فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      إنَّ الدين عند الله الإسلام

      كتبه هاني عابد وقدم له د. طارق عبد الحليم

      تقديم

      إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونصلى ونسلم على نبيه المصطفي الذي أرسله خاتماً للأنبياء وأنزل معه الكتاب حجة على المخالف المعاند ، وليكون به المؤمنون " شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا " (البقرة 143) .

      لا يشك عاقل اليوم في أننا نعيش مرحلة من المراحل التي تواترت بذكرها الأحاديث ، وأعلمنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أن الفتن فيها كقطع الليل المظلم ، وأن المرء فيها يصبح مسلما ويمسى كافرا ، وأن أهل العلم ينقرضون ويتصدر الناس جهالٌ ، فيفتون في دين الله فضلوا وأضلوا . كلها شواهد نعيشها ليلنا ونهارنا خاصة في هذه البقاع من الأرض التي كتب الله علينا أن نقطنها حتى حين .

      ثم إن واجب الدعوة بصفة عامة ، وفي هذه البقاع بصفة خاصة ، هو مما أكدته الشريعة الغراء بما لا يجب الإعادة في إثباته والإطناب في تقريره ، والدعوة تتضمن شقين ، دعوة المسلمين إلى الإسلام ، وتصحيح مفاهيم المسلمين التي انحرف بها أصحابها عن الجادة ، وكلاهما من أوجه الدعوة الواجبة على القادر عليها . والقدرة على الدعوة والتأهل لمسؤلياتها هو ما قصدت إلى الإشارة اليه في هذا المقام ، إذ أنه لقائل أن يقول : ما لكاتب هذا البحث وللدعوة ، أليس الحديث في الأمور الشرعية موكّل بالعلماء وممن بلغ درجة في العلم يقرّ له الناس بها حقّ الإفتاء والحديث عن الشرع ؟ فنقول : مما لا نختلف عليه أن الإفتاء في دين الله أمر يجب أن يتأهل له المفتي بأن يكون ممن شدا في العلم وحلق في أجوائه و درس أصوله وفروعه ، وأرجع جزئياته إلى كلياته ، ورد شواهده إلى قواعده ، وتهيأ له من العلم بالعربية ما يجعله في مأمن من الزلل في فهم القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين ، وما صدر من حديث عن أبلغ الفصحاء صلى الله عليه وسلم ، وعن صحابته وتابعيهم مما هو من بليغ الكلام ومحكمه . هذا مما لا ينتطح فيه عنزان ، ولكن أيعنى هذا أن يرى المسلم من طلاب العلم أمر مما يخالف ما علم من الدين بالضرورة فيقف مكموم الفم مكتوف اليدين ، لا يحرك من نفسه ساكناً ولا يدفع عن الشريعة طاعناً ، فيقول ما لي ولهذا الشأن ؟ اللهم لا و ألف لا ، فإن يجب أن ندرك أن من مسائل الشرع ما هو مما علم من الدين بالضرورة ، وما استقر من الأحكام مما لا يجعل من يوصى به أو يؤكده لغيره من الناس قائما مقام الإفتاء ، فالفتوى هي تنزيل حكم شرعي على واقع معيّن ، وما نحن بصدده هو تقرير حكم شرعي ثابت لا الإتيان بفتوى معينة . و هو ، فيما نرى ، مما يستوى فيه العالم وطالب العلم الذي على معرفة بالأحكام الشرعية العامة مما عُلم من الدين بالضرورة كما ذكرنا ، مثل وجوب الصلوات الخمس ، والصيام والزكاة والحج ، وحجاب المرأة المسلمة ، وتحريم الزنا والخمر والقمار ، وتحريم موالاة المشركين وبطلان الدعاء لغير الله تعالى ، وكفر كل من هو ليس على دين الإسلام ، إذ هذه الأمور هي مما وصفه العلماء بأنه مما علم من الدين بالضرورة ومما اشتهر بين الناس قاصيهم ودانيهم حتى لم يعد هناك مجال لتبليغ مبلغ فيه ، وأصبح مخالفها ، إن ذكرت له هذه المخالفة فلم يرجع عنها وأصر عليها ، كافر كفرا أكبر ينقل عن الملة .

