فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مقاصدُ الشَريعة .. والتَجديد السُنيّ المُعاصِر - 4

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      وصَلتني عدة تسَاؤلات وتعليقات، أظنها آراء وتوجّهات مُستقرات أكثر منها تعليقاتٍ، فرَضَت علىّ أن أنحَرِفَ عن الإستمرار في الحديث عن صُلب الموضوع، إلى إيضاحِ بعض ما يتعلق بهذه التساؤلات والتعليقات، إذ إن الغَرضَ من الكِتابة هو التفاعُل مع القارئ ومحاولة إيضاح ما يغمُض منها على بعض القرّاء من المهتمين بالقراءة والتعقيب.

      وقبل أن أتناول هذه التساؤلات والتعليقات، أود أن أوضح نقطة أو إثنتين، ليكون إيضاحُنا على بينة، وبلا غبش (رغم عِلمي بأن ذلك عزيزٌ على كلّ من تناول قلماً أنْ يَحسِم خِلافاً يُرضى كل قُرائه).

      • الإشتراك في إنتخابات مجلس نيابيّ لا يتّخذُ شَرع الله سُبحانه مَرجعاً أساساً لا يخلِط به غيرُه، حرامٌ شرعاً، وخلطٌ في فهم التوحيد، لا يشك في هذا أحدٌ ممن يتبع منهج أهل السنة والجماعة. لكنّ يجب أن يكون معلوماً أنّ تبني هذا المّوقف ممن هم في مجال الدعوة يجب أن يلحقه بديلاً حَركياً منهَجياً للتغيير، إذ ليس من طبيعة الأمور أن يُترك توجيه المجتمع بيد العلمانيين اللادينيين، يسِنّون القوانين ويصرّفون الأمور، ويوجهون التعليم والإعلام وما يشاؤون دون تدخلٍ، إلا أن تكون هناك بدائلٌ واضحة لإعلاء كلمة الله، ولعل في دراسة الحركات الإسلامية خلال العقود الماضية أن يكون هَادياً في هذا الشأن، وألا يكون التعَجّل والإعتِساف والشَبابية هي الحكم فيه.
      • كذلك يجب أن يكون دور العَامل النَفسيّ مفهوماً، في اي عملية فكرية في العقل البشريّ، دينية أو غير دينية على السواء، إذ إنّ أسْهل مسارٌ للعقل هو الإستمرار على ما هو عليه، وهو ما يَحدُث عادة في اللاوَعيّ، لذلك نجِد أن طبيعة النظر في كلّ جديدٍ ليست صعبة فقط، بل وتلقى مُقاومة من العقل، لعدم وجود القوالب الفِكرية الكافية ، والتي تتكون وتتطوّر على مَدارِ السِنين، وتوالى القراءةِ والنَظرِ والفَحصِ، وتراكُم الخِبرةِ والتَجربةِ، في مجال الشريعة وغيرها، والقادرة على إستيعاب صور ومركباتٍ جديدة، نعرفها في المصطلح الشرعيّ بالإجتهاد في أعلى مراتبها، أو الفتوى في مناطات جديدة فيما هو أقل من ذلك.
      • يجب على الشَباب أن ينتبه، في فَهمِه وتناوله لهذه الأمور، إلى أنّ الرأي في هذا المجال هو "فتوى" في حد ذاته، مما يوجب التحرز من "إبداء الرأي"، والأفضل أن يكون قولهم إستفهامياً لا تقريرياً.

      ثمّ إلى التساؤلات والتعليقات.

      • ما المقصود من أن السلفيين حرّموا العمل السياسي من باب الجزيئات (كما ورد في المقال 2)، هل يمكن التوضيح جزاكم الله خيرا

      القصد من أن السلفيين حرّموا العمل السياسي من باب الجزيئات، كما يتضح من القول قبلها، أنهم إعتمدوا على أحاديث (وهي الجزئيات) وإن صحت، إلا إنها تعارضُ مقاصِد الشَريعة في هذا المَناط كما بيّنا، وما ذلك لعيبٍ قي الأحاديث، بل لخطأ في النظر منهم، حيث ضربوا الجزئيات بالكليات عن طريق خلط المناطات. ومن شاء التوسع في هذه النقطة، فليرجعُ إلى كتاب الإعتصام للشاطبيّ فهو اصل في بيان هذا الأمر.

      • قولنا (وهذا يدلّ على عِظم قدر الحرية، وحق التعبير والدفاع عنها ولو بالموت دونها، وهو أوضَحَ من ان ندلّل عليه. ولتحقيق هذا المَقصد، يجب على المُجتمع المُسلم عامة، ويندب للفرد خاصة، ان يشارك في كل عملٍ من شأنه أن يأتي بالحرية، ويمنع الكبتَ والظلم.) هل كل من يدافع عن هده الحرية يدافع عنها بمفهومها الإسلامي الذي لا يتنافى مع شرع الله عز وجل أم بمفهومها العلماني؟ وكدلك لو فرضنا أن الحرية المنشودة هي التي حض عليها الشرع وجعلها من مقاصد الشريعة فهل يحل لنا أن ندافع عنها ولو بارتكاب الشرك ولو باعطاء حق التشريع للبشر ولو بتأييد رجل محاد لشرع الله عز وجل من أجل أن يدافع عن هذه الحرية

      والرد على هذا بطبيعة الحال هو ما يعتقده كلّ مسلمٍ موحّدٍ، اننا في مجال الحديث عن الإسلام والمسلمين، فالحرية التي نعنيها هنا بالذات، هي الحرية التي تؤدى إلى تطبيق شرع الله سبحانه، ولا يحلّ الدفاع عنها بإرتكاب الشرك، أو بإعطاء أي بشرٍ حقّ التشريع من دون الله، أو تأييد رجلٍ مُحادٍ لله ورسوله، ولو دافع عن هذه الحرية. وهذه كلها بديهيات لا أعلم فيم التساؤل عنها. على كلّ حالٍ، اضيف هنا أن مبدأ الحرية هو مبدأٌ عامٌ خلقه الله سبحانه ليحيا به الإنسان، مسلماً كان أم كافراُ، ون لم تتم هذه الحرية إلا بالإسلام، ولذلك وصفهم عمرو بن العاص رضى الله عنه الروم بقوله "..وخامسة حسنة: وأمنعهم من ظلم الملوك"، وهو مقتضى الحرية بلا شك. وقد قال تعالى ممتنا على الناس بالإسلام :ويضع عنهم إصْرهُم والأغلال التي كانت عليهم" الأعراف 157، فوضع الإثر والأغلال يتضمن معاني الحرية كلها.

      • قولنا (وآلية الإستفتاءات، بحد ذاتها يمكن أن تندرج تحت باب المَصلحة المُرسلة، شَكلاً لا موضوعاً، إذ موضوعها هو "التعبير" عن حقيقة قائمة بالفعل، تخدِم قصدَ الشَارعِ الذي اثبتناه آنفا، سواءاً بإيصال رأيٍ أو إبدائه اصلاً.  فهي كآلية لا غبار عليها،) هل يعنى أن آلية الاستفتاء لا غبار عليها وكأننا نتكلم على الإستفتاء مجردا عن أي ظروف أو سياقات نحن نتكلم عن استفتاء يجرى في إطار أن حق التشريع في كل أمر من الأمور بإطلاق هو ملك للشعب وأن الحسن ما حسنه الشعب والقبيح ما قبحه الشعب فكل أمر مطروح للاستفتاء من غير نظر هل أباح الله لنا إبداء الرأي في مثل هده الأمور أم قال فيها سبحانه وتعالى ولا يحل لأحد مهما عظم شأنه أن يبدي رأيه أو يعقب على حكمه فلا أظن فضيلة الشيخ أن الاستفتاء إذا نظر عليه وهذه القرائن تحتف  به إلا أن يكون محرما فضلا عن أن يكون شركا.

      أبدأ بالقول تعقيباً أنه يجب ان نُفرق بين الإنتخاب في مجلسٍ يقوم على شريعة مخلّطة، وبين الإستفتاء الذي هو، بكل بساطة، سؤال وجواب.

      ثم القول بأن (استفتاء يجرى في إطار أن حق التشريع في كل أمر من الأمور بإطلاق هو ملك للشعب)، فنقول:

      الإستفتاء في اللغة هو السؤال كما ذكر إبي إسحاق، وهو يكون في الحق والباطل، وقد سأل الله سبحانه الكفار "فإستفتهم أهم أشدّ خلقاً" وهو ما يبيّن أن السُؤال لا غَضَاضَة فيه، إنما الإجابة هي المشكلة التي يقع فيها الكافر ويجتازها المُسلم لأنه يعلم أنه بالنسبة له تقريراً وتحصيلُ حاصلٍ. فإن سأل سائل: أتريد شرع الله محكماً؟ فلا بأس، بل يجب، الإجابة بنعمٍ تحت اي ظرفٍ أو طرحٍ أو تصورٍ.

      وما قول المُعَلِق إن صَادف رَجلاً في الطريق، فأوقفه، ثم سأله: هل ترى أنّه يجب أن نتّبع الشَريعة، ام لا؟ فماذا يكون موقف المُعَلِق هناك؟ إما أن يردّ عليه بأنه بالطَبع يرى ويريد تطبيق الشريعة، أو أن يمسك عن الردّ كالأبكم، وهو جنون ما بعده جنون! هذا سؤال وجواب ليس فيه تحكيمٌ وغير تحكيمٍ. فالعقل العقل يا أولى الألباب.

      ثم نحن نطرحُ إطاراً بديلاً لما طُرح في هذا التساؤل التقريريّ أعلاه، وهو في الحقيقة الأقرب للحقّ، هو إطارُ أنّ سؤالاً طُرح على شعبٍ مسلمٍ  أن يقرر ماذا يرى في تطبيق الشريعة؟ وهذا بالضبط ما حدث بطريق غير مباشرٍ، ومن هنا فقد ذكرتُ في تحليلي أنّ آلية الإستفتاء هي مقبولة شَكلاً في هذا الإطار إذ هو "سؤالٌ وجواب" لا أكثرَ ولا أقلّ.

      • وهل ترى فضيلتكم أنه يجوز الاستفتاء على قبول الشريعة الاسلامية دستورا وقانونا يحكم به في المحاكم هل سيكون واجبا على كل موحد أن يشترك في مثل هدا الاستفتاء.

      وببيان ما ذكرت آنفا من نظرٍ، لا أدرى كيف يُسأل مُسلمٌ إن كان يقبل الشريعة الاسلامية دستورا وقانونا يحكم به في المَحَاكم، فيغلق فمه ويولي مُعرضاً؟ إلا إن عَاد إلى خَلط المَفاهيم، وإجبار القواعِد والإلتواء بالمُسلّمات لتخدم موقفاً ثابتاً لا يريد أن يتزحزح عنه.

      • وهل إذا قبلت الأغلبية حكم الله  في هذا الاستفتاء لأنهم مسلمون فاستجاب الحكام احتراما لرأي الأغلبية لا طاعة وإدعانا واحتراما لأمر الله هل هذا يكون حكم الله وتطبيق لشرع الله عز وجل؟

      وما علينا ما يقولون، فقبولهم برأي الغالبية لا طاعة ولا إذعانا هو محسوبٌ عليهم لا على المسلمين، إذا قال المسلمون لمن سأل: بالطبع نريد الشريعة، إما بهذه الطريقة أو بغيرها إن لم تُفلح هذه، فأجابوا بالقبول، إذن هي الشريعة، فما علينا وقتها إلا أن نأخذ بزِمام الحُكم ونغيّر كلّ ميكانيكيات التعَامل لتضمن أن لا يكون هناك إحتمالٌ لتدخل رئيسٍ أو مجلسٍ برلمانيّ في هذا التصوّر التشْريعيّ بعد، ومن هذا تخليص الجيش من رئاسته العلمانية، وكذا بقية المؤسّسات كلها. وهل البديل أن ننتظر حتى يؤمن هؤلاء فيقبلون تحكيم الشريعة عن رضا لا عن أغلبية!؟ أم أن يقول المسلمون: رغم أننا نعرف أننا الأغلبية التي سُتطبّق الشريعة في أرضنا، إلا اننا لن نقبل تطبيقها لأننا نريد أولاً أن يقبلَ المُتربّعُ على كُرسي الوزارة الآن هذا التطبيق إذعاناً؟ أين يقع هذا في باب الإفتاء ومقاصد الشريعة ومنظومة الشريعة كلها!؟

      وأود ان أضيف هنا أنّ التصَور الذي يلمح له المُعَلِق لا يسمح بأي شَكلٍ من التَغييِر إلا بالقُوةِ والإنقِلابِ، إذ لا صورة لشَكلٍ سِلميّ مقبولٍ للمسلمين لتولّى السُلطة في هذا التصور، وإن قال الشعب كلمته بقبولها، ثم رضي النظام بهذا. وهو إحتمالٌ قائمٌ ولاشك، لكن أودّ أن أنبّه أن ذلك لم يكن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول دولةٍ مُسلمة بالمدينة، والتي كان غالبيتها من المسلمين وأقليتها من غيرهم، والقتال إنما كان فتحاً لغيرها.

      • قولنا (الإستفتاء كان على موادٍ مُحددة تتعلق بمدة الرئاسة وطريقة الإنتخاب). ومن قال أن الرئيس إدا كان مسلما موحدا مطبقا لشرع الله عز وجل مجاهدا لنشر الإسلام محققا للعدل والحرية في إطار الشرع فلا يحل له أن يستمر في الحكم أكثر من ثماني سنين وتجرى انتخابات لتحل محله حاكما كافرا علمانيا معاديا لدين الله عز وجل .

      نقول، إننا ذكرنا أن هذا من باب الفقه لا العقيدة، وإلا إن كنّا سنرى كلّ أمر من أمور الحياة أمر عقيدةٍ ومفاصلة، فسنكون صورة مطوّرة للتكفير والهجرة، وسنمشى بين الناس بالتكفير في كلّ أمر نختلف فيه فقهياً. وفي التصور الذي طرحته أعلاه، والذي يقوم على الشريعة بإطلاق، مع تخليص المؤسّسات من الإتجاهات الخَرِبة، يمكن ببساطة أن تكون هناك مواصفاتٍ للترشيح تضمن أن لا يتقلد الحكم من هو ليس أهل له. وهذا التصور المطروح بحدّ المدة يحدّ من إحتمالات الديكتاتورية التي هي من سِمات النَفس إن طَال أمَد سطوتها كما رأينا في ما لا يحصى من حالاتٍ في تاريخنا، وأين لنا عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز في عصرنا هذا. ولا باس ان يتغيّر هذا التصور إلى رئاسة مدى الحياة إن رأي الفقهاء ذلك، إذ هو موضوع إجتهادي قابل للأخذ والعطاء.

      • قولنا: (النزاهة في الإجراءات كانت مضمونة لكل من له عينان وعقل، فإنتفت شبهة التلاعب بالشريعة التي شابت إجتهاد الإخوان في خوض الإنتخابات في ظل الوضعِ البائد، وهو الخُسارة حتى بحساب المصالح والمفاسد.) هل كل اعتراضكم على الإخوان في سلوكهم الطريق السياسي وتشنيعكم عليهم بحق وتضليلكم لهم بحق في العهد البائد كان فقط من أجل عدم توفر النزاهة في الإجراءات أم للمخالفات العقدية التي تشوب هدا الطريق ولإقرار من يدخل هذه المجالس الشركية لحق التشريع للبشر حاكمية الشعب واحترام الدستور الكفري والقسم على ذلك من غير إكراه ملجئ؟

      في ضوء ما قررنا أنفا، نكرر أن الإنتخابات ليست كالإستفتاءات، إذ لها ما يسبقها وما يلحقها من محذورات شرعية، عقدية وحركية، فنقدنا للإخوان كان على الأساسين العقدي والحركيّ، ولذلك ذكرت كلمة "حتى" للتحديد، أي إذا نظرنا إلى البعد الحركيّ وإن لم يكن هو الفيصل في هذا. ولكن للتزضيح، لا ولم أرى تكفير الإخوان أو نوابهم غذ لهم تاويل خاطئ يرفع عنهم صفة الكفر في هذا الأمر.

      • (أن خوضَ الإنتخابات في ظلِ دستورٍ عِلماني لا يقر بالشريعة حرامٌ لا يجادل فيه أحدٌ، لكن الإستفتاء ليس كالترشيح للمجالس النيابية، الذي إعتبرته الإخوان من باب حِساب المصالح والفاسد، خطأً منهم وقلة إلمام بالشَريعة). هل الدخول محرم فقط أم أنه شرك بالله عز وجل خاصة مع القسم على احترام الدستور والرضاء بأصول اللعبة الديموقراطية وهو شرعية رأي الأغلبية وليس حكم الله عز وجل ولا أدري هل فضيلتكم ستؤيد دخول المنتسبين للتيار الإسلامي المجالس الشركية أم ترفض؟

      ذكرت قبلاً أنّ الدخول في هذه المجالس المؤسسة على الشرك باطل وشركٌ لا يجب فعله. لكن ليس كلّ من يرتكب شركاً بمشرك كما عليه إجماع أهل السُنة، إذ من له تأويل، ولو مدحوض مرجوح، يكون قد فعل حراماًن ولا يكون مشركاً. ولا أعرف أحداً من أهل العلم المعتبرين كُفر أعيان الإخوان بهذا الفعل. أما عن تأييدى للدخول في البرلمان الجديد، فهذا يتوقفُ على ما سيكون عليه الوضع التشريعي وقتها، ولكل حادث حديث.

      وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.