فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الجامع في مسائل الخلاف والاختلاف في الساحة الشامية

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، المحمود على كل حال، وبكل لسان ومقال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      مضى عام بالتمام والكمال علي يوم أصدرنا، مع أخي الشيخ الفاضل د هاني السباعي بيان البراءة والمفاصلة. ومنذ ذلك الوقت حدثت أمور كثيرة في الساحة الشامية من تنازع كثير وتواصل قليل، بين الفصائل. كما انكمشت دولة السامرائي وتوقف "تمددها". وأصبحت حركتها أقرب لمحاولة البقاء والاستمرار منها إلى أي شئ آخر، خلاف ما وعدت به حوارييها وأتباعها. كذلك أصبح الغزو المجوسي للعراق أمراً مشهوداً، وأصبح قتل أهل السنة هناك خبراً يومياً يصحو عليه الناس وينامون على مثله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كما بدأ الغرب حملته على ضرب رؤوس أهل السنة، وتقليم أظافر العوادية السامرائية. كما كثفت الدول الصليبية من عنفوان ضربها لقيادات أهل السنة في اليمن، مع بدء ما أسموه عاصفة الحزم. والحق إن هذا العمل العسكري عمل موجه للتمدد الحوثي في اليمن خاصة، لا لغير ذلك، ولا أثر له على الساحة الشامية كما يظن بعض أهل السذاجة ممن لم يتعلم دروس التاريخ وعبره، ويتحقق من سياسة حكام العرب ومقاصدهم. بل قد صرّحت السعودية بأنها ليست في حرب مع إيران، بل مع الارهاب في اليمن!

      الخلاف مصدره "خالف" أي باين وفارق ونازع وخاصم، والاختلاف مصدره "اختلف" وهو المباينة والمفارقة كذلك. والفارق بينهما هو أنّ الاختلاف يقع في المذاهب والآراء، بينما الخلاف يقع بين من يقول بالمذاهب والآراء، فالأول موضوعي والثاني شخصي. قال تعالى "لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" أي في مذاهبه وآرائه، ولا يصح أن يكون "خلافاً كثيرا" لغة. كذلك قال تعالى " فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ".

      وعلى كل حال، فقد رأينا من الخلاف والاختلاف الواقع في الساحة ما يجب توثيقه لغرضين، أولهما، غرض مستقبلي تأريخيّ لضمان شهادة التاريخ. والثاني، غرض حاضر آن، وهو بسط المسائل أمام الأطراف المتنازعة ليمكن حصرها وترتيب أولوياتها ومن ثم التعامل العاقل المتدرج معها.

      وسننحو في هذا المقال إلى النظر في المسائل "الخلافية" من الناحية العقدية، والشرعية التطبيقية، كما في النظر السياسي والاجتماعي. ثم نتبع ذلك بما نراه ضروري في هذا الصدد.

      الخلاف العقدي:

      بدأت الفصائل كلها في الساحة الشامية، وقبلها العراقية، من منطلق سني، بشكلٍ أو بآخر، وإن شابه بعض الإرجاء، وبعض الغلو كذلك. إلا أن الاتجاه العام كان هو المنحى السنيّ الذي يحارب الرافضة والمصيرية.

      إلا أن هذا المنحى لم يستمر على ذلك، فبدأت تظهر خلافات عقدية عميقة الأثر، سيئة النتيجة، أدت إلى ظهور جماعات منفصلة تحمل عقيدة خربة، سواءً في ناحية الارجاء أو الحرورية.

      تنظيم "الدولة":

      ولسنا معنيين هنا بمناقشة الفكر الحروري ذاته، واختلافه مع الفكر السنيّ، فقد ناقشنا ذلك من قبل في مقالات عديدة، كما أوجزناه في بيان البراءة والمفاصلة، وبيان عقيدة دولة البغدادي. لكن يكفي هنا أن بثبت ما قلناه سابقاً من أن "من كفّر ولم يقاتل فهو غالٍ، ومن قاتل ولم يكفّر فهو باغٍ، ومن كفّر وقاتل فهو حروري". وفي هذا المبدأ كفية وغناء عن كثير من الشروح.

      والحق أنّ توثيق انحراف هذا التنظيم ووقوعه في المنحى الحروري، فكراً وتطبيقاً، ليس معروفاً بشكلٍ محدد. بل يمكن أن يقال أنه قد تسرب تدسّساً منذ أيام أبو عمر البغدادي رحمه الله، من كواليس تنظيم "دولة الإسلامية في العراق"، وعلى يد الأنباريّ والبغدادي. منا ليس معروفاً إن كان ذلك باتفاق مسبقٍ مع قيادات بعثية منذ وقتها. إلا إن القيادات البعثية التي التحقت بالتنظيم بعدها، وقادته عسكرياً، قد استفادت من هذا التوجه تمام الاستفادة.

      وهذا الخلاف، يكمن في تكفير المخالف، وإلباس بعض التصرفات، إما تصرفات طاعة أو معصية، لباس الكفر والردة، ثم استحلال الدم الحرام بناء على ما ذهب اليه الحرورية العوادية. وقد أدى هذا إلى قتل الكثير من رؤوس الجهاد في الشام، وتشريد آلاف العائلات، وشق صف الحركة الجهادية ضد النصيرية، ومن ثم أدى إلى عكس المقصود. فإن القصد من دعوة "الدولة" و"الخلافة" هو توحد الكلمة وجمع الصف. لذلك فإنه لا يجب أن يدّعيها مُدعٍ قبل أن يأخذ رأي أهل الحلّ والعقد الحقيقيين الذين يمثلون الناس في المناطق التي يدّعي التمكن فيها، لتجنب حدوث ما حدث. فقد أخذ السامرائي مبايعة "أهل حل وعقد" في قرى عراقية، لا يعرفهم أحد، ولا يحلون ولا يعقدون خارج دائرة قراهم، ثم انطلق يقتل من يقف في وجه "بيعته" ويرميهم بالردة والكفر والولاء للكفار ومعاداة الإسلام، وكأنه هو الإسلام! وما للشام ولمصر ولغيرهما في ذلك أهل حلّ أوعقد. فما كان من جرّاء مخالفة مقصد الشارع من قواعد البيعة والإمامة إلا الهرْج والقتل وانشقاق الجهد، واندحار القوى.