      فمثل هذه الأمور الواضحات الجليات ، من مستقرات الأحكام ، هي مما يجب على الكلّ إبلاغها إن علموا بها ، وعرفوا موضع المخالفة عنها ، إذ إن العلم بها ضرورى من ناحية ، والإعلام بها لا يتوقف على غيرها من ناحية أخرى .

      أمر آخر نود أن ننبه عليه في هذه التقدمة ، فإنه مما لا شك فيه أن "أهل الذكر" من علماء أهل السنة ، هم الحقيقون بالحديث في كل المسائل التي تواجه المسلمين في حياتهم ، ولكن يجب أن يدرك العلماء من المشايخ ممن طعن به العمر وشابت منه الذوائب ، وبلغ عقده السادس أو السابع ، وحطّ رحاله في تلك المرحلة من العمر الذي عرفتها العرب بأنها "دقاقة الرقاب" ، يجب عليهم أن يفسحوا المجال أمام الشباب الناشئ أن يعبر عن رأيه ويشارك في الدعوة ، مع الحرص على بيان أن تحصيل العلم أولى من الحديث قبل أوان الحديث ، وأن هناك من المسائل التي لا يصح أن يتناولها الباحث الشاب إلا بعد أن يحصّل من العلم ما يؤهله لأن يتحدّث في دين الله غير هيّاب .

      و لذلك فإن دار الأرقم قد نهجت منهجا يقوم على تشجيع ناشئة الشباب من طلاب العلم على إبداء ما يعنّ لهم مما يوافق الشرع ويتمشى مع مستقرات الأحكام ، وأن يدربهم على ممارسة البحث وطرق الإستدلال والنظر ، فيعدهم بذلك لقيادة الأمة في مستقبلها الواعد إن شاء الله تعالى .

      وهذا البحث الذي بين أيدى قراء دار الأرقم ، هو بحث جيّد أعدّه الإبن هاني عابد . و هو ممن دأب على النظر وحرص على طلب العلم ، مع نفس – ولا نزكي على الله أحداً – تغضب لله وتحرص على بيان الحق . والبحث يتميز بوضوح الهدف وتسلسل الفكرة مما يجعل القارئ لا يضلّ بين سطوره باحثا عن الغرض من البحث والذي هو سمة عامة من سمات من تصدى للكتابة دون التحلى بأدواتها . و موضوع البحث موضوع غاية في الأهمية إذ هو يتصدى لمن غلبت عليه البدعة ، وتلاعبت به أهواء نفسه ، مع جهل فاضح بالشريعة فأفتى بما يخالف أصل الدين من أن "الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ" وقال بما لم تستطعه الأوائل من أهل البدعة ، من أن اليهود والنصارى هم من المؤمنين الناجين يوم القيامة ! وكفى بهذه القولة في ذاتها كفراً ومروقاً على دين الله .

      و لا نفرغ من هذه التقدمة قبل أن نشير إلى أن ما ثبت في الشرع من كفر اليهود والنصارى و كل من هو على دين مخالف لدين الإسلام ، لا يمنع من إقامة العدل في التعامل معهم ، إذ أن من كليات الشريعة الثابتة إقامة العدل ، وكفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وكراهة المسلم للكفر والكفار لم يعتبرها الشارع مانعا من إقامة العدل في معايشتهم ومعاملتهم حيث يقول تعالى " وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا " (المائدة 8) فالشنآن لا يمنع من العدل ، بل إننا أمرنا أن نتعامل معهم بما يتناسب مع أوضاعهم وتعاملهم مع المسلمين ، فالمعاهدين والمسالمين ، ومنهم من يعيش المسلمون بين ظهرانيهم ، قد أمرنا الله سبحانه أن نبرهم وأن نقسط اليهم طالما لا يعتدون على ديننا أو أموالنا وعرضنا . و حسن المعاملة و البر والقسط يجب أن تظهر في تعاملنا مع أهل الكتاب ممن نعيش بين ظهرانيهم ، عملاً بكتاب الله وسنة رسوله ، ليس أنها من قبيل الخضوع والخنوع والتذلل والتقرب البغيض مثلما يفعل أصحاب المنطق الإندماجي (integration) المريض . فالمسلمون يبيعون ويشترون ويتعاملون في كافة المعاملات ، إلا ما حرمتها الشريعة كالربا ، بل ويتزوجون من أهل الكتاب ، ويأكلون ذبائحهم ، ويساعدون محتاجهم ، ويتعاونون معهم على ما هو من أعمال البر عامة . ولكن الخطأ كل الخطأ أن يكون ذلك من منطلق تصور عقائدي خَرِب ، أنهم مؤمنون وأنهم من أهل الجنة ! وهو ما بينه الباحث في بحثه ، الذي نخلي بين القارئ وبينه .

      والله سبحانه من وراء القصد ، وهو يهدى السبيل

      الحمد لله رب العاالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد ،

      يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام [1] : ( وَقَوْله تَعَالَى "إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلام" إِخْبَارًا مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لا دِين عِنْده يَقْبَلهُ مِنْ أَحَد سِوَى الْإِسْلام وَهُوَ اِتِّبَاع الرُّسُل فِيمَا بَعَثَهُمْ اللَّه بِهِ فِي كُلّ حِين حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي سَدّ جَمِيع الطُّرُق إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ لَقِيَ اللَّه بَعْد بَعْثَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينٍ عَلَى غَيْر شَرِيعَته فَلَيْسَ بِمُتَقَبَّلٍ )[2] .

      إن ممَّا علم من الدين بالضرورة أن حكم من لم يؤمن بالله تعالى و لم يصدق الرسول صلى الله عليه و سلم فيما جاء به ، و انقاد لشريعة الإسلام مخلصاً لله الدين ، فإن حكم من لم يأتي بهذه الشروط كلها هو الكفر الأكبر المستحق لعذاب الله و الخلود في النار - و العياذ بالله - ، و هذا الحكم معروف للصغير و الكبير ، و العامة و الخاصة ، و حديث العهد بالإسلام و من نشأ و ترعرع في الإسلام من صغره .

      لكن يأبى المبطلون إلا أن يبدلوا حكم الله تعالى و يحرفوا الكلم عن مواضعه ليغووا به فريقاً من المسلمين و يحيدوا بهم عن الصراط المستقيم ، و يتخذوه قرباناً يتقربون و يتذللون به لأفراد و حكومات ليبتغوا عندهم العزة ، أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا[3] . و لنضرب مثالاً لهذا الإغراض ، أخبرنا ثفة أن أحد "الدعاة" ادعى أن من أهل الكتاب من هم مؤمنين مستحقين لجزاء الله ، ناجين يوم الدين و إن لم يتبعوا خاتم المرسلين صلوات الله و سلامه عليه و على آله أجمعين ، و قد أثار هذه الشبهة على مرأى و مسمع من آلاف المسلمين في مؤتمر في تورونتو أول هذا العام ، و بعد بضعة أشهر قرأت مقالاً لهذا الداعي في صفحات جريدة عربية محلية بمناسبة "يوم كندا" (Canada Day) ، و في هذا المقال استشهد الداعي بحديث البخاري : " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر "[4] فما بالنا بمن ينصر هذا الدين (على حد زعمه) من الذين وصفهم الله بأنهم يؤمنون بالله و اليوم الآخر و استدل بقول الله تعالى : مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ[5] ، قصد بهذا أعضاء البرلمان الكندي من النصارى الذين يعملون مع مسلمي البلدة لقضاء حوائجهم و إنفاذ مستحقاتهم . و نحن لا نخص هذا البحث بشخص معين ، إنما نقدم بعض الشواهد التي دفعتنا لكتابة هذه السطور . و نحن لا نعلم هل صدر هذا عن الداعي جهلاً ، أم أنه أعرض و نئا بجانبه عن سواء السبيل .

      و في الحقيقة إن هذه القضية أثارها محمد عبده قديماً و يثيرها حسن الترابي حديثاً ، و من نهج على نهجهم من المنسوبين إلى مجال الدعوة في الغرب ، و نحن لا نبالي بذكر أسمائهم لأنهم في الواقع ليسوا بشيئ ، فندعهم مضمرين آملين أن يدركوا الحق و يرجعوا عن دعواهم و يعلنوا توبتهم على ملأ من الناس ليتبرؤوا من هذه الشبهات .

      هذا و مما هيج الأحزان و أثار الأشجان أن علمت بالكثير ممن انخدع بهذه الشبهات من الأقربين ، فعزمت أن أبين حكم الله تعالى في هذه المسألة مستمداً البرهان من كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ، و هذا إنفاذاً لقوله تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ[6]، سائلاً الله العظيم أن يوفقني إلى ما يحب و يرضى و أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم .

      أولاً : وجوب اتباع خاتم النبيين و المرسلين صلوات الله و سلامه عليه :

      إن من المعلوم من الدين بالضرورة كما سبق أن ذكرنا أن من لم يكن على دين الإسلام فهو كافر ، و أهل الكتاب هم ممن يدينون بغير دين الإسلام ، فهم من جملة الكفار ، إلا أن الله سبحانه و تعالى قد خصهم ببعض الأحكام لكونهم على أصل كتاب سماوي و إن حُرِّف ، فأجاز لنا أن نأكل من ذبائحهم و نتزوج من نسائهم ، و نأخذ منهم الجزية عن يد و هم صاغرون . فأحكام أهل الذمة مذكورة في كتب الفقه ، فاليرجع لها من شاء ، و لكن هذه الأحكام لا تغير من كونهم كفارا خالدين في النار إن لم يؤمنوا بالله و رسوله و الكتاب الذي نزل على رسوله صلى الله عليه و سلم .

      و هذا ثابت بالكتاب و السنة ، قال تعالى :

      لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (المائدة 17 ، 72)

      لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المائدة 73)

      وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (التوبة 30)

      مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ (البقرة 105)

      وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ (البقرة 109)

      وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (آل عمران 69)

      قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَعْمَلُونَ ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (آل عمران 98-99)

      هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ (الحشر 2)

      أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (الحشر 11)

      لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (البينة 1)

      إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (البينة 6) و الآيات بهذا المعنى كثيرة .

      و نحن نتلوا سورة الفاتحة و نتعبد بها إلى الله في كل ركعة نركعها ، و مما جاء في سورة الفاتحة : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ، جاء في تفسير ابن كثير أن ( الْيَهُود فَقَدُوا الْعَمَل وَالنَّصَارَى فَقَدُوا الْعِلْم وَلِهَذَا كَانَ الْغَضَب لِلْيَهُودِ وَالضَّلَال لِلنَّصَارَى لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ وَتَرَكَ اِسْتَحَقَّ الْغَضَب بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَعْلَم وَالنَّصَارَى لَمَّا كَانُوا قَاصِدِينَ شَيْئًا لَكِنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى طَرِيقَة لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا الْأَمْر مِنْ بَابه وَهُوَ اِتِّبَاع الْحَقّ ضَلُّوا ، وَكُلّ مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَّارِي ضَالّ مَغْضُوب عَلَيْهِ لَكِنْ أَخَصّ أَوْصَاف الْيَهُود الْغَضَب كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ " مَنْ لَعَنَهُ اللَّه وَغَضِبَ عَلَيْهِ " وَأَخَصّ أَوْصَاف النَّصَارَى الضَّلَال كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ " قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْل وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاء السَّبِيل " وَبِهَذَا جَاءَتْ الْأَحَادِيث وَالْآثَار وَذَلِكَ وَاضِح بَيِّنٌ )[7] ثم شرع في ذكر الأحاديث الواردة بمثل هذا المعنى .

      و ذكر القرطبي في تفسيره ( اُخْتُلِفَ فِي " الْمَغْضُوب عَلَيْهِمْ " و" الضَّالِّينَ " مَنْ هُمْ فَالْجُمْهُور أَنَّ الْمَغْضُوب عَلَيْهِمْ الْيَهُود ، وَالضَّالِّينَ النَّصَارَى ، وَجَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث عَدِيّ بْن حَاتِم وَقِصَّة إِسْلَامه ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه . وَشَهِدَ لِهَذَا التَّفْسِير أَيْضًا قَوْله سُبْحَانه فِي الْيَهُود : " وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه " [ الْبَقَرَة : 61 وَآل عِمْرَان : 112 ] . وَقَالَ : " وَغَضِبَ اللَّه عَلَيْهِمْ " [ الْفَتْح : 6 ] وَقَالَ فِي النَّصَارَى : " قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْل وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاء السَّبِيل " [ الْمَائِدَة : 77 ] . وَقِيلَ : " الْمَغْضُوب عَلَيْهِمْ " الْمُشْرِكُونَ . وَ " الضَّالِّينَ " الْمُنَافِقُونَ )[8] .

      يقول ابن تيمية في كتاب الإيمان الأوسط ( وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ خَرَجَتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَ عَلَيْهَا أَحَدُ ضِدَّيْهِ فَالْيَهُودُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْكِبْرُ وَيَقِلُّ فِيهِمْ الشِّرْكُ وَالنَّصَارَى يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الشِّرْكُ وَيَقِلُّ فِيهِمْ الْكِبْرُ ) . و يقول في موضع آخر ( وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } لِأَنَّ الْيَهُودَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَلَا يَتْبَعُونَهُ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ الَّذِي يُوجِبُ بُغْضَ الْحَقِّ وَمُعَادَاتَهُ . وَالنَّصَارَى لَهُمْ عِبَادَةٌ وَفِي قُلُوبِهِمْ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ وَرَهْبَانِيَّةٌ ابْتَدَعُوهَا لَكِنْ بِلَا عِلْمٍ فَهُمْ ضُلَّالٌ )[9] . و في موضع آخر ( وَ " الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ " عَلِمُوا الْحَقَّ فَلَمْ يُحِبُّوهُ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَ " الضَّالُّونَ " قَصَدُوا الْحَقَّ لَكِنْ بِجَهْلِ وَضَلَالٍ بِهِ وَبِطَرِيقِهِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ وَهَذَا حَالُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا حَالُ النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ ضَالُّونَ . كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } )[10] .

      و ‏‏عن ‏ ‏جابر ‏أن ‏عمر بن الخطاب ‏ ‏أتى رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏بنسخة من التوراة فقال يا رسول الله هذه نسخة من التوراة فسكت فجعل يقرأ و وجه رسول الله يتغير فقال ‏أبو بكر ‏ثكلتك ‏ ‏الثواكل ‏ما ‏ترى ما بوجه رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏فنظر عمر ‏إلى وجه رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏فقال أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ‏صلى الله عليه وسلم ‏رضينا بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد ‏نبيا فقال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم " ‏والذي نفس ‏محمد ‏بيده ‏لو بدا لكم ‏موسى ‏فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني " (سنن الدارمي في المقدمة) ، و روى الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" بإسناد ضعيف " لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ، ولو كان حيا ثم أدرك نبوتي حيا لاتبعني" ، و روى الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" بإسناد حسن " لو نزل موسى فاتبعتموه و تركتموني لضللتم ، أنا حظكم من النبيين و أنتم حظي من الأمم "[11] .

      فليتأمل القارئ هذه الأحاديث ، يصرح الرسول صلى الله عليه و سلم أن موسى عليه السلام لا يسعه إلا اتباع رسالة خاتم الأنبياء و المرسلين ليكون من الناجين ، فكيف بأتباع موسى ؟ أليس من الأولى وجوب اتباعهم للرسول صلى الله عليه و سلم لينجوا يوم الدين . و مما يؤمن به كل مسلم أن عيسى بن مريم عليه السلام سينزل في آخر الزمان و يقتل المسيح الدجال و يكسر الصليب و يقتل الخنزير ، و هو في كل هذا متبع لدين رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لو أمكن له ألا يتبعه لكان من الهالكين ، أوليس الأولى أن يتبع قوم عيسى محمد صلى الله عليه و سلم ليكونوا من الناجين ؟ و هذا تفسير قول الله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ[12] ، قال القرطيي ( الرَّسُول هُنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْل عَلِيّ وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَاللَّفْظ وَإِنْ كَانَ نَكِرَة فَالْإِشَارَة إِلَى مُعَيَّن ... فَأَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ أَجْمَعِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام وَيَنْصُرُوهُ إِنْ أَدْرَكُوهُ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِذَلِكَ الْمِيثَاق عَلَى أُمَمهمْ )[13] .

      و عن ‏أبي هريرة عن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏أنه قال : والذي نفس ‏محمد ‏بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ( رواه مسلم و أحمد ) . علق الإمام النووي على الحديث في شرح صحيح مسلم قائلاً : ( وأما الحديث ففيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم و في مفهومه دلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور وهذا جار على ما تقدم في الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح والله أعلم . ‏‏وقوله صلى الله عليه وسلم : لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته . و إنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيها على من سواهما و ذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى . والله أعلم )[14] .

      و قد يقول قائل أن أهل الكتاب المعاصرين لم تصلهم الرسالة المحمدية و لم تقم عليهم الحجة ، و نحن لا ندري كيف يدَّعي مثل هذا عاقل ، و إنما هو من تزيين و تلبيس الشيطان الرجيم ، فنقول - و بالله التوفيق – كيف يصح قولك و قد أصبح الإسلام منتشر في جميع أنحاء المعمورة ؟! و أصبحت الإتصالات الحديثة تنقل أخبار المسلمين يومياً عبر القنوات الفضائية و قنوات الإذاعة و شبكة الإنترنت ؟! كيف و ترجمات القرآن تباع على "أمازون دوت كوم" (amazon.com)! و في جل أسواق الكتب ؟! و مما تقرر أنه لا يشترط في بلوغ الحجة أن تصل عن طريق مسلم ، بل قد تبلغ الحجة عن غير المسلمين مثل "سي إن إن" (CNN)، و هذا خلط واضح بين بلوغ الحجة و فهم الحجة ، و إنما يؤاخذ البشر ببلوغ الحجة .

      " يقول الشيخ أبو بطين موضحاً أقوال الإمام ابن تيمية في نفس الموضوع ( فقول الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى : إن التكفير و القتل [القتل هنا هو حد المرتد و ليس الأصل في معاملة أهل الكتاب المعنيون بهذا البحث] موقوف على بلوغ الحجة ، يدل كلامه على أن هذين الأمرين – وهما التكفير والقتل – ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقاً بل على بلوغها ، ففهمها شيء وبلوغها شيء آخر ، فلو كان هذا الحكم موقوفًا على فهم الحجة ، لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة ، وهذا بين البطلان .

      بل آخر كلامه رحمه الله يدل على أنه يعتبر فهم الحجة في الأمور التي تخفى على كثير من الناس ، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة ) "[15] .

      " و يقول الإمام ابن القيم ( و الإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، و الإيمان بالله و برسوله واتباعه فيما جاء به ، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم ، و إن لم يكن كافرًا معاندًا فهو كافر جاهل . فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين ، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارًا ؛ فإن الكافر من جحد توحيد الله و كذب رسوله إما عنادًا أو جهلاً و تقليدًا لأهل العناد) ا هـ . "[16]

      ثم لو افترضنا جدلاً أن هناك من لم تبلغه حجة الإسلام ، فهو في حكم أهل الفترة ، و قد اختلف علماء أهل السنة في أهل الفترة ، " فقد ذهب فريق إلى منع ذلك شرعاً ـ وإن أجازه عقلاً " و ذهب فريق بإمكان وجودهم شرعاً ، و هذا البحث يطول شرحه و ليرجع إليه من شاء في كتاب "الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد"[17] ففيه بحث قيم حول هذه المسألة و أقوال العلماء فيها ، و نحن ننقل منه ما يخصنا في هذا الموضع :

      " فزمان الفترة هو زمان اندرست فيه الشرائع كلية ، وانطمست كل أعلام النبوة و آثارها ، ولم يعرف قول نبي و لا شريعته ، و لم يجد الناس من يهديهم إلى الدين الحق إذا اجتهدوا في البحث عنه ، فلم يتمكنوا منه لعدم توفر إمكانية العلم .

      ... فقياس أهل زماننا على أهل الفترة لا يصح مطلقًا بأي وجه من الوجوه ، وإنما أهل الفترة ـ على هذا القول ـ قد انقطع وجودهم في الأرض منذ أن ربطت أجزاؤها بعضها ببعض بشتى وسائل الاتصالات الحديثة التي تكفل انتقال الأفكار والأخبار في مثل لمح البصر .

      فمناط وجود "أهل الفترة" غير متحقق في عالمنا اليوم ـ إن صح وجودهم مطلقاً ـ فلا يجوز الاحتجاج بهم ؛ وهذا من قبيل ما ذكرنا سابقًا وكثيرًا من أنه يجب أن تحمل أقوال العلماء والأئمة من السلف و الخلف ، كل قول على مناطه الحقيقي المقصود ، حتى لا تضيع الحقائق ، فنطبق أحكامًا على من ليس مكلفًا بها أصلاً ، ونخرج من مقتضاها من هو مكلف بها في حقيقة أمره ! "[18] .

      " يقول الإمام الشاطبي (..... ونظيره مسألة أهل الفترات العاملين تبعا لآبائهم ، واستنامة لما عليه أهل عصرهم من عبادة غير الله وما أشبه ذلك ، لأن العلماء يقولون في حكمهم إنهم على قسمين :

      * قسم غابت عليه الشريعة ، ولم يدر ما يتقرب به إلى الله تعالى ، فوقف عن العمل بكل ما يتوهمه العقل أن يقرب إلى الله ، ورأى ما أهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند إلا استحسانهم ، فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه ، وهؤلاء هم الداخلون حقيقة تحت عموم الآية الكريمة { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } .

      * وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله ، والتحريم والتحليل بالرأي ، فوافقوهم في اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل ؛ فهؤلاء نص العلماء على أنهم غير معذورين ، مشاركون لأهل عصرهم في المؤاخذة ، لأنهم وافقوهم في العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة ، فصاروا من أهلها ...) ا هـ . [19] "

      " و يجب أن نلاحظ أخيرًا ، أن كل ما نقلناه من خلاف بين العلماء في هذا الفصل ، إنما هو في أحكام الآخرة فقط ، أي في مآل الجاهل يوم القيامة في أحكام الثواب والعقاب عند الله سبحانه وتعالى ، وأما بالنسبة لأحكام الدنيا فلا خلاف بين العلماء في اعتباره كافرًا في ظاهر أمره ، وذلك لجريان الأحكام في الدنيا على هذا الأساس .

      يقول الإمام ابن القيم ( والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل ، فهذا مقطوع به في جملة الخلق ، أما كون زيد بعينه أو عمرو قامت عليه الحجة أم لا ، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه ، بل الواجب على العبد أن يعتقد :

      ـ أن كل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر .

      ـ وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول . هذا في الجملة والتعيين موكول إلى الله ، وهذا في أحكام الثواب والعقاب ، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر) ا هـ . [20]

      فهذا النص للإمام ابن القيم هو فصل الخطاب في موضوعنا ، فنحن كمسلمين أولاً ، و كدعاة إلى دين الله ثانيًا ، لا نتكلم عن أحكام الثواب والعقاب فهذا أمر موكول إلى الله سبحانه وتعالى وحده أولاً وآخرًا ، ولكننا نتحدث عن الإسلام والكفر باعتبارهما حكمين شرعيين تعبدنا الله بهما في أحكام الدنيا . فيجب التمييز جيدًا بين المقامين : مقام الظاهر ، ومقام الحقيقة ، مقام أحكام الدنيا ، ومقام أحكام الآخرة من ثواب وعقاب . "[21]

      و على هذا فقد بطل قول من قال أن أهل الكتاب معذورين بعدم بلوغهم دعوة الإسلام – إن صح هذا الافتراض الجدلي و نحن لا ندين لله بهذا الإعتقاد كما تقدم – فنحن نحكم بظاهر كفرهم .

      ثانياً : الشبهات :

      ذكرنا أن بعض المغرضين احتج بقول الله تعالى : لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ، و مثل الآية الكريمة : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .

      و هذه الآيات هي من جملة ما جاء في قوله تعالى : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ[22] ، فالراسخون في العلم يفهموا الآيات المتشابهات في مواضعها ، و يضموها إلى المحكمات ليخرجوا بالفهم السليم ، و إلا كانوا ممن في قلوبهم زيغ ، و من الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ[23] ، قال تعالى : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً[24] . فالقرآن لا يوجد فيه إختلاف التضاد .

      و الآيات المحكمات جاءت تنص على أن الدين عند الله الإسلام و أنه من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، قال تعالى : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ[25] .

      قال ابن كثير في تفسيره ( وَقَوْله تَعَالَى " إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلام " إِخْبَارًا مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا دِين عِنْده يَقْبَلهُ مِنْ أَحَد سِوَى الْإِسْلَام وَهُوَ اِتِّبَاع الرُّسُل فِيمَا بَعَثَهُمْ اللَّه بِهِ فِي كُلّ حِين حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي سَدّ جَمِيع الطُّرُق إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ لَقِيَ اللَّه بَعْد بَعْثَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينٍ عَلَى غَيْر شَرِيعَته فَلَيْسَ بِمُتَقَبَّلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ " الْآيَة )[26] . و قال البغوي (يعني الدين المرضي الصحيح ، كما قال تعالى : " وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ")[27] .

      و قول الله تعالى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[28] .

      جاء في تفسير الطبري ( الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة مِنْ الْخَاسِرِينَ } يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَمَنْ يَطْلُب دِينًا غَيْر دِين الْإِسْلَام لِيَدِينَ بِهِ ، فَلَنْ يَقْبَل اللَّه مِنْهُ ، { وَهُوَ فِي الْآخِرَة مِنْ الْخَاسِرِينَ } ، يَقُول : مِنْ الْبَاخِسِينَ أَنْفُسهمْ حُظُوظهَا مِنْ رَحْمَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ )[29] . و قال السعدي ( أي : من يدين لله بغير دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده ، فعمله مردود غير مقبول ، لأن دين الإسلام هو المتضمن للاستسلام لله ، إخلاصا وانقيادا لرسله فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه ، وكل دين سواه فباطل )[30] .

      فهذه الآيات هي الأصل الذي يرجع إليه الإنسان في تفسير ما تشابه من الآيات الأخرى ، و حتى لو جهل تفسير الآيات المتشابهة فإنه يتوقف على المحكم من آيات الله و أحاديث رسوله صلى الله عليه و سلم ، و لا يبطل الأدلة المحكمة بالمتشابهات . و بعد هذا التقديم ، فنحن نبين أقوال العلماء في تفسير الآيات المتشابهات بما يستقيم مع عقيدة المسلم الصحيحة :

      *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .

      وردت هذه الآية في ثلاث مواضع في القرآن : سورة البقرة 62 ، و المائدة 69 ، و الحج 22 . قال ابن كثير في تفسير الآية (لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ مَنْ خَالَفَ أَوَامِره وَارْتَكَبَ زَوَاجِره وَتَعَدَّى فِي فِعْل مَا لَا إِذْن فِيهِ وَانْتَهَكَ الْمَحَارِم وَمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ النَّكَال نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ مِنْ الْأُمَم السَّالِفَة وَأَطَاعَ فَإِنَّ لَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَكَذَلِكَ الْأَمْر إِلَى قِيَام السَّاعَة كُلّ مَنْ اِتَّبَعَ الرَّسُول النَّبِيّ الْأُمِّيّ فَلَهُ السَّعَادَة الْأَبَدِيَّة وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ وَيُخَلِّفُونَهُ .

      وَقَالَ السُّدِّيