فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      نَمَطٌ مُغْرِضٌ ونَمَطٌ خَبيثْ!

      استميح إمامنا العلامة الجليل محمود شاكر رحمه الله عذراً في أنني استعرت قالب عنوان كتابه الفذّ "نمََطٌَََ صعبٌ ونمطٌ مخيف" لأصوغ عنوان هذا المقال فإن له بكتابه نسبا وثيقاً يَشْرُف به ويعتزّ. وسأكون أكثر إلحاحا في طلب عونه بأن أنقل عنه فقرة من كتابه هذا لتكون دلالة على ما أريد أن أقـرر مما يأتي من المقال. يقول شيخنا الجليل رضى الله عنه: "والمُتمَني تَهْجُمُ به أمَانيُّـه على المَعَاطب! فمن البيّن أن ما أتمناه سوف يرمي بنا في اليمّ، يَمّ العروض الذي لا يدرك قعره ولا شطّاه! وهو علم سُلِب النَشْأُ حَقَهم في معرفته كما سُلِبوا حقهم في معرفة كثير من علوم أمتهم، ومن علوم لسانها وتاريخها، بالتحكم والتسلط في برامج التعليم من ناحية، وبالجرأة على حذف علوم كثيرة قديمة بجرّة قلم، وبلا تدبر ولا إعادة نظر، من ناحية أخرى" نَمَطٌ صعب ونَمَطٌ مخيف ص 88. وبيت القصيد هو في تقريره ما سُلب من حقِ الشباب في العلم والمعرفة بتراثهم.

      والقصة، يا سادة، أنّي كنت أتدبر بعض المعلقات العشر، معلّقَتىّْ عمرو بن كُلثوم وطُرَفة بن العبد على وجه الخصوص، إعداداً لدرس في الأدب العربي، وكان أن عاودني فيهما ما لاحظت منذ أكثر من ربع قرن من الزمان، وهو فساد ترتيب أبياتِهما، مما أعاد لذهنى ما كتب شيخنا الجليل في كتابه الآنف الذكر عن صحة نسبة قصيدة تأبّط شرّاً "إن بالشِعْبِ الذي دون سَلْعٍ" وعن خلل ترتيب الأبيات في القصيد العربي بشكل عام، وذلك المنهج السديد الذي اتبعـه شيخنا العلامة في ربط القصيدة بالعروض وبحارها الخمسة عشر، وموقعها من دوائره الخمس، بحالة الشاعر النفسية مما يعين على كشف العديد مما خَبُـأ من أسرار القصيد أو مما كان من خطأ الترتيب أو النسبة من الرواة المتعاقبين، أو مما لعبت به أيدى العابثين من ناحلي الشعر. ثم أخذني الفكر فيما قرر شيخنا عام 1968 ميلادية من حرمان هذه الأجيال من تراث آبائها من تاريخ ولغة. أليس هذا الغرض الذي يحاوله الغزاة الصليبيون اليوم وما يوافقهم عليه أذنابهم ممن خانوا قومهم وباعوا دينهم بدنياهم ممن بيده سلطة صنع القرار؟ حذف ما هو من صلب ثقافتنا وعلومنا مما يصل حاضرنا بماضينا؟

      علم هؤلاء المغرضون وأتباعهم الخبيثون أن قطع صلة الأجيال بعلومها الُلغوية يفصل بينها وبين ما حمله الآباء من قيم وخصائص تجعلهم يتفردون بين الأمم، فاللغة هي قالب الفكر في كلّ أمة، فيها تظهر خصائصها، وتتبلور معادن أخلاقها، خاصة أمة العرب الذين كانت لغتها وعاء فكرها ومصدر ثقافتها، فعُـرفوا بشعرهم الذي لا تباريهم في مذاقه وفنـونه أمة من الأمم.

      وهذا الفصل والبتر ليس وليد هذا العقد من الزمن، وإن كان قد ثقل وطؤه واشتد رزحه بما مازجه من مساندة الصليبية الغازية، بل قد أطل على أمتنا منذ أن دخلت الجامعة المصرية ببرامجها التي تدرس العلوم العلمانية الدنيوية، ولا تلقي بالا لعلوم الأمـة التي هي قوام وجودها كعلوم الشريعة والعربية والتاريخ، إلا ما تقدمه في كليات ما يسمى "الآداب" من مناهج تستحي أن تنسب للعربية أو أن تنتج لُغويا. وكان القائمون على هذا ممن تشبعوا بعلوم الغرب وعشقوا مناهجه مثل أحمد لطفي السيد ومن بعده طه حسين الذي خرج على المصريين بكتابه "مستقبل الثقافة في مصر" يريد أن يجرّد الأزهر والجيل من كل رباط يربطه بثقافته وأن يُحكم بدلا من ذلك قبضة الثقافة الغربية، ولا غرو فهو عدو الأزهر الأول، والعجب أنه قد أصبح وزيرا للتعليم! بعد أن أصدر الأزهر فتوى بمروقه عن الدين إثر ما أشاع في كتابه "الأدب الجاهلي" من هجوم على مسلّمات إسلامية راسخة دون علم أو عقل.

      والأمر اليوم ما هو إلا امتداد لذاك التوجه الخبيث المقيم، المدعوم بالتوجيه المغرض الوافد، تغيير الثوابت عن طريق تغيير المناهج، وصرف الشباب عن التعرف على علوم أمته ليرقى بها ويعلو، وما علم العَروض إلا مثال على ما خسره الجيل من علوم أمته، فهو علم يصقل الذوق الفني ويرقي الحسّ والشعور ويعلو بالروح على المادة، ولكن إن كان الأزهر نفسه، وشيخه على رأسه، قد أطبق فمه وأغمض عينيه وأصمّ أذنيه وكأنما لا يدرى ما يراد به، فماذا على الشباب أن يضيّعوا مجد أمتهم الأثيل ويفرّطوا في تراثها الأصيل!