إزالة الصورة من الطباعة

مقاصدُ الشَريعة .. والتَجديد السُنيّ المُعاصِر - 4

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

وصَلتني عدة تسَاؤلات وتعليقات، أظنها آراء وتوجّهات مُستقرات أكثر منها تعليقاتٍ، فرَضَت علىّ أن أنحَرِفَ عن الإستمرار في الحديث عن صُلب الموضوع، إلى إيضاحِ بعض ما يتعلق بهذه التساؤلات والتعليقات، إذ إن الغَرضَ من الكِتابة هو التفاعُل مع القارئ ومحاولة إيضاح ما يغمُض منها على بعض القرّاء من المهتمين بالقراءة والتعقيب.

وقبل أن أتناول هذه التساؤلات والتعليقات، أود أن أوضح نقطة أو إثنتين، ليكون إيضاحُنا على بينة، وبلا غبش (رغم عِلمي بأن ذلك عزيزٌ على كلّ من تناول قلماً أنْ يَحسِم خِلافاً يُرضى كل قُرائه).

ثمّ إلى التساؤلات والتعليقات.

القصد من أن السلفيين حرّموا العمل السياسي من باب الجزيئات، كما يتضح من القول قبلها، أنهم إعتمدوا على أحاديث (وهي الجزئيات) وإن صحت، إلا إنها تعارضُ مقاصِد الشَريعة في هذا المَناط كما بيّنا، وما ذلك لعيبٍ قي الأحاديث، بل لخطأ في النظر منهم، حيث ضربوا الجزئيات بالكليات عن طريق خلط المناطات. ومن شاء التوسع في هذه النقطة، فليرجعُ إلى كتاب الإعتصام للشاطبيّ فهو اصل في بيان هذا الأمر.

والرد على هذا بطبيعة الحال هو ما يعتقده كلّ مسلمٍ موحّدٍ، اننا في مجال الحديث عن الإسلام والمسلمين، فالحرية التي نعنيها هنا بالذات، هي الحرية التي تؤدى إلى تطبيق شرع الله سبحانه، ولا يحلّ الدفاع عنها بإرتكاب الشرك، أو بإعطاء أي بشرٍ حقّ التشريع من دون الله، أو تأييد رجلٍ مُحادٍ لله ورسوله، ولو دافع عن هذه الحرية. وهذه كلها بديهيات لا أعلم فيم التساؤل عنها. على كلّ حالٍ، اضيف هنا أن مبدأ الحرية هو مبدأٌ عامٌ خلقه الله سبحانه ليحيا به الإنسان، مسلماً كان أم كافراُ، ون لم تتم هذه الحرية إلا بالإسلام، ولذلك وصفهم عمرو بن العاص رضى الله عنه الروم بقوله "..وخامسة حسنة: وأمنعهم من ظلم الملوك"، وهو مقتضى الحرية بلا شك. وقد قال تعالى ممتنا على الناس بالإسلام :ويضع عنهم إصْرهُم والأغلال التي كانت عليهم" الأعراف 157، فوضع الإثر والأغلال يتضمن معاني الحرية كلها.

أبدأ بالقول تعقيباً أنه يجب ان نُفرق بين الإنتخاب في مجلسٍ يقوم على شريعة مخلّطة، وبين الإستفتاء الذي هو، بكل بساطة، سؤال وجواب.

ثم القول بأن (استفتاء يجرى في إطار أن حق التشريع في كل أمر من الأمور بإطلاق هو ملك للشعب)، فنقول:

الإستفتاء في اللغة هو السؤال كما ذكر إبي إسحاق، وهو يكون في الحق والباطل، وقد سأل الله سبحانه الكفار "فإستفتهم أهم أشدّ خلقاً" وهو ما يبيّن أن السُؤال لا غَضَاضَة فيه، إنما الإجابة هي المشكلة التي يقع فيها الكافر ويجتازها المُسلم لأنه يعلم أنه بالنسبة له تقريراً وتحصيلُ حاصلٍ. فإن سأل سائل: أتريد شرع الله محكماً؟ فلا بأس، بل يجب، الإجابة بنعمٍ تحت اي ظرفٍ أو طرحٍ أو تصورٍ.

وما قول المُعَلِق إن صَادف رَجلاً في الطريق، فأوقفه، ثم سأله: هل ترى أنّه يجب أن نتّبع الشَريعة، ام لا؟ فماذا يكون موقف المُعَلِق هناك؟ إما أن يردّ عليه بأنه بالطَبع يرى ويريد تطبيق الشريعة، أو أن يمسك عن الردّ كالأبكم، وهو جنون ما بعده جنون! هذا سؤال وجواب ليس فيه تحكيمٌ وغير تحكيمٍ. فالعقل العقل يا أولى الألباب.

ثم نحن نطرحُ إطاراً بديلاً لما طُرح في هذا التساؤل التقريريّ أعلاه، وهو في الحقيقة الأقرب للحقّ، هو إطارُ أنّ سؤالاً طُرح على شعبٍ مسلمٍ  أن يقرر ماذا يرى في تطبيق الشريعة؟ وهذا بالضبط ما حدث بطريق غير مباشرٍ، ومن هنا فقد ذكرتُ في تحليلي أنّ آلية الإستفتاء هي مقبولة شَكلاً في هذا الإطار إذ هو "سؤالٌ وجواب" لا أكثرَ ولا أقلّ.

وببيان ما ذكرت آنفا من نظرٍ، لا أدرى كيف يُسأل مُسلمٌ إن كان يقبل الشريعة الاسلامية دستورا وقانونا يحكم به في المَحَاكم، فيغلق فمه ويولي مُعرضاً؟ إلا إن عَاد إلى خَلط المَفاهيم، وإجبار القواعِد والإلتواء بالمُسلّمات لتخدم موقفاً ثابتاً لا يريد أن يتزحزح عنه.

وما علينا ما يقولون، فقبولهم برأي الغالبية لا طاعة ولا إذعانا هو محسوبٌ عليهم لا على المسلمين، إذا قال المسلمون لمن سأل: بالطبع نريد الشريعة، إما بهذه الطريقة أو بغيرها إن لم تُفلح هذه، فأجابوا بالقبول، إذن هي الشريعة، فما علينا وقتها إلا أن نأخذ بزِمام الحُكم ونغيّر كلّ ميكانيكيات التعَامل لتضمن أن لا يكون هناك إحتمالٌ لتدخل رئيسٍ أو مجلسٍ برلمانيّ في هذا التصوّر التشْريعيّ بعد، ومن هذا تخليص الجيش من رئاسته العلمانية، وكذا بقية المؤسّسات كلها. وهل البديل أن ننتظر حتى يؤمن هؤلاء فيقبلون تحكيم الشريعة عن رضا لا عن أغلبية!؟ أم أن يقول المسلمون: رغم أننا نعرف أننا الأغلبية التي سُتطبّق الشريعة في أرضنا، إلا اننا لن نقبل تطبيقها لأننا نريد أولاً أن يقبلَ المُتربّعُ على كُرسي الوزارة الآن هذا التطبيق إذعاناً؟ أين يقع هذا في باب الإفتاء ومقاصد الشريعة ومنظومة الشريعة كلها!؟

وأود ان أضيف هنا أنّ التصَور الذي يلمح له المُعَلِق لا يسمح بأي شَكلٍ من التَغييِر إلا بالقُوةِ والإنقِلابِ، إذ لا صورة لشَكلٍ سِلميّ مقبولٍ للمسلمين لتولّى السُلطة في هذا التصور، وإن قال الشعب كلمته بقبولها، ثم رضي النظام بهذا. وهو إحتمالٌ قائمٌ ولاشك، لكن أودّ أن أنبّه أن ذلك لم يكن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول دولةٍ مُسلمة بالمدينة، والتي كان غالبيتها من المسلمين وأقليتها من غيرهم، والقتال إنما كان فتحاً لغيرها.

نقول، إننا ذكرنا أن هذا من باب الفقه لا العقيدة، وإلا إن كنّا سنرى كلّ أمر من أمور الحياة أمر عقيدةٍ ومفاصلة، فسنكون صورة مطوّرة للتكفير والهجرة، وسنمشى بين الناس بالتكفير في كلّ أمر نختلف فيه فقهياً. وفي التصور الذي طرحته أعلاه، والذي يقوم على الشريعة بإطلاق، مع تخليص المؤسّسات من الإتجاهات الخَرِبة، يمكن ببساطة أن تكون هناك مواصفاتٍ للترشيح تضمن أن لا يتقلد الحكم من هو ليس أهل له. وهذا التصور المطروح بحدّ المدة يحدّ من إحتمالات الديكتاتورية التي هي من سِمات النَفس إن طَال أمَد سطوتها كما رأينا في ما لا يحصى من حالاتٍ في تاريخنا، وأين لنا عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز في عصرنا هذا. ولا باس ان يتغيّر هذا التصور إلى رئاسة مدى الحياة إن رأي الفقهاء ذلك، إذ هو موضوع إجتهادي قابل للأخذ والعطاء.

في ضوء ما قررنا أنفا، نكرر أن الإنتخابات ليست كالإستفتاءات، إذ لها ما يسبقها وما يلحقها من محذورات شرعية، عقدية وحركية، فنقدنا للإخوان كان على الأساسين العقدي والحركيّ، ولذلك ذكرت كلمة "حتى" للتحديد، أي إذا نظرنا إلى البعد الحركيّ وإن لم يكن هو الفيصل في هذا. ولكن للتزضيح، لا ولم أرى تكفير الإخوان أو نوابهم غذ لهم تاويل خاطئ يرفع عنهم صفة الكفر في هذا الأمر.

ذكرت قبلاً أنّ الدخول في هذه المجالس المؤسسة على الشرك باطل وشركٌ لا يجب فعله. لكن ليس كلّ من يرتكب شركاً بمشرك كما عليه إجماع أهل السُنة، إذ من له تأويل، ولو مدحوض مرجوح، يكون قد فعل حراماًن ولا يكون مشركاً. ولا أعرف أحداً من أهل العلم المعتبرين كُفر أعيان الإخوان بهذا الفعل. أما عن تأييدى للدخول في البرلمان الجديد، فهذا يتوقفُ على ما سيكون عليه الوضع التشريعي وقتها، ولكل حادث حديث.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.