      والضروري اليوم هو كشف عوار المذهب الحروري، وخطورة مآلاته، التي شهد بها الواقع بالفعل. فهذه العصبة مكتوب عليها الفناء، إنما الأمر أمر وقت لا غير. وقد استدرجت الساحة في الشامم بالفعل إلى مستنقع خلافٍ وصراع يكاد يحسم صراعها مع بشارٍ لصالح النصيرية. ولا نرى أنّ أيّ حوار مع هؤلاء يجدى ولا وزن قطمير. فهذا كما لو حاورت الرافضة في الأئمة الإثني عشر، أو الصهاينة في قدسية أرض المعاد في فلسطين. فهؤلاء الحرورية قد انطلقت سفنهم من مرفأ الخوارج مولية شطر أعماق الشقاق والقتل تعاكس رياح السنة، وتضاد السنن الإلهية في النصر، بقصر النظر في رؤية النتائج السريعة الطارئة. ولعل الغرض من نشأة ذلك التنظيم قد تحول عقيب مقتل أبو عمر البغدادي، بفعل البعثية إلى فرض سيطرة في الشام، لتكون موظئا احتياطيا إن فُرض عليهم مغادرة العراق. لذلك فقد استحر القتل على أيديهم في الشام أكثر بكثير من العراق، رغبة في تطويعها واستسلامها لغزوهم لها. ولا يغرنك مقولة حدود سايكس بيكو، فوالله قد كانت العراق عراقا والشام شاماً قبل أن يولد سايكس أو بيكو بعشرات القرون! هي شعار للمغفلين ليس إلا.

      ولن نجزم هنا بكفر أو ببدعة في الشأن العواديّ، لكننا نؤكد أن كلا الرأيين له أدلته الفقهية والواقعية. ونؤكد أن هذا الأمر يبت فيه العلماء الربانيون دون العامة، حتى لا نقع فيما خالفناهم اليه. وأدلة استحلالهم للكذب وغيره من المفسقات أصبحت معلومة بالضرورة من حالهم. وعلى الحاين، الكفر أو البدعة، يجب قتال تلك المجموعة وأهلاك أفرادها، فمن أصابه ذلك الداء، لا أمل في علاجه إلا ما شاء الله.

      الفصائل العلمانية:

      كذلك ظهر على الساحة فصائل اتخذت مذهباً علمانيا صرفاً، وإن رفعت اسم الاسلام علماً، فقررت أنّ الديموقراطية الغربية هي طريقها إلى الحكم، وعرضت نفسها على الغرب كبديل لبشار، ينفذ مخططهم دون اعتراض. وهؤلاء هم من وقعوا في موالاة حقيقية وانخرمت عقيدتهم وسقط توحيدهم، قصداً ووسيلة، وأصبحوا مطية للتدخل الصليبي بحجة محاربة قوم داعشٍ. ومن هنا استحلوا تلقى الدعم مشروطاً من الغرب، وإن لم يصرحوا بذلك. وعلى رأس هؤلاء قوم جنيف، وعدد من التكتلات العسكرية على الساحة.

      ويجب التمييز عقديا في هذا المقام بين من انعقد قلبه ولسانه على مبدأ الديموقراطية، وبين من تحدث بالديموقراطية كوسيلة للوصول إلى الحكم بشرع الله، مكيدة بالغرب، سذاجة وسخفاً! وهؤلاء الأخر ليسوا علمانيين بل هم متأولون مبتدعون في الوسائل دون المقاصد، وإن كان لهم خطرٌ على الحركة في الشام، من ناحية "إن الله لا يصلح عمل المفسدين".

      وعلى هذا التمييز، رغم دقته، يجب أن ينبني الموقف العمليّ من الفصائل المختلفة وطرق التعامل والتعاون معها. فلا يصح التعاون ولا التعامل مع الصنف الأول، ويصح التعاون والتعامل مع الفريق الثاني بحذر، دون أن يسلم لهم القياد، حتى لا ينحرفوا بالمسيرة. لكن لا يصح قتالهم كما في حالة الحرورية العوادية.

      الفصائل السنية:

      وهي التي بدأت الجهاد في الشام، ولم تتبع القوى العلمانية أو التنظيم الحروري. وهؤلاء لا يرون الكفر والردة بالشبهة، إلا أن يثبت يقيناً ولا يقتلون إلا قصاصاً من قاتل، ولا يرون كفر العوام بجهلهم كما هو مذهب العوادية الحازمية. وهؤلاء قد تجد بينهم غلاة متنطعون، وقد تجد بينهم أصحاب ورعٍ بارد و"أخوة منهج" مع الدواعش. وهذا أمرٌ وإن كان طبيعيّا في الحياة السنية، أعنى تنوع الآراء واختلافها دون تكفير، إلا إنه لا يجب أن يترك ليشيع في مركز إمارة أو إدارة، فإن في هذا تسليم لدفة الحركة لمن هو مصاب بمرض الرعاش! ينحرف بمساره دون أن يدرى.

      الخلاف التشريعي التطبيقي:

      وقد وقع اختلاف كثير في الساحة الشامية، من حيث التأصيل الشرعي والفتاوى والأحكام في أبواب عديدة. وسبب ذلك يرجع إلى جدّة التجربة، وقلة الحصيلة العلمية والعملية، ودور التوجيه العقدي في توجيه الأحكام، ثم البعد الشخصي الذي لا يخلو منه تطبيق في حياة البشر.

      وسنحاول أن نمس المسائل التي دار فيها الاختلاف على الساحة، مساً خفيفاً لإثباتها أولا، ثم يأتي إثبات قولنا فيها والإجابة التفصيلية على هذا المسائل بعد، في الحلقات التالية لهذا المقال إن شاء الله.

      • مسألة نوعية البيعة ونقضها:

      وبالطبع، فإن هذه المسألة كانت الأولى على سطح الخلافات في الساحة، وذلك لما جرى بين السامرائي ابن عواد وبين الشيخ الجولاني أولاً، ثم ما ظهر بعد ذلك حين كشف الشيخ المبجل د أيمن الظواهري حقيقة نقض ابن عواد لبيعته. ثم لحق ذلك واستتبعه ما حدث من تحركات في الصفوف الجهادية بين فصيل وفصيل، فتحرج البعض عن الانخلاع عن بيعته لفريق، رغم ظهور خطله وانحرافه، وخلع فريق بيعته كما يخلع المرء قفازه!

      والحكم العام في خلع أي بيعة هو استواء الطرفين، فلا يقال فيه بحلّ ولا حرمة قبل أن يُعرف نوع البيعة أولاً، ثم يكون حكماً عاماً بالطلب أو الإباحة أو المنع. ويعتمد هذا على ما يصاحب البيعة من شروط في ثناياها. والقاعدة هي كلّ شرطٍ ليس في كتاب الله فليس بشرط. والبعة التي لا يحل، بل يكفر خالعها هي البيعة على الإسلام لا غيرها مهما كانت.

      .

      • مسألة التعاون مع القوى الخارجية العربية أو الغربية:

      من أهم المسائل التي اجتاحت الساحة الشامية هي: هل يصح التعاون مع القوى الخارجية سواء غربية أو عربية علمانية في سبيل تحقيق الإطاحة ببشار؟

      وقد قامت الدنيا ولم تقعد بسبب تعدد الاجابة على هذا التساءل. فبدأ لون من التكفير بالموالاة، وبدأ لون من التصحيح والموافقة للمصلحة. وقاتل صاحب هذا الرأي صاحب ذاك، منهم قتال بغي ومنهم قتال ردة وكفر.

