترقت الثقافة الصليبية البيوت المسلمة، وسحبت من تحت أرجلها بساط الإسلام، وظللتها ببساط الكفر والفسوق والعصيان، في كلّ بلد من بلاد المسلمين. ومن ثم، فقد كادت الحاضنة الشعبية أن تنضب إلا من رحم ربي، وهمْ كثير رغم الغلبة العددية المحضة لمن سقط في مزابل الثقافة الغربية.

      هذا هو المَعين الذي سيقتات منه أصحاب الجهد الإسلاميّ الذي نسعى لتوحده.

      (2)  أعداء الإسلام

      من الأسهل في حقيقة الأمر، أن نتحدث عمن هم ليسوا بأعداء الحركة الإسلامية، من أن نتحدث عمن هم أعداؤها، إذ إن أعداءها هم الكثرة الغالبة على وجه الأرض.

      فإن العدو الداخلي، وهو الأخطر فيما أحسب، هم  الطبقة الحاكمة، التي خضّعت الجيوش وحولتها لعملاء محض، عقيدتهم هي حماية النظام أولا، بلا ثانٍ! ثم كونت حولها كافة الأجهزة التي تضمن لها البقاء، من شرطة وقضاء وإعلام ومخابرات. ثم جنّدت كافة موارد الدول لتقوية تلك الأجهزة وضمان ولائها. هؤلاء هم العدو الأول، الذي كفر برب العالمين، وآمن بنفسه، واستعبد الجميع ممن حوله، المشهد الفرعوني المتكرر عبر الزمان والمكان.

      ومن وراء هذا العدو، يقف شيطان أكبر منه، يترصد بهذه الأمة، هو الغرب الصليبيّ الذي شنّ من قبل إحدى عشرة غزوة صليبية، ثم تلاها بالحملة الصليبية الفرنسة، فلإسقاط الخلافة ثم احتلال بلاد المسلمين أكثر من ثلاثين عاما، اختار فيها مندوبيه من أعداء الأمة الداخليين وصنعهم على عينه وهيأهم، ثم غادر ليكون موجهاً خفياً، يحرك أحجار الشطرنج على رقعة أرضنا، بلا استثناء.

      ثم لمّا رأي العدو الخارجيّ بعض مظاهر قوة وبوادر انفلات بسيطة، ولو أنها كانت قومية في بعض الدول كعراق صدام، أو حركات تشتد وتقوى مثل طالبان والقاعدة وبعض الجماعات في مصر أساسا وفي غيرها، قرر أن يتحوّل احتلاله إلى احتلال عسكريّ مركّز، يشلّ كلّ تحرك ضده، ويجهض أي محاولة شعبية قد يكون لها قوة عسكرية بشكل ما. فكانت حرب الخليج الأولى، وكان استعمار المنطقة الشرقية بالجزيرة والكويت والبحرين وقطر والإمارات، حيث تحولت تلك الدويلات المصطنعة إلى محميّات غربية بكلّ ما في هذه التوصيف من معنى، بموافقة، بل بدعوة ودعم النظم الخائنة الخليجية.

      ثم تبجح العدو الصليبيّ في حرب الخليج الثانية، حيث اجتاح العراق ودمرها بالكامل، وأعان المجوس الروافض على احتلالها والتوسع البشع الذي أتبع ذلك في محيط الشرق العربيّ كلّه. ثم جاء ما أسموه بالربيع العربيّ، الذي حوله عدو الداخل والخارج، بالتعاون مع القوى الساقطة عقديا في الداخل، إلى عكس ما أريد منه، فأصبح أداة لمجازر رابعة والنهضة والفلوجة والشام كلها، حتى يومنا هذا. والله المستعان.

      وتم سلب الأمة واغتصابها.

      هذا هو العدو الذي نتحدث عن الجهد الإسلاميّ لإزالته ودحره.

      (3)  أصحاب الجهد الإسلاميّ الذي يمكن توحده لهذا الغرض، وما هي توجهاتهم في العمل الإسلامي؟

      هنا نأتي إلى بيت القصيد. وسنتحدث في هذا الفصل عن:

      1. ما هو الهدف المنشود؟
      2. ما هي أسس تجميع العمل وتوحده؟
      3. أين هي الحاضنة، كيف نكتسبها؟
      4. من هم أصحاب الجهد الإسلاميّ الفعّال المقصود؟
      5. مع من يصلح التوحد والتجمع؟
      6. ما الحل؟
      1. ما هو الهدف المنشود؟

      الواجب الأول في هذا المقام هو أنْ نحدد الهدف الذي ننشده، والذي نريد أن تلتف حوله الجهود الإسلامية العاملة الفعّالة، حتى لا تختلط علينا الأمور. والأهداف استراتيجية (دائمة مستقرة) وتكتيكية (مؤقتة مرحلية)

      فالهدف الاستراتيجي، وهو في مفهومنا الذي نقدم به توجه أهل السنة والجماعة، بعد رضا الله سبحانه وطلب القبول، هو إقامة دولة مركزية تحكم بشرع الله وبالتصور الإسلامي، في كافة مناحي الحياة، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وعلميا وعباديا. وحين نقول "دولة" نعنى ما استقر عليه التجمع البشري من معنى "الدولة"، التي لها حدودها، وهي متمكنة داخلها، قادرة على صد عدوها الصائل. وهي التي يمكن أن ينطبق عليها حد "الدار"، الذي عنيّ به الفقهاء وعنوه. فالقرية في محلة، ليست "دارا" وليست دولة، وصحراء ممتدة محاطة بالعدو من كل مكان ليست بدارٍ، إذ يجب أن يكون لها مخرجا ومسلكاً، كما نص أبو حنيفة، رحمه الله، ولكن قد تكون "دولة"، إن توفر فيها الاستقلال الذاتي وشروط التمكين[1].

      1. ما هي أسس تجميع العمل وتوحده؟

      يجب أن يكون مفهوما لمن يتصدى لمثل هذا البحث أنّ الأساس الذي تقوم عليه جهود تجميع العمل الإسلامي، ينقسم إلى قسمين، عام وخاص، أو شعبيّ وتنظيميّ. والخلط بينهما ينشأ عنه عملاً غير ذي فائدة يرجى منها تغيير. لكنّ السعي في كليهما أمرٌ ضروري لا غنى للساحة المسلمة عنه.

      والمقصود بالعمل الشعبيّ، هو إيجاد الحاضنة الشعبية التي تضمن استمرارية العمل وقوة ركائزه على الأرض. والعمل التنظيميّ هو الذي يضمن صحة توجه الحاضنة، وعدم تفلتها، وتركيز جهد الصفوة القادرة على أداء مهمات خاصة موكلة اليها.

      هذا من ناحية مجال التجميع، أما الأسس العقدية، فمرة أخرى، يجب التفرقة الواضحة بين الأسس الواجب التقيد بها في الحاضنة الشعبية، والأسس التي يجب التزامها في العمل التنظيميّ، والخلط بينهما مصيبة على كلّ المستويات.

      وجدير بالذكر أن البعض اليوم، حتى من أفاضل المشايخ، قد تضخمت لديه فكرة أن الجهاد هو جهاد أمة. لكن يجدر بنا اليوم أن ننتبه إلى أنّ فكرة "جمع الأمة" وجهاد الأمة، ليست وليدة أمس الأول، ولا شعلة من إضاءات شيخ من مشايخ الساعة، بل هي أصلاً فكرة الإمام حسن البنا رحمه الله ، منذ 80 عاما، قبل أن ينحرف بها المنحرفون من الإخوان، ثم كان الشيخ العلامة عبد المجيد الشاذلي، منذ الثمانينيات، وقد صاحبته في ذلك، أول من أطلق على جماعته "إحياء الأمة" وكان خطه فيها هو العمل على بعث الأمة ككل واحد.

      فقادة الجهاد الميداني، في جماعة القاعدة مثلا (وليس غيرها في الساحة اليوم حقا) هم أنفسهم من مشايخ الدعوة ومنظّريها، قبل أيّ أحدٍ من خارج تلك التنظيمات. والحديث عن هؤلاء القادة الأئمة ومنهجهم "الإقصائي" وغفلتهم عن "الذوبان في الأمة"، وسائر تلك النظرات التي لا حقيقة لها على الأرض، لا يكون "بأستاذية" متعالية، إذ هم أصلاً أصحاب التنظير ووضع الأسس والقواعد. ثم أن ننعي على بعض ممن هم في هذا التيار، بتكفير حماس مثلاً[2]، فإن ذلك ظلم للتيار كله، بل تدخلاً غير مبرر[3]، وإنكاراً لدوره. وتعدد النظر جائز ومقبول في هذه الحالة بلا خلاف، بل أولى من تجاوز النظر في موضع حرورية العوادية والتسامح فيها على سبيل المثال! ولا يجب لأحدٍ أيا كان، أن يقف من أمثال الشيخ الظواهريّ وأبي عبيدة المصري وعطية الله الليبي وأبو يحي الليبي، هذا الموقف الذي يجعلهم قائمين على تيار أخطأ الطريق من أوله، وإن كان "أفضل من غيره". حتى أمير جماعة الجهاد السابق سيد إمام، الذي كان قبل انحرافه وخرابه، لا يعدله أحدٌ في علمه ممن في الساحة اليوم، والذي هو من أول وأكبر منظري هذا التيار، إحقاقا للحق، رغم انتكاسه، وإن لم "يدخل على التيار"، بل هو من مؤسسيه الأوائل، في جماعة الجهاد المصرية قبل ذهابه لأفغانستان. هؤلاء وعوا جهاد الأمة ومعناه قبل أن يعيه بعض من ينسبون للتنظير الجهادي اليوم. بل الصحيح أن يقال أنّ مناطات اليوم تغيرت، والأفضل كذا وكذا. كما أن لهذه الدعوة خطورتها وشروطها، كما سنبين إن شاء الله تعالى.

      1. ما هي الحاضنة، وكيف نكتسبها؟

      والمقصود بالحاضنة الشعبية، في تقديري، "تلك الفئة المجتمعية المسلمة، التي تؤمن بالله رباً وبمحمد رسولاً ﷺ وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، ولا تتبنى أراءاً شاذة مثل أقوال الرافضة أو العلمانية، وترى ضرورة إصلاح المجتمع، بلا سلمية". تلك هي أساس الحاضنة التي نسعى اليها. وهذه الفئة، بهه المواصفات، ليست موجودة بالفعل، إلا ما نذر من أفراد منتشرون هنا هناك، لا يمكن تصنيفهم كحاضنة معتبرة كمّاً. والشعوب اليوم، بما هي عليه، لا تصلح أن تكون حاضنة للعمل الإسلاميّ، بل هي تصلح أن تكون مجالاً للعمل على إصلاح ما اعوجّ في فهمها "للإيمان" و"التوحيد" و "طاعة الله" و"فساد الحكام بما لا يمكن إصلاحه"، و"مفهوم الحياة الآخرة"، و"مفهوم العزة والاستعلاء والكرامة"، ثم "الوعي بالمؤامرات الداخلية والخارجية وربطها بواقع الناس عملياً".

      ولابد هنا أن نعي حقيقتين على الأرض، أولهما: هي أن الاتصال "بالأمة"، لإنشاء الحاضنة، صعبٌ بل غاية في الصعوبة. فالعامل للإسلام اليوم محصور في واقع معين، مُحاصر حصاراً شديداً، داخلياً وخارجياً. بل إن حرية الدعوة قد كادت أن تنتهي كلية في أنحاء البلدان المسلمة، إلا ما كان خادماً للنظم المحاربة للإسلام، ومعيناً على هدم الإسلام نفسه، كما في المؤسسات الدينية بمصر وجزيرة العرب. وبدون الدعوة، لا اتصال ولا حاضنة. والثانية هي أن الحاضنة تتشبع يومياً، بل كل لحظة"بل مكر الليل والنهار"، بما يُضاد المكلوب أن تعيه لتصبح حاضنة حق، لا باطل، وذلك من خلال الإعلام العلماني الموجّه، والإفساد المستمر "فسحروا أعين الناس واسترهبوهم"، من خلال الدعاية للفساد، وشيطنة الحق.

      فالأمر ليس سهلاً على الإطلاق. وعلى أولئك الذين يدعون تياراً معيناً، أو جماعات بذاتها أن تتصل بالأمة وأن تحول جهادها لجهاد أمة أن ينظروا قليلاً في القدر العمليّ الممكن تحقيقه، من خلف الشعارات والمفاهيم النظرية، إن كاوا يريدون للأمة خيراً.

      فصل: العلاقة بين الأمة والجماعة:

      هنا يجب أن يقف الباحث قليلاً لينظر في تلك المصطلحات التي صارت جزءاً من واقعنا، وأصبحت تتردد على ألسنة الشرائح المختلفة (جماعات، مشايخ، عوام، إعلام ...) بمعانٍ متعددة.

      وما يهمنا هنا هو ما يخصّ تلك المصطلحات في الوعيّ الإسلاميّ، سواء عند التيارات الإسلامية أو مشايخ تلك التيارات.

      فالأمة هي "تلك الجماعة الكبيرة، التي تنتمى للإسلام السنيّ، بما قد تحويه من تشوهات عقدية، قد يكون فيها، بل فيها واقعاً، ما هو مناف للتوحيد الذي نزل به محمدٌ ﷺ، بل البدع الكلية التي تخرج منها الفرق، طاهرة ومختفية، والفساد والمجون الذي يشيع في أرجائها، جنباً إلى جنبٍ مع صوت الآذان المرفوع، وصحون الإفطار الموضوع"!

      الشعب: وهو "التجمع العرقيّ على أرض محدودة جغرافياَ، ينتمي أغلبه إلى الإسلام". والحق أن "الشعب" مصطلح قد لفظته بعض الكيانات الإسلامية، في أدبياتها على الأقل، كردّ فعل للإنشقاق والتحلل المقابل في الوحدة الإسلامية وبعد انفصال الخلافة. وهو مصطلح ورد في القرآن الكريم "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" بنفس المعنى العرفيّ الذي ما زال إلى اليوم. وهو مصطلح غير مرفوض شرعا، إلا إن صاحبته حركة "شعوبية"[4] كما رأينا في العصر الأموي والعباسيّ، التي تعني "القومية" بدرجة ما في لغة العصر. وقد زادت الحساسية في استعمال الكلمة مع جيل "الثمانينيات" العلميّ، أي الذي ظهر على الساحة في الثمانينيات، والذي تضخمت لديه بعض المفاهيم وانحسرت بعضها، ثم شابوا عليها إلى يومنا هذا. وقد وُجدت الشعوب على مرّ التاريخ، فعُرت مصر والمصريين، والشام والشاميين، والعراق العراقيين والمغرب الإسلامي والمغاربة، كما نُسب العلماء إلى مساقط رؤوسهم بلا تحسس، فابن تيمية الحراني، والسيوطي المصري وابن حزم الأندلسيّ، والحافظ العراقيّ وهكذا ..

      والحاضنة هي، كما سبق أن عرّفناها هي "تلك الفئة المجتمعية المسلمة، التي تؤمن بالله رباً وبمحمد رسولاً ﷺ وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، ولا تتبنى أراءاً شاذة مثل أقوال الرافضة أو العلمانية، وترى ضرورة إصلاح المجتمع، بلا سلمية".

      والجماعة هي "تلك القلة المختارة، التي دخلت طوعاً في تنظيم ما، له أهدافه، ومقاصده، وتصوراته، ووسائله، الجزئية والملية، بالنسبة للعمل الإسلاميّ، حسب تعريف العمل الإسلامي في قاموسها الخاص". والقلة هنا، هي قلّة نسبية إلى الحاضنة، ونادر بالنسبة للأمة، أيّا كانت تلك الجماعة.

      تلك هي التعريفات التي يجب أن نتعامل على أساسها، حين نناقش قضية العمل الإسلاميّ وتوحيده جهوده.

      أربع طبقات، تمثل أربعة متغيرات سواء في الفهم أو في التوجه أو في وسيلة التعامل معها. ويخطأ خطئأ جسيما من لا يفرق بين الأربعة، في أي نقاش أو حديث عن الأمة ودورها، كما هو شائع في هذه الأيام على الخصوص.

      فالأمة كيان متشعب متراكب، ينتمى إلى ثقافات وبيئات وعادات وتقاليد ولغات عديدة، وهي مركزة في الشرق الأوسط حتى المغرب غربا، وفي الغرب الأسيويّ والوسط حتى التركستان شرقا، بلا انقطاع إلا بلاد المجوس الإيرانية الفارسية، والكيان الصهيوني الحديث في فلسطين. فالحديث عن توحد العمل الإسلاميّ في الأمة، بهذا المعنى، أمرٌ خياليّ لا يصلح اساساً في عصرنا هذا بأي درجة من الدرجات، لحالة التشرذم والضعف والتفتيت التي تعيشها تلك الأمة لانعدام الدولة المحورية المركزية.

      أمّا الشعب، فهو فيما أحسب، المجال الطبيعيّ للعمل على اكتساب الحاضنة. ولا يجب أن يفوتنا أن الشعوب فيها أقليات دينية وعرقية أخرى، تسبب إشكالات في طريق العمل الإسلاميّ، مثل الأقلية النصرانية في مصر، والأقليات النصيرية في الشام، والرفض في العراق، والأكراد، كعرق في العراق. وتتفاوت قوتهم من بلد لآخر حسب عوامل تاريخهم وعلاقتهم بالحكام.  لكن، الحاضنة، يجب أن تنشأ في كلّ شعبٍ على حدة، ومن غير المتصور أن تنشأ حاضنة عامة، إلا من تلك الحاضنات الشعبية المختلفة، لما بين الشعوب حالياً، بوضعها الثقافي من آثار قومية ونعرات وطنية مقيتة، بل وعدم ثقة في كثير من الأحيان.

      أما الجماعة، فهي الطبقة ذات الشأن الخاص في هذا الأمر كله. ومفهوم الجماعة، من الناحية الاجتماعية، هو قديم قدم بني آدم. فإننا إذا نظرنا إلى "الجيش" وجدنا أنه "جماعة معينة، منظمة، قام المجتمع بإنشائها وتمويلها، وعمل لها كحاضنة، لتقوم بمهمة دفع الصائل عن بلاده خاصة". فالجيش جماعة أولاً وأخيراً، لكنها في مجال أرحب، وأكثر قبولاً.

      كما أنّ جماعات الحسبة في الإسلام قديم قدم الخلافة الإسلامية كلها. بل وجماعات الجهاد ذاتها ترجع في العصر الحديث إلى أيام فيصل الدويش رحمه الله (ت1931) وجماعة "إخوان من أطاع الله"، التي غدر بها الغادر عبد العزيز بن سعود، وأوقف تقدمها للجهاد في العراق لصالح حليفته بريطانيا.

      ثم تكونت أولى الجماعات في مصر، وهي الجمعية الشرعيةة على يد العلامة محمود خطاب السبكي رحمه الله، وبعدها مباشرة جماعة الإخوان المسلمين في مصر على يد الإمام حسن البنا رحمه الله. وكانت الجمعية الشرعية ذات طابع علميّ شرعيّ، لا سياسي، بينما كانت جماعة الإخوان جماعة سياسية، تُعني بكافة مناحي الحياة، كما وصفها مؤسسها. وهي، فيما نعرف الجماعة الوحيدة التي، بسبب الظروف التي نشأت فيها، كانت شديدة الارتباط بالشعب، والحاضنة الشعبية. كما أنها تمددت فروعها لبلاد أخر خارج مصر، وعلى رأسها الشام بقيادة العلامة مصطفي السباعي رحمه الله. وكانت الإخوان في تلك المرحلة تتمتع بذراع عسكريّ قويّ، أرهب الديكتاتور عبد الناصر، ودفعه لمحاولة القضاء عليها، والذي نجح فيها إلى حدٍ كبير، من حيث انتقل بها إلى طورها الثاني[5]، وهو طور تنحية فكرة الجهاد جانباً، مع الاحتفاظ بشعاره،، الذوبان في الأمة، والانفتاح عليها، بما في ذلك دخول المعتركات السياسية العلمانية التي سادت بلاد المسلمين بعد الحرب العالمية الثانية.

      ثم كان التغيير السياسيّ الأكبر، عقب اغتيال النقراشي باشا في مصر، ومن ثم اغتيال حسن البنا رحمه الله، ثم محنة الإخوان في الخمسينيات بعد غدر الهالك عبد الناصر بهم، ثم الانفصال الفكريّ بين سيد قطب رحمه الله وبين الإخوان في عهد الهضيبي، ثم بزوغ عصر "السرية" في العمل الإسلامي، نظراً، لطبيعة المواجهة الشرسة من الأنظمة المحلية والعملية، فكان من الطبيعي أن تحدث الفجوة بين الشعب، محل الحاضنة، وبين الجماعة. لكن لم يكن هذا، كما حاول البعض تصويره، نتيجة تقصير أو ذهول عن أهمية هذا البعد، أو إنه وليد إشعاعة فكرية مُحدَثة!

      أما وقد عرفنا معاني المصطلحات السائرة في مجال العمل الإسلامي اليوم، فإنه يمكن أنّ نحدد وسائل تنمية "الحاضنة" واكتسابها. وبقليل من النظر يمكن أن نجرّد ذلك المفهوم الضبابيّ الذي يتحث عنه البعض اليوم، عن "جهاد الأمة" منعود به إلى أصله البسيط، وهو توسيع دائرة الدعوة بكافة مجالاتها بين أبناء "الشعب" لإدخال أكبر عدد ممكن منه في "الحاضنة". لا أكثر ولا أقل، دون انبهار وذهول بكلمات لا تحمل معنى تطبيقيا حقيقيا.

      وأول نتيجة لما قلنا هي أنه "لا يمكن الاستغناء عن دور "الجماعة" المنظمة، لصالح ما انتفخ حديثا عن جهاد الأمة، فكلاهما له دوره وحدوده وشروطه.

      فالأمة، يسمح فيها بكل ما هو منتسب للإسلام، سنيّ تقيّ، أو فاسق، أو عربيدٌ أو برّ أو فاجر، كما هو في كل شعب من شعوب الأمة. لكنّ الحاضنة، تضيق نطاقاً عن ذلك، فتتميز بالخلو من الفسق الظاهر، وإن لم يتحتم عملها بالهدي الظاهر، وتقل فيها نزعات الفجر والظواهر الشركية كسبّ الدين والمداومة على ترك الصلاة مثلاً. كما أنّ الحاضنة لا تكون من اتجاع فقهي محدد، أو شعبة عقدية معينة، بل تشمل السنيّ والأشعريّ. أمّا المرجئ والمعتزل، فهما بطبيعة الحال ضد التوجه التغييري أصلاً، بل هما وجهان إصلاحيان، بل غالبهما من يرفض الجانب الجهاديّ من العمل الإسلامي، بل يحاربه ويمنعه. فلن يكون حاضنة لعمل إسلاميّ متكامل يوما، يمكن أن يُطلق عليه "جهاد أمة"، إلا في مخيلة بعض المثاليين في أبراجهم العاجية. هذا إلا إن تغيرت معالم تلك الفرق التي نراها اليوم، مثل متميعة الشام والإخوان، وتركوا مفهوم السلمية، والديمقراطية التي تؤدي إلى خضوعهم للعدو خضوعا مباشراً، بل وحربهم على العمل الإسلاميّ المثمر، والخادم للهدف الذي حددنا في النقطة الأولى.

      ويمكن النظر إلى ذلك من خلال هيكلية معينة تُعني بتحديد المطلوب من قيادات الجماعة وأفرادها، كالتالي:

      1. القيادة
      2.                                                    i.     خطاب الأمراء
      3. تحسين الخلق، مراعاة الله سبحانه، موضوع المال والتعامل معه، السجون...
      4. الأفراد
      5. نفس موضوعات القيادة، لكن على مستور الفرد، علما بأن الفرد هو من يقوم بالتنفيذ، وأن الأمير مثال للفرد
      6. أنواع الخطاب  
      7. محاضرات، منشورات، مكتوبات، صوتيات، دورات تدريب من متخصصين لا هواة
      8. الأجهزة العاملة
      9. أجهزة نشر الدعوة في كلّ من المجالات السابقة، وقد تكون كلها تحت مظلة هيئة واحدة بها متخصصون ، سواء إداريا، ماليا، دعويا لاختيار المادة التي يشرف عليها علماء.
      10. ما يخص الحاضنة واستثمارها
      11. بشكل عام
      12.                                                    i.     منشورات دورية نصف شهرية، تصف الوضع القائم
      13.                                                   ii.     دورية ربع سنوية تلخيص الجهد في الربع المنتهي، وتشمل أي تغييرات هيكلية مسموح بها للعامة، أو توقعات للبرع القادم دون مساس بالأمن، مثل التعليم، المرور، السلع ....
      14.                                                 iii.     مجلة شهرية تعنى بتوضيح المفاهيم دون توغل علمي أو كثرة نقولات ..(هؤلاء ليسوا طلاب علم، بل عوام).
      15.                                                 iv.     صوتيات دورية يقوم بها خطيب متخصص بالخطابة، يتغير مكان تسجيله دائما للأمن)، بصيغة حماسية شرعية
      16.                                                   v.     دورات توعية عامة.
      17.                                                 vi.     منشورات تعقب أي حدث يقع لإيضاح سببه ونتيجته، والاعتذار عن أي خلل أو تجاوز، بصراحة وشفافية
      18.                                               vii.     وضع لوائح محاسبة وأجهزة تتلقى الشكاوى، وتتعامل معها بجدية، دون خوف أو تردد، وتكون اللوائح معلنة على الناس

      هذا ما يمكن أن يوسّع دائرة الحاضنة. وهذا العمل يحتاج إلى تنظيم، من ثمّ إلى جماعة تقوم به، في ظلّ الظروف الحالية، المحلية والعالمية.

      ومن هنا يأتي دور الجماعة. وهو دور مركزيّ محوريّ اساسيّ لا يمكن الاستغناء عنه بتلك التوهمات النظرية التي ينزع اليها البعض.

      نعم، يجب اعتبار الأمة عامة، والشعوب خاصة،عند الحديث عن تغيير أو استبدال أو حراك، فإن الأمة هي الأكبر والأوسع، والشعوب هي المنوطة بالتغيير، والمقصودة به على حدّ سواء. لكن، التفرقة التي وضعنا هي أساس نجاح أي تغيير أو استبدال أو حراك، بيقين. فلكلٍ مستو، الأمة والشعب والحاضنة  والجماعة، يعمل منه ويُخرج ثماره فيه، وهم لا يجتمعون، إلا في نقاط محددة، هي حدّ كل منها ومجاله.

      1. مع من يصلح التوحد والتجمع؟ ومن هم أصحاب الجهد الإسلاميّ الفعّال المقصود؟

      الجماعات الموجودة على الساحة، متعددة الأهداف والوظائف والتشكيلات. والحديث عن الجهد الإسلاميّ، كما بيّنا، يختص بالجماعة، لا بالأمة عامة، ولا بالشعب، بل ولا حتى بالحاضنة، التي هي عامل مساعدٌ وركيزة ترتكز عليها الجماعة، في توجيه أعمالها. مثلها كرأس الحربة، أو فوهة المدفع، فالحربة لا تندفع لتصيب عدوا في مقتلٍ إلا بيد رامٍ ماهر، كما أن فوهة المدقع لا تنطلق عبوتها إلا بعد توجيه رامٍ دَرِبٍ محنك، يصيب وسط العدو فيغلبه على أمره.

      والجماعات التي تهمنا في هذا البحث هي الجماعات الشمولية، التي تعمل في كلّ حقول الدعوة، أو جلّها، وتحاول أن تصل إلى الهدف المنشود الذي وصفنا في البند الأول.

      وقد أجبنا في ثنايا ما ذكرنا، بشكلٍ جزئي، على هذا التساؤل. فإن الهدف المشترك، يحدد طبيعة من يصلح للعمل في سبيله. فإنه من الصعب مثلاً، أن تعمل على ضمّ جماعة مثل التبليغ والدعوة إلى تشكيل يسعى لإقامة حكومة مركزية، إذ هذا الهدف ليس في برنامج التبليغ والدعوة، بل قد يكون مناعهضا لهدفهم. كذلك الجمعية الشرعية في مصر، أو جماعة السنة المحمدية، وهي جماعات تهدف إلى التركيز على فرعٍ واحد من فروع الدعوة، دون النظر إلى الصورة العامة والإطار الكامل الذي يجب أن يعمل فيه الإسلام، ويؤتى ثماره.

      وإخراج تلكم الجماعات من مجال بحثنا لا يعني أن تهمل أو أن يغضّ البصر عن جهدا، بل هي في حقيقة الأمر جزء من الحاضنة المطلوب تطويرها وتوسعة دائرتها. ولكن المشكلة في أن قيادات تلك الجماعات تنأى بنفسها عن أي تجمعٍ يسعى "لتغيير" الواقع من حيث إنه يصير هدفاً للعدو الداخلي والخارجيّ. لكنّ "الدعوة" و"الدعاية" لأهمية التكامل قد يفرض على تلك القيادات أن تتساهل في التواصل مع غيرها، خاصة وقت الحاجة للحاضنة.

      وتصنيف الجماعات التي تعنينا هنا كالتالي:

      1. الجماعات السنية التي تتبنى الجهاد كآخر الدواء، وهي التي يسمونها "جماعات الجهاد" أو "التيار الجهادي"، وأكبرها طالبان، والقاعدة، وهيئة تحرير الشام في سوريا وبعض جماعات في تركستان وباكستان والشيشان، وعدد من الدول السوفيتية المنفصلة.
      2. الجماعات التي تتبنى "الحل الديمقراطي" وأكبرها الإخوان المسلمون، وحركة أحرار الشام، وبعض تجمعات سورية مثل جيش الرياض والجيش الحر.
      3. الجماعات التي تتبنى حلولاً ضبابية مثل حزب التحرير، الذي يتبنى إقامة الخلافة، والشكل الديموقراطي على السواء! 
      4. الدعاة المستقلون: ثم لا ننسى اتجاها هاماً، ممثلاً في دعاة فرادي، لهم جماهير عريضة، يحملون فكراً، غير واضح المعالم، كما سنفرده بالإيضاح بعد.

      وتجميع الجهد بين تلك الجماعات، لتوسيع دائرة الحاضنة، وإشراك الشعب، وتوعية الأمة بالطريق، هو من أصعب الأمور وأشقها. بل أكاد أجزم باستحالته في بعض الحالات.

      فكيف تجمع بين من يرى أن جهاد العدو الداخليّ، ودفع الصائل الخارجيّ لم ولم ينجح إلا بتبني الجهاد، وأنّ أية مفاوضات ومؤتمرات سياسية لا يمكن أن تكون لها ثمرة قبل التمكن النوعي على الأرض، دون مدّ اليد للداعم المعتدي نفسه، ظاهراً أو باطناً كان عدوان الداعم، مع من يرى أنه لا حلّ إلا بتبني شكلا ديموقراطياً، يرضى عنه العدو نفسه، بل يتشكل في رواقات وساحات فنادقه وأبنياته، وأنّ ذلك الخلفية العقدية التي تصدق فيها الجماعة مع نفسها، وتتخذها منهجا حقيقيا عمليا تطبيقياً؟

      وسنن الله سبحانه تأبى أن يجتمع الضدان، في كوننا الحاضر. فكيف يمكن الجمع بين هذين التجمعين، وهما مختلفان 180ه؟ رأينا، كمثال، في الشام، هذه الاستحالة حية شاهدة على مصداق ما نقول، بلا أوهام أو أمنيات أو تنظيرات لا محل لها من الإعراب! كتجريد الحديث عن "جهاد الأمة!!؟؟".

      غرضان متناقضان، يحملهما قادة مخلفون في مشاربهما ومقاصدهما ووسائلهما. والهدف هنا هو المتناقض لا الوسيلة. فإن هدف التجمع الي يجعل الجهاد أحد مركباته العقدية، لا يرضى بدولة ديموقراطية مهما كان شكلها أو لونها أو صيغتها، إذ يعلم أن العلمانية منتهاها ومثواها. والتجمع الثاني لن يقبل بجهاد حقيقيّ ضد عدو يراه بالفعل أكبر وأعظم من أية قوة مهما حملت من عقيدة، وبعد أن تم كسرُ أنفه بالمال خاصة، ليقبل بأنّ الحل الديموقراطي، مع ما يحمل من شرك في التشريع، هو الحل الأمثل، مع مبررات كثيرة، تصلح لخدمة توجهاته، لا لتوجهات غيره.

      1. ما الحل؟

      ما الحلّ إذن؟ كيف نسعى لتوسيع دائرة الحاضنة، إذ نؤمن إيمانا مطلقا بأنه من غير حاضنة ملائمة ومناسبة، فالنصر لن يكون، كما رأينا في سيرة رسول الله ﷺ. وكيف يمكن التعامل مع جماعات التوجه الديموقراطيّ عامة؟

      كما وصلنا في بحثنا، إلى

      1. أن لا بديل لوجود جماعة منظمة تأخذ على عاتقها توجيه الحاضنة وتوسيع قاعدتها المتعاطفة المتفهمة. وأن تلك الدعوة النظرية التي انتفخت في هذه الأيام، تقلل من شأن الجماعات، لحساب الأمة، هي دعوة في رأس أصحابها لا تزيد. فالجماعة هي الوسيلة، كانت وستظل، وهي المركب الأساس للعمل، أي عمل، سواء للدنيا أو للآخرة، للدين أو الإنشاء والعمارة. وما الشركات والمؤسسات إلا جماعات عمل لها مهمة خاصة.
      2. أنّ العمل على توحيد الجهد، عملياً، لا على الورق، يكون على محاور:
      3. شرح الأهداف والوسائل بطريق جامع صحيح، بأسلوب مبسط يلائم الجمهور اليه الحديث، دون الإخلال بما هو في حدود السرية المطلوبة، بل والمفروضة، في العمل الإسلامي.
      4. العمل على استقطاب الفريق الأصح والأحق، لأتباع الآخر بطريق الدعوة، ودون سفك الدماء، بأن يعاملهم بانفصال عن قادتهم، فداء القيادة يكاد يكون لا دواء له، كالحماقة. وهؤلاء التابعون هم مادةُ حاضنةٍ على أقل تقدير. وانظر ما فعل تنظيم الحرورية، حين نشر مذهبه البدعي في التكفير تحت غطاء شعارات وكلمات سنية واستعمال نفس تركيبات التوحيد السني، إلا أنه تجاوزها وراءه عند التطبيق، لكن هذا التكتيك، قد جعل العديد من السنيين، سواء من الدعاة الفرادي أو شرائح في جماعات عاملة، تتوقف عن حربهم، بل وتنشق عن جماعاتها السنية لتكون مكونا في ذلك الجسد السرطانيّ، مثل جند الأقصى.
      5. تطوير منهج مفصّل حسب آليات منظمة، للوصول إلى الحاضنة، كما عرّفناها بوضوح، لا بالمعني التجريديّ العام الذي يسميه البعض "الأمة".
      6. تبني المفاهيم الاصطلاحية التي تُعبّر عن حقائق ثابتة، كما فصّلنا في التمييز بين مستويات العمل الأربعة، ليكون الجهد مثمراً، لا ضائعا.
      7. أن تنفتح الجماعة على من هم من خارجها للإستفادة من خبراتهم، سواء العملية أو الدعوية، وتجعلهم جزءاً من هيكلها "غير التنظيميّ". فمثلاً أرى أن لا نتيجة سديدة ترجى من العمل في سبيل ترسيخ الحاضنة إلا بأداء خدماتيّ عالٍ، يجعل الحاضنة تشعر بالفرق بين ما تقدمه الجماعة وما هو عليهم حالهم بدونها. وهذا لا يكون إلا بالاستعانة بمتخصصين، من وسط الحاضنة، أو مادتها الخام من أبناء الشعب، في علم الإدارة، وعلم الاتصالات، وتطوير المناهج التعليمية، وكافة التخصصات، على المستويين الأكاديمي والتطبيقي، وما أكثرهم في بلادنا وفي بلاد المهجر. وأن يكون المتخصص، على درجة عالية في تخصصه، وأن يكون مادة قابلة لمفهوم العمل في الحاضنة العامة.
      8. استغلال الدعاة المستقلون: وهذه الطبقة من الدعاة، لها ميزات كثيرة، وإن كانت لها عيوب ظاهرة على السواء. فمن مزاياها اتساع رقعة المستمعين والمتابعين والقراء. وذلك من حيث أن ما يقولون قليل التكاليف (أي المعنوية)،  وسهل الفهم، فغالبهم، من المصريين مثلاً، يتحدث بالعامية، ويفيهم ظرف وخفة معروفة. وكذلك تجد الدعاة من الجزيرة، ولهم قاهدة استماع أكبر وأوسع انتشاراً، نظراً للنفسية العربية الحديثة التي أعطت صاحب الغترة والجلباب الخليجيّ رصيدا زائداً، فمنهم من يستحق ومنهم من لا يستحق. وكذلك الدعاة في المغرب وتونس، وإن قلةا عن دعاة الشرق العربي في هذا الوقت، بعد انهيار ما أسموه الربيع العربي.

      وهؤلاء الدعاة بسطاء في دعوتهم، ليس لدى غالبهم علم شرعيّ مكين، إلا قدرة على الخطابة والحديث وفن الوصول إلى قلوب الناس. فهم من هذه الناحية أقدر على استجلاب الحاضنة. والعيب هنا هو أنهم غالبا ما تجدهم محليين في حديثهم، فالمصري يتحجث عن مصر، والمغربي يتحدث عن المغرب، والخليجي يتحدث عن الكلّ دون ذكر أي أحد! فلا تدرى ما يريد.

      ثم ترى هؤلاء المستقلون، ومنهم من في المهجر، بأوروبا أو أمريكا، أو في بلد شرقيّ كتركيا أو قطر، ينأؤون بأنفسهم عن التيار الأول، الذي يحمل فكرة الجهاد كحلٍ مطروح، كلهم بلا استثناء، وعن الشخصيات التي تمثله أو عُرفت بتمثيله. ثم تراهم بعد ذلك يميلون إما لتيار الإخوان أو الحرورية، أو يميلون اليهما معا، وهو ما لم استوعبه حتى هذه اللحظة! ولا أعتقد هذا إلا لضعف معلوماتهم عن أحد التيارين، أو سلامة النية فيهما، أو ما شئت من سبب، إلا أن ذلك هو الواقع الغريب. فتجد أحدهم ينتمى للإخوان أو "لأهل الحديث" أو للسلفية (غير الجامية المدخلية أو البرهامية بالطبع، فهؤلاء عملاء صرف لا خير فيهم) فكرا وعقلا وروحاً، ثم يتعاطف مع دولة الحرورية على أنها تحمل حقاً! وتجد من هؤلاء مصريون وسودانيون ومغاربة وخليجيون وأرادنة.

      لكن التقرب لهذه الفئة، واستغلال شعبيتها في الترويج لفكرة إسلامية تعين على تصحيح وضع ما، هو من المطلوب، بل المرغوب.

      والله أسأل أن أكون قد قدمت جديدا، وتحدثت رشيداً، فمنه الفضل وعليه التكلان.

      د طارق عبد الحليم

      5 مارس 2017 – 7 جماد ثاني 1438


      [1] راجع مقالاتنا عن التمكين http://tariq-abdelhaleem.net/new/ArticalList-138 بتوسع

      [2]  ولا نعرف من كفّر حماس كطائفة، إلا أن يكون عصام البرقاوي، وكذلك الشيخ السباعي إنما تحدث عن هؤلاء قوانين مدنية علمانية وضعها بعض المنتسبين لحماس!

      [3] وقد رأينا بعض المشايخ ممن لهم قدر واحترام، وممن كان لهم تاريخ في نصرة فرقة معينة معروفة بالتكفير لقترة، ينكر ويوجه التيار الجهاديّ بأنه يكفّر حماس! لو قال هؤلاء المشايخ إنهم عرفوا وتبينوا أوعدّلوا وتعدّلوا، دون الإيحاء بأن قادة الجهاد وعلمائه كأنهم "كمسارية جهاد" لكان أفضل ...!!

      [4]  والشعوبية قديما اختصت بالتفرقة بين العرب والعجم، وأنشأها الفرس، لكنها حملت بذور شعوبية اليوم التي اتسعت لتشمل كافة الأعراق والأجناس.

      [5]  راجع بحثنا "الإخوان المسلمون في نصف قرن" http://tariq-abdelhaleem.net/new/Video-391، وبحثنا "بعدأن انقشع الغبار" http://tariq-abdelhaleem.net/new/Artical-72579

      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

      نقدم البحث في صيغة pdf

      هل يمكن توحيد الجهد "الإسلامي" لإخراج الأمة من مأزقها التاريخيّ؟