      والحق أنّ الإجابة على أي سؤال شرعيّ يعتمد على الواقع الذي يأتي منه، وعلى الواقع الذي سيطبق عليه. وقد رددنا على هذا الأمر في عدة مقالات من قبل.

      والإجابة العامة المجملة بطبيعة الحال هي الحُرمة. لكن ليس من عاقل يعتمد على إجابة عامة مجملة إلا رويبضة تافه لا علم له. فإن التخصيص هنا هو الأصل لا العموم. فيعتمد الأمر على معنى التعاون أولاً، وشروطه، ومجالاته، ففي هذا تحقيق للمناط العام. ثم إذا تحدد هذا بتفاصيله، وجب النظر في كلّ حالة على حدة، لتحقيق مناطها الخاص. وهذا الأخير يستلزم معلومات دقيقة عن تطبيق المتهم بمثل هذه التهمة لما هو خارج عن الحدود المرسومة في المناط العام، فإن كان، فيجب أن يتحدد هل ذلك لاستثناء محدد يختص به[1]، أم لانحراف في عقيدته، بجهل أم بتأويلٍ أم ببدعة، ولكلٍ حكم.

      ولست بصدد تحديد حكم كل مناط، عام أو خاص، لكنى أريد أن أثبت هنا أن الأمر قد أُطلقت فيه يد من قصرت يده، وعقل من اضمحل عقله، فكان أن تباينت الآراء، وأخذت منحى التكفير تارة، فكانت الحرورية ثَمّ هناك، فقتلت وذبحت، وكان التحليل والاسترسال فيه، فكانت العلمانية المرقعة بأسماء إسلامية في الكفة الأخرى تبيح وتغترف.

      • مسألة التعاون بين الفصائل:

      وأتبع هذه المسألة، وأتبع التفرق والتمزق الذي عانته الساحة الشامية منذ غزو الحَرورية لها، مسألة أخرى. وهذه المسألة تتعلق بوجود بدائل على الساحة تتيح التعاون بين الفصائل المختلفة "أيديولوجيا" أو "عقدياً" خاصة تحت وطأة الضغط النصيري من ناحية، والضغط العواديّ من ناحية أخرى. ومرة أخرى، فإن التعاون بين الفصائل المناوئة للنصيرية أو للحرورية، حكمه الأصليّ الحلّ. لكن عند التفصيل يحتاج إلى نفس الشروك التي ذكرناها من قبل، أو قريب منها، لينظر المفتي في حلّه أو حرمته.

      • مسألة القتال مع فرقة العوادية ضد الروافض والنصيرية

      وهي مسألة تتفرع على ما قبلها إذ إنه قد اختلط أمرُ الصراع، وأمر الحق والباطل، باختلاط الحرورية بمعسكر أهل السنة. وهذا تساؤل طبيعي يأتي من أمرين، إن الحرورية على مرّ التاريخ، مثلهم مثل كافة الفرق البدعية الأخرى، سواء منها السياسية أو الفكرية، كالمعتزلة والجهمية والمرجئة والصوفية، يروجون لأنفسهم وأتباعهم إنهم هم أهل السنة وإن عداهم أهل البدعة. والآخر هو عدم تحقق أبناء الساحة الجهادية بعلم يجعلهم يفرقون بين المناهج، حتى كثير من الشرعيين منهم. فاحتار الناس في هذه المسألة.

      والأصل هنا هو أن قتال الروافض والنصيرية واجب محتم عينيّ. ثم الأصل كذلك هو أن حفظ النفس أمرٌ شرعته الملل كلها ووافق فيه صحيح المنقول صريح المعقول، سواء كان الصائل مسلماً أو غير مسلم، وسواء كان المصال عليه مسلما أو غير مسلم. ثم يتشعب الموقف إلى تفاصيل تتعلق بالمواقف المختلفة، ونوعية الصائل، ونوعية الغير، كما سنبين بعد إن شاء الله.

      • ·        مسألة التعامل مع النصيرية في أسواقهم وبيعهم:

      مرة أخرى، مسألة نشأت بحكم الواقع الذي فرض نفسه على الساحة بعد انقسامها إلى مناطق "محررة" ومناطق "حرورية" ومناطق "نصيرية". فوجب أن يعلم المسلم كيف يتعامل يوميا مع هؤلاء المخالفين عقدياً. والحكم الأصلي هو إباحة التعاملات التجارية مع أيّا كان إلا ما كان فيه شبهة إضعاف للمسلمين أو تقوية للمخالفين، مثل السلاح أو النفط. وسنـأتي على تفاصيل ذلك إن شاء الله.

      • ·        مسألة "أخوة المنهج":

      ثم تشعبت مسألة أخرى، وهي، مرة أخرى، نتيجة الغيبوبة العلمية التي يعيشها الواقع الشاميّ، رغم جهود عديد من الإخوة هناك لتوضيح الأمور وشرحها، إلا أنّ الخرق في غاية الاتساع، كما نراه في مصر، بعد حملات الدعاية السيسية، وتغفيل الخلق. ولا فرق بين دعاية سيسية مضللة، وبين دعاية حرورية مضللة، فكلاهما يستهدف تسخير العقل وإلجائه إلى أحادية النظر، التي هي ملجأ العاجز ومغارة العاميّ عادة.

      وقد تولدت فرقة تقف بين البينين، اعتقدت إنها بذلك تبتعد عن الفتن وتتورع، وهي في الحقيقة تشجع الفتن وتتنطع. والمناهج التي يمكن أن يتآخى عليها المسلمون لا تكون في أمور عقدية مقاصدية، بل في أمور عملية وسائلية. وسنرى إن شاء الله موقف هذه الفرقة التي شبهناها بأهل الأعراف، وأثرها على انتكاس الحركة كلها.

      • مسألة "الغنائم" والتخميس:

      وهي مسألة تطبيقية شرعية نشأت من خلال توفر غنائم من النظام أولاً، ثم أصبحت غنائم من "الكفار" ثانيا، وهم مجاهدوا الفصائل عند العوادية الحرورية، ثم غنائم من "البغاة" في القتال بين الفصائل أخيراً. فتن كقطع الليل المظلم.

      والأصل في تقسيم الغنائم أو السلب معروف، لكن الأمر هنا له وجهان، ممن حصلت الغنائم، وما قول أمير الكتيبة أو الفصيل فيها، بناءً على المصالح العامة المرعية.

      • ·        مسألة استدراج نساء ثيبات وأبكارا للساحة الجهادية دون محارمهن:

      وهي كذلك مسألة تطبيقية شرعية تواى كبرها شاب مصري أخرق غرٌ أراد الزواج بامرأة "جهادية"، فكان أن أخرج صفحات خلط فيها خلطاً شاذاً، وأجيب عنه وقتها، رغم عدم استحقاقه لإجابة. لكنّ المسألة خرجت عن كونها شخصية، وغذا بها "تتمدد" لتصبح فتوى عامة، من عاميّ، يستحل بها شباب أن تترك نساء بيوت أهلهن دون إذن وليهن، بناء على "وجوب النفير" إلى "دار الإسلام" و "كفر المتخلف القاعد" عن "بيعة الخليفة الكرار". ثمّ أصبح التنبيه في هذا الأمر، وتحذير الغافلات أن يقعن في مصائد الشيطان، وتوصيف مآلهن إن فعلن، قذف للعفيفات المحصنات المهاجرات! وقد كتبنا مقالاً في هذا الأمر، لكننا سنعيد تقييمه في هذه السلسلة إتماما للفائدة إن شاء الله.

       

      • مسألة ديات القتلى والقصاص

      وهي مسألة شرعية أتى بها إلى الساحة ما يحدث من قتل عشوائي أو قتل خطإ أو عمد في صفوف السنة. وقد كانت هناك تساؤلات بشأن الواجب في هذا الأمر، وعلام المعول فيه. وسنجيب عن هذا في محله إن شاء الله.

      • مسألة انتخاب الحكومات والديموقراطية

      وهي من أهم المسائل التي احتارت فيها عقول من لم يفقه مقاصد الشرع ووسائله. وسنلقي الضوء إن شاء الله على أهم جوانبها بتفصيل كافٍ.

      19 أبريل 2015 – 01 رجب 1436

      الجزء الثاني

      القول في مسائل الخلاف

      • مسألة نوعية البيعة ونقضها:

      وبالطبع، فإن هذه المسألة كانت الأولى على سطح الخلافات في الساحة، وذلك لما جرى بين السامرائي ابن عواد وبين الشيخ الجولاني أولاً، ثم ما ظهر بعد ذلك حين كشف الشيخ المبجل د أيمن الظواهري حقيقة نقض ابن عواد لبيعته. ثم لحق ذلك واستتبعه ما حدث من تحركات في الصفوف الجهادية بين فصيل وفصيل، فتحرج البعض عن الانخلاع عن بيعته لفريق، رغم ظهور خطله وانحرافه، وخلع فريق بيعته كما يخلع المرء قفازه!

      والحكم العام في خلع أي بيعة هو استواء الطرفين، فلا يقال فيه بحلّ ولا حرمة قبل أن يُعرف نوع البيعة أولاً، ثم يكون حكماً عاماً بالطلب أو الإباحة أو المنع. ويعتمد هذا على ما يصاحب البيعة من شروط في ثناياها. والقاعدة هي كلّ شرطٍ ليس في كتاب الله فليس بشرط. والبيعة التي لا يحل، بل يكفر خالعها هي البيعة على الإسلام لا غيرها مهما كانت.

      القول في المسألة:

      ناقشنا مسألة البيعة من قبل في دراستنا المطولة عن "قيام دولة الإسلام"[2]. وباختصار لائق بالموضع، فإن البيعات هي نوع من العقود بين المُبايِع والمُبايَع، وهي ثلاث أنواع، بيعة الإسلام، والبيعة العظمى أو بيعة الإمامة، وبيعات خاصة، على الجهاد أو السفر أو غيرها. ولكل منها حدود وشروط، ولنقضها حدود وشروط.

      والبيعة الوحيدة التي لا يجوز نقضها في أي حال، والتي هي قمة باب العبادات، هي بيعة الإسلام، بيعة لا إله إلا الله، إذ نقضها كفر بذاته، ونقضها متوجّه لله لا لمن أعطاها. ثم بيعة الإمامة، فهذه أقل صعوبة في نقضها، إذ هي عقد اجتماعيّ يقوم عليه استقرار المجتمع فهي في باب المعاملات لا العبادات، وهو ما يجب أن يستقر في عقول المعنيين بهذا الأمر، إذ فرق بين الحرام وبين أعمال الردة، فكل أعمال الردة حرام، لكن ليس كل محرم ردة. وهذه البيعة واجبة على من تحصّل له التمكين بشروطه، لا لكل من طلبها، وزعم حدوث التمكين لنفسه. فمن ثم، فإن هذه البيعة ترتبط بشروط يجب تحققها كاملة وموانع يجب تجاوزها كاملة حتى تكون ملزمة للمبايِع. فإن تحقق التمكين بشروطه[3]، يحرم الخروج عليها، إلا إن تقوض أحد أركانها أو إن تغيب أحد شروطها التي لا تصح إلا بها، ككفر الإمام أو بدعته أوإفساده الخارج عن المعتاد مثلاً، مع القدرة على الخروج، أو سأل إحلاله من البيعة ورضي أميره بذلك. فإن خرج عليها من خرج دون ذلك فقد ارتكب حراما لا مكفراً.

      وفي ضوء هذا النظر، يتحصل أنّ بيعة السامرائي لازمة في عنقه إلى يوم يلاقى ربه. وأن بيعة الجولاني له، واجبة الخلع، من حيث أظهر ذاك البدعة، وقتل المسلمين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي ليست بيعة إمامة عظمى ابتداءً، بل بيعة الجولاني للشيخ الظواهري ليست بيعة عظمى. والسامرائي قد أخل بشروط البيعة، إذ ادعى تمكين ليس له، وادعى أهل حلّ وعقد ليسوا بأهل وعقد إلا في محلتهم، وهم مجاهيل غير معروفين لا يُعلم عدلهم، ولا يصح أن يتبع المسلمون مجاهيلاً، فإن لم يصح هذا في شهادة على وصية "اثنان ذوا عدل منكم"، فكيف يَحل في ريادة أمة؟

      إذن، فلا بيعة للسامرائي، وليس الخروج عليه بنقض بيعة ابتداءً، من حيث دلّس شروطها، وتلبّس بما ليس فيه. ومن ثم كذلك فإنه لا يصح تطبيق أي من الأحاديث الواردة في نقض بيعة الإمام على السامرائي وتنظيمه، بل هذا هو الإفساد بعينه. وهو سبب ما نراه اليوم من هرْج ونكسة لجهاد الروافض والنصيرية.

      ثم نأتي للبيعات الخاصة بين الجماعات. فيجب أن يكون معلوماً إنها كلها بيعات على أداء عمل محدد ينتهى بنهاية العمل. والإمارة في الشرع الإسلامي لا تختلف كثيراً عن الإدارة. والعقد بين الأمير وأتباعه، يعتمد أساساً على الالتزام الخلقي، خاصة في البيعات الخاصة، وليس له بعد عقدي البتة. بل أضاف أهل البدع هذا البعد ليجعلوها ثيوقراطية كاثوليكية، مثل هرمية الكنيسة. والمسلم عند كلمته وشرطه، إن أعطى صفقة يده في بيعة خاصة، وجب عليه أداء ما عليه، فإن أخل فقد ارتكب حراماً. وإن راي اعوجاجا حذر منه، فإن لم يجد أذنا واعية ترك ولا عتب. ويجب أن يكون هناك وضوح في موضوع البيعة ونوعها قبل التبايع، تماما مثل شروط العقد، بيعا أو زواجاً. والثقة والأمانة والعدل هي معيار التعامل فيها. ويعظم جرم الخروج عن بيعة بقدر الإفساد الذي يتسبب فيه الخارج عنها. فإن اعتمد أمير على تابع له في موقف حرجٍ فتركه نقضاً للبيعة، فهذا أعظم جُرما، لكن لا يكفر به، ولا يُقتل، بل يُعَذّر إن قُدر عليه، ليكون عبرة لغيره في مثل هذه المواقف القتالية.

      • مسألة التعاون مع القوى الخارجية العربية أو الغربية:

      من أهم المسائل التي اجتاحت الساحة الشامية هي: هل يصح التعاون مع القوى الخارجية سواء غربية أو عربية علمانية في سبيل تحقيق الإطاحة ببشار؟

      وقد قامت الدنيا ولم تقعد بسبب تعدد الاجابة على هذا التساءل. فبدأ لون من التكفير بالموالاة، وبدأ لون من التصحيح والموافقة للمصلحة. وقاتل صاحب هذا الرأي صاحب ذاك، منهم قتال بغي ومنهم قتال ردة وكفر.

      والحق أنّ الإجابة على أي سؤال شرعيّ يعتمد على الواقع الذي يأتي منه، وعلى الواقع الذي سيطبق عليه. وقد رددنا على هذا الأمر في عدة مقالات من قبل.

      والإجابة العامة المجملة بطبيعة الحال هي الحُرمة. لكن ليس من عاقل يعتمد على إجابة عامة مجملة إلا رويبضة تافه لا علم له. فإن التخصيص هنا هو الأصل لا العموم. فيعتمد الأمر على معنى التعاون أولاً، وشروطه، ومجالاته، ففي هذا تحقيق للمناط العام. ثم إذا تحدد هذا بتفاصيله، وجب النظر في كلّ حالة على حدة، لتحقيق مناطها الخاص. وهذا الأخير يستلزم معلومات دقيقة عن تطبيق المتهم بمثل هذه التهمة لما هو خارج عن الحدود المرسومة في المناط العام، فإن كان، فيجب أن يتحدد هل ذلك لاستثناء محدد يختص به[4]، أم لانحراف في عقيدته، بجهل أم بتأويلٍ أم ببدعة، ولكلٍ حكم.

      ولست بصدد تحديد حكم كل مناط، عام أو خاص، لكنى أريد أن أثبت هنا أن الأمر قد أُطلقت فيه يد من قصرت يده، وعقل من اضمحل عقله، فكان أن تباينت الآراء، وأخذت منحى التكفير تارة، فكانت الحرورية ثَمّ هناك، فقتلت وذبحت، وكان التحليل والاسترسال فيه، فكانت العلمانية المرقعة بأسماء إسلامية في الكفة الأخرى تبيح وتغترف.

      القول في المسألة:

      التعاون بين المسلمين والكفار أمرٌ ليس بمحرم ابتداءً، بل يطرأ على حكمه الأصلي بالإباحة ما يجعله حراماً أو كفراً والدليل على ذلك ما كان من تجارة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكفار طوال عهده بالمدينة سواء بالقوافل أو مع المقيمين منهم في المدينة. وذلك يجرى على أصل أن "الأصل في المعاملات الحلً إلا ما ثبت تحريمه بدليل خارج".

      والمواضع التي يجب أن تراعي فيها المعاملة مع الأجنبيّ هي في أبواب عدة، منها التعليم مثلاً، فلا يحل أن يتبع المسلمون مناهج الكفار من حيث إنها تقوم أساساً على مبادئ مخالفة لشرع الله، إلا في مجالات التكنولوجيا والعلم التطبيقي الصرف. أما العلوم الأخلاقية والتربوية والانسانية، فيجب الحذر فيها، مع عدم افتراض التحريم ابتداء، إلا من باب سدّ الذريعة إن تعذر الفصل.

      ثم المواضع التي يدخل فيها شبهة الولاء والبراء، من حيث أنّ المسلم ابتداءً يُفترض فيه الخلو من الشرك، ومن المولاة الكفرية. فإن افترضنا فيه غير ذلك ابتداءً كنا قد أخللنا بقانون الشريعة الأول وهو قاعدة العمل بالظاهر. فإن رأينا ما يخلّ بهذا ظاهراً من مسلم عرفنا إسلامه بيقين، فيجب أن نتحقق من مناط التعاون الذي وضعناه على مائدة الولاء قبل أن نحكم بكفر فاعله.

      وقد كتبنا من قبل مقالاً مفصلاً في جزئين، يتعلقا بهذا الأمر بعنوان "رفع الشبهات في موضوع الولاء والبراء"[5]. وأوضحنا فيه أنّ ليس كل تعامل ولاءً مكفراً، بل الولاء المكفر مناطه التعاون مع الكافر ضد المسلمين بقصد الإيذاء، سواء إيذاء المسلمين أو إيذاء الدين. لكن التفاصيل في هذا الأمر تطول حسب الحالات. ويمكن تلخيصها في التالي:

      • إن تعاونت طائفة مسلمة مع طائفة مرتدة بيقين، فهذا حرام شرعاً، بل يكون ولاءً في بعض صوره:
      • وإن كان لقتال عدو كافر مشترك، ففيه صور متعددة، إذ: 1) يجب أن يكون للمسلمين الغلبة في القوة داخل ساحة القتال، 2) وألا يعلو الكفار على المسلمين في القيادة، بل تظل القيادة في يد المسلمين، حتى لا يوجه الكفار مسار القتال ويحرفوه ضد المسلمين والاسلام، 3) وأن لا يتمكنوا من إقامة قواعد تظل شوكة في حلق المسلمين تهددهم، فهذه كلها صور ولاء مكفّر، إذ إن الكفار أو المرتدين غرضهم من قتال الكفار ليس مَحضاً، وليس لنصرة الإسلام، بل فيه بغضٌ للإسلام وتربُص به وبأهله. وقد رأينا كيف أنّ الله قد أعلن فرح المؤمنين بنصر الله الذي هو نصر الروم على الفرس، لأنهم، وإن كانوا كفاراً، إلا إنهم أقرب للمسلمين من عبّاد النار. فالحكم هنا من ذلك النوع ويرجع إلى أصل الاعتقاد من ناحية وإلى السياسة الشرعية من ناحية أخرى.
      •  
        • فإن كان لقتال إخوة في العقيدة، سواءً طائفة سنية أو فيها بدعة غير مكفرة وليسوا بصائلين على السنة، فهو أقسام:
          • فإن كان لدحر بغي رأوه واقع عليهم، فهذا يقدر بقدره، ويحسن عدم التعاون سداً للذريعة، إلا إذا كانت الطائفة الباغية صائلة تقتل المسلمين. ويكون التعاون في وقت الضرورة وساعتها فقط، لا تعاونا مطلقا ولا دائماً بل في حدود رد الصائل، حفظا للنفس.
          • وإن كان نصرة للمرتدين على المسلمين لهزيمة الدين وعداء للإسلام وأهله فهذا ولاءٌ مكفّر.

      ومن هنا فإن قتال الروافض، واجب عيني على السنة، فإن تعذر وحدث أنّ الحرورية يقاتلونهم في موضعٍ ما، ولا ينحرون السنة في هذا المكان، أمكن أن يقاتلوا بجانبهم، لا معهم، دون بيعة، لرد الصائل الحالّ. ثم يعودوا لقتال الحرورية إن صالوا عليهم بعدهان أو إن تيسر لهم وقت وعدة بعد قتال الروافض والنصيرية. كذلك نفس الحال مع الروافض والنصيرية.

      ثم موضوع قبول السلاح والمال من القوى الخارجية، هو أمرٌ فيه فتنة كبيرة. ولا يمكن الجزم فيه بالحرمة على الإطلاق، لكن في موضع الحرب، وتشابك المصالح، تكون الحرمة هي الخيار الأول لمن اتقى. والحصول على المال فتنة شيطانية لا دافع لها، والبشر بشر. وشرط الحلّ هو قصد كسب الحرب ضد كفار صائلين حالاً لا مآلاً، وعدم ربط التعاون بأي نوعٍ من الشروط، وهو ما يجعل وقوع الحِلّ شبه مستحيل، إذ لا أحد يعطى دون أن يأخذ إلا الوالدين!

      ولهذه الاعتبارات، يجب أن يكون المتعاون مع القوى الخارجية كلها على أشد الحذر، إذ هو ساعتها أقرب للوقوع في حرامٍ أو في كفر حسب الحال. كما يجب على الناظر في حال المتعاون أن يتريث ليعرف مدى وقدر التعاون الواقع قبل تكفير الفصيل المتعاون.

      • مسألة التعاون بين الفصائل:

      وتبع هذه المسألة، وتبع التفرق والتمزق الذي عانته الساحة الشامية منذ غزو الحَرورية لها، مسألة أخرى. وهذه المسألة تتعلق بوجود بدائل على الساحة تتيح التعاون بين الفصائل المختلفة "أيديولوجيا" أو "عقدياً" خاصة تحت وطأة الضغط النصيري من ناحية، والضغط العواديّ من ناحية أخرى. ومرة أخرى، فإن التعاون بين الفصائل المناوئة للنصيرية أو للحرورية، حكمه الأصليّ الحلّ. لكن عند التفصيل يحتاج إلى نفس الشروط التي ذكرناها من قبل، أو قريب منها، لينظر المفتي في حلّه أو حرمته.

      القول في المسألة:

      لا شك أن الأصل هو أن يقف المسلمون صفاً كالبنيان. ويحرم تفرقهم الذي يؤدى إلى ضعفهم وذهاب شوكتهم لما فيه من هدم للدين. لكن مرة أخرى البشر بشر. فقد اختلفوا في بدايات نشأتهم، وتميز كلّ فصيل على حدة، وبنى استراتيجية حسبها هي الأعلم والأحكم، وأتى من ورائها إبليس اللعين يضع في نفس القيادة حب التمسك بالمركز القياديّ، وأخفاه وراء الأيديولوجية من باب "ما أريكم إلا ما أرى"، وهو في الحقيقة ضعف نفس لا غير.

      ثم إن الكارثة هي في الخلط بين القيادة والعلم. فأنّي لقائد في الميدان أن يكون عالماً إلا إن كان قد تحلى بالعلم وشهد له الناس وأقام الدليل بما أخرج ودوّن في المسائل العلمية. وهذه النقطة هي الأخطر والأهم في الساحة الشامية، بل هي الأخطر والأهم في كل الجبهات وفي كل البقاع وعلى مدى التاريخ، أن يستأثر قائد عسكري بالرأي. وهل مصيبة مبارك والسيسي إلا هذا المنطلق؟ هي سيطرة العسكر تحت راية إسلامية. فوجب على القيادات أن تلتزم بتوجيهات العلماء إن أرادت خيراً. ولا معنى لموضوع علماء الثغور، فكيف إن لم يكن في الثغور علماء يقضون حاجة الساحة؟ والأصل في قول علماء الثغور هو القدرة على تحقيق المتاط للقرب من الأحداث. ولا أظن أنّ هذا يعتبر عاملاً على الإطلاق في أيامنا هذه، بعد توفر الاتصالات السمعية والبصرية الآنية، التي تجعل من يجلس عبر المحيط محيطاً بما في الساحة أكثر من كثيرٍ ممن هم مقيدون في بعض مواضعها.

      والتباين الواقع بين الفصائل، سببه محصور في التباين في آراءٍ قيادات غير عالمة، أو مجد شخصي خفيّ على صاحبه، وإن اتحد غالب الفصائل في النزعة السنية.

      فمن الواجب على تلك الفصائل كلها ألا تضاعف من أسباب تشرذمها وألا تتخذ قرارات وتعلن آراءً لا تعين على توحدٍ بل تعين على تفرق وتمزق. هذا نظر مصلحي يوافق الشرع. وإن لم يتوقف هذا الاتجاه، ويعى القادة ما يحيك لهم الشيطان في أنفسهم، من أنفسهم، وإن لم يعودوا إلى أهل حلّ وعقد من العلماء الربانيين، لا إلى واحد منهم أيا كان، إذ يجرى عليه الخطأ بلابد، فإن أهل الشام، وأهل الإسلام هم ضحيتهم الأولى.

      • مسألة القتال مع فرقة العوادية ضد الروافض والنصيرية

      وهي مسألة تتفرع على ما قبلها إذ إنه قد اختلط أمرُ الصراع، وأمر الحق والباطل، باختلاط الحرورية بمعسكر أهل السنة. وهذا تساؤل طبيعي يأتي من أمرين، إن الحرورية على مرّ التاريخ، مثلهم مثل كافة الفرق البدعية الأخرى، سواء منها السياسية أو الفكرية، كالمعتزلة والجهمية والمرجئة والصوفية، يروجون لأنفسهم وأتباعهم إنهم هم أهل السنة وإن عداهم أهل البدعة. والآخر هو عدم تحقق أبناء الساحة الجهادية بعلم يجعلهم يفرقون بين المناهج، حتى كثير من الشرعيين منهم. فاحتار الناس في هذه المسألة.

      والأصل هنا هو أن قتال الروافض والنصيرية واجب محتم عينيّ. ثم الأصل كذلك هو أن حفظ النفس أمرٌ شرعته الملل كلها ووافق فيه صحيح المنقول صريح المعقول، سواء كان الصائل مسلماً أو غير مسلم، وسواء كان المصال عليه مسلما أو غير مسلم. ثم يتشعب الموقف إلى تفاصيل تتعلق بالمواقف المختلفة، ونوعية الصائل، ونوعية الغير، كما سنبين بعد إن شاء الله.

      القول في المسألة:

      هذه مسألة متشعبة مما قبلها، وإن اختص بها القتال مع أهل داعش من العوادية الحرورية. والأمر اليوم هو أن أهل داعش قد ضاهوا في تصرفاتهم الروافض مع أهل السنة بلا فرق. فها هم ينتحرون تفجيراً لأنفسهم في أهل السنة، فالأمر لم يعد أمر قتل رؤوس السنة فقط، بل قتل الشعب السنيّ من حيث يفترضون كفرهم ابتداءً.

      والقول فيها هو نفس القول في القتال مع الكفار، ففعلهم مع السنة فعل الكفار، سواء اعتبرناهم كفاراً على رأي بعض العلماء أو مبتدعين على رأي آخرين من العلماء، ألا يحل بيعتهم ولا القتال تحت رايتهم أبداً، إلا وقت الضرورة وساعتها لا غير، ويكون تزامنا لا تزاملاً، أي نقاتل جانبهم حال صولة الصائل من النصيرية أو الروافض أو الصليبية أو غيرهم، طالما لا يقتلون السنة في هذا الموضع بالذات. فإذا انتهى الصائل، عاد كلّ إلى معسكره، وأصبح قتالهم وقتلهم واجب شرعي كقتل الروافض والنصيرية سواء بسواء.

      • ·        مسألة التعامل مع النصيرية في أسواقهم وبيعهم:

      مرة أخرى، مسألة نشأت بحكم الواقع الذي فرض نفسه على الساحة بعد انقسامها إلى مناطق "محررة" ومناطق "حرورية" ومناطق "نصيرية". فوجب أن يعلم المسلم كيف يتعامل يوميا مع هؤلاء المخالفين عقدياً. والحكم الأصلي هو إباحة التعاملات التجارية مع ايّا كان إلا ما كان فيه شبهة إضعاف للمسلمين أو تقوية للمخالفين، مثل السلاح أو النفط.

      القول في المسألة:

      كما ذكرنا سابقاً، فإن التعامل مع الكفار، نصيرية أو غيرهم مباح أصلاً لا حرمة فيه، إلا فيما ثبت حرمته كبيعهم الأسلحة أو النفط مما يقويهم على السنة، فهذا حرام بلا خلاف. وإن كان بيع السلاح بين السنة بعضهم لبعض وقت الفتنة حرام سداّ للذريعة، فما بالك ببيعها للكافر وقت الحرب؟

      والحق أنّ وضع النصيرية والروافض غير وضع الكافر غير المقيم، من حيث هم مقيمون في أرض السنة منذ قرون عدداً. فلا مانع على الإطلاق من التعامل معهم في شأن التجارة والبيع والشراء، ففي منعه ضرر بالناس أيّ ضرر، والضرر مرفوع في الشريعة. و يحلّ التأجير أو الاستئجار منهم أو العمل بوظائفهم المدنية التي لا تؤدى إلى أمر يضر بالمسلمين في العلم أو الحرب. وهذا ليس له دخلٌ بموضوع الولاء على الإطلاق.

      • ·        مسألة "أخوة المنهج":

      ثم تشعبت مسألة أخرى، وهي، مرة أخرى، نتيجة الغيبوبة العلمية التي يعيشها الواقع الشاميّ، رغم جهود عديد من الإخوة هناك لتوضيح الأمور وشرحها، إلا أنّ الخرق في غاية الاتساع، كما نراه في مصر، بعد حملات الدعاية السيسية، وتغفيل الخلق. ولا فرق بين دعاية سيسية مضللة، وبين دعاية حرورية مضللة، فكلاهما يستهدف تسخير العقل وإلجائه إلى أحادية النظر، التي هي ملجأ العاجز ومغارة العاميّ عادة.

      وقد تولدت فرقة تقف بين البينين، اعتقدت إنها بذلك تبتعد عن الفتن وتتورع، وهي في الحقيقة تشجع الفتن وتتنطع. والمناهج التي يمكن أن يتآخى عليها المسلمون لا تكون في أمور عقدية مقاصدية، بل في أمور عملية وسائلية. وسنرى إن شاء الله موقف هذه الفرقة التي شبهناها بأهل الأعراف، وأثرها في انتكاس الحركة كلها.

      القول في هذه المسألة:

       من المهم، بل الأهم، هو إدراك معنى المنهج، قبل افتراض الأخوة فيه، إذ الخلط فيه خلط في كل ما ينبنى عليه. والمنهج الذي يتآخى عليه المسلمون فيما بينهم هو السنة، والسنة وحدها دون البدعة. وهي أخص من الإسلام، وأضيق منه نطاقاً. لهذا فإن رسول الله صلى اله عليه وسلم قد نص على الخلافة على منهاج النبوة، لا على الإسلام عامة. فأهل الأرض ينقسمون إلى أربعة دوائر، الأولي أصغرها وهي أهل السنة الخاصة، الذين لا يشوب دينهم شائبة عقدية، وإن لم يأمنوا من المعاصي واللمم، وهم أهل نهج النبوة، ثم يأتي أهل السنة العامة، ومنهم من اتصفوا بالسنة ولكن دخلت عليهم شبهات من إرجاء أو غلو أو اعتزال أو أشعرية، ثم أهل البدع في الكليات، وهم أصحاب الفرق العقدية كلها، ثم ملة الكفر كلها واحدة. والشكل المرفق يبين ما نقصد اليه.

       انظر الملف المرفق للرسم

      الإيضاحي أعلاه

      وملف التحميل

      ونحن حين نتحدث عن المنهج النبويّ الذي يتآخي عليه الناس، فإنما نتحدث على تداخل بين دائرتي أهل السنة الخاصة والعامة، فهؤلاء هم من يمكن أن يكون بينهم أخوة منهج، أما أهل الدائرة الثالثة فهؤلاء لا أخوة منهج بين السنة وبينهم، وإلا فهو تخريب وتضليل واتباع لمذاهب البدع، وإخوة على غير منهج النبوة. ويحكم التعامل معهم ما ذكرنا في النقاط السابقة لا غيرها.

      فهذا اللون من الورع البارد والتنطع في الدين، سببه الجهل أساساً ثم الميل إلى بدعة بعينها دون القدرة على التصريح سرا أو جهراً. وليس من المصلحة الشرعية أن نقول بأخوة على باطل، فإن ضررها أكبر من نفعها، وقد قال تعالى "واعتصموا بحبل الله جميعا" فقدم حبل الله على الجمع مطلقا، فلا اعتصام على غيره، والمصلحة فيما يراه الشرع مصلحة، لا فيما يصوره العقل مصلحة. بل إن هذا اللون من الأخوة، يؤدى إلى انقسام الساحة أكثر مما هي عليه، إذ يسمح بنتوءات في البنيان السني، لا تزال تنمو حتى تصبح ورما في الجسد السني، يضعفه، ثم يصعب التخلص منه إذ نما وأصبح جزءا لا يتجزأ منه. لذلك فالأولى بتره من بدايته، بالتوجيه والتعليم أو الزجر والتعزير، أو البتر والفصل والإبعاد. وهؤلاء كالسم البطئ في جسد الأمة، يأخذ مفعوله بعد فترة من الزمن، فيوهن قوته الصحية أولاً ثم يقضى عليها.

      • مسألة "الغنائم" والتخميس:

      وهي مسألة تطبيقية شرعية نشأت من خلال توفر غنائم من النظام أولاً، ثم أصبحت غنائم من "الكفار" ثانيا، وهم مجاهدوا الفصائل عند العوادية الحرورية، ثم غنائم من "البغاة" في القتال بين الفصائل أخيراً. فتن كقطع الليل المظلم.

      والأصل في تقسيم الغنائم أو السلب معروف، لكن الأمر هنا له وجهان، ممن حصلت الغنائم، وما قول أمير الكتيبة أو الفصيل فيها، بناءً على المصالح العامة المرعية.

      القول في المسألة:

      والرأي الشرعي في مسألة الغنائم معروف لا داع للإستطراد فيه، من حيث التخميس، أو في السلب من حيث حق السالب فيما سلبه. لكن أمرنا هنا ينعقد في مسألتين، أولهما، ضرورة التأكد من بينة أن المقتول كافر يقيناً، لا كافر بتكفير الحرورية أو من هم على مذهبهم فيه. ونحن بشر كالبشر، وإغراء السلب والغنائم كبير، لم يقاومه بعض الصحابة فانحازوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد. فلهذا وجب التثبت.

      ثم إن للأمير أن يوجه الغنائم توجيها آخر إن رأي مصلحة في ذلك، إن كان تقيا صاحب ورع وعلم. فإن الأصل هو المصلحة العامة وتقديمها على الخاصة، فإن احتاج إلى مال لإصلاح طريقٍ أو بناء مدرسة فله ذلك بلا جدال. والدول الحديثة تقوم على الجهد الجماعي بشريا ومادياً، والساحة الجهادية يجب أن تعد نفسها لدور أكبر من مجرد مجموعة مسلحين يسعون لغنائم شخصية دون النظر إلى مصلحة الشعب الذي قاتلوا في سبيله. فهذه نظرة بدائية لا تعكس إلا جهلاً وسذاجة.

      • ·        مسألة استدراج نساء ثيبات وأبكارا للساحة الجهادية دون محارمهن:

      وهي كذلك مسألة تطبيقية شرعية تواى كبرها شاب مصري أخرق غرٌ أراد الزواج بامرأة "جهادية"، فكان أن أخرج صفحات خلط فيها خلطاً شاذاً، وأجيب عنه وقتها، رغم عدم استحقاقه لإجابة. لكنّ المسألة خرجت عن كونها شخصية، وغذا بها "تتمدد" لتصبح فتوى عامة، من عاميّ، يستحل بها شباب أن تترك نساء بيوت أهلهن دون إذن وليهن، بناء على "وجوب النفير" إلى "دار الإسلام" و "كفر المتخلف القاعد" عن "بيعة الخليفة الكرار". ثمّ أصبح التنبيه في هذا الأمر، وتحذير الغافلات أن يقعن في مصائد الشيطان، وتوصيف مآلهن إن فعلن، قذف للعفيفات المحصنات المهاجرات! وقد كتبنا مقالاً في هذا الأمر، لكننا سنعيد تقييمه في هذه السلسلة إتماما للفائدة إن شاء الله.

      القول في المسألة:

      فكما ذكرنا، الأصل أن النساء المسلمات لا يصح أن يخرجن من بيوتهن، ولا يُخرجن حتى في حالة العدة أو الطلاق الرجعي. وهذا حكم الله لا نزاع فيه. وأما ما أسموه النفير فهو على الرجال من الأمة، القادرين على القتال دون غيرهم. وإن كانت المرأة يستحب لها عدم صلاة الجمعة ولا الجماعة، وهذا المسجد في حيّها، فبقياس الأولى لا يصح أن تخرج بمفردها، هرباً من أولياء أمرها إلى أرض لم تطأها من قبل، ولا تعرف عنها إلا معرفات تويترية وكلمات مثالية تذهب بلب المرأة ناقصة العقل والدين. ولا بيعة تصح منها.

      والحق أنّ هذا الرأي الشاذ الذي لفقه صبيّ غرٌ حروري خارج عن طاعة أبيه ابتداءً، ليس له سند إلا على أساس أنّ المرأة لم يعد لها أولياء أمر، ولا أهل يرعونها، بل كفر أهلها، بل أمروها بمخالفة دين الله وارتكاب المحرمات.

      إذن فإن "النفير ليس بواجب ولا مندوب ولا مباح لها"، ثم إنه ليس هناك دار إسلام انعقد عليها قول علماء الأمة، بل هي دار حرب واضحة المعالم، الحرب في كل طرف منها، لا أمان لأحد فيها، حتى رأسها مختفٍ متسردب. وبيعة "الكرار" كما بيّنا بيعة بدعة لا تصح من الرجال فكيف بالنساء. فهذا الأمر يجب أن يكون معلوماً منتشراً حتى لا تغتر الصغيرات من المسلمات بهذا الهراء الحرام، بل هو أشبه بحرمته ممن دعا امرأة لشرب الخمر أو ارتكاب الزنا.

      والعفيفات من البنات أو النساء، ثيباتٍ وأبكاراً يجب أن لا يعبثن بثوابت الشريعة تحت ادعاءات باطلة، بل يجب أن يحفظن شرفهن. إلا إن هاجر أولياء أمرها واصطحبوها معهم، فهؤلاء عفيفات مهاجرات بشرط أن يكن هاجرن لأهل السنة، لا لأهل البدعة، فحينئذ تكون الخسارة خسارتين. وقد أدركت كثيرات هذا الخطأ المردى ولات حين مناص.

      ويجب الاحتراز ممن يخرجن من بيوتهن وحدهن رغبة عن زوج أو رغبة في زوج، فقد أستحلفهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك احترازاً . جاء في جمع الفوائد :رقم 95: سُئل ابن عباس: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن النساء؟ قال:إذا أتته المرأة لتُسلم أحلفها بالله ما خرجت لبُغض زوجها،وبالله ما خرجت لاكتساب دينار،وبالله ما خرجت من أرض إلى أرض وبالله ما خرجي إلا حبا لله ورسوله". وهذا كان في بيعة الإسلام، فما بالك في بيعة ابن عواد؟

      وليرجع من شاء إلى مقالتنا في هذا الصدد بعنوان "الرد على فتوى الغرُّ الضالّ بشأن سفر النساء بلا محرم"[6].

       

      • مسألة ديات القتلى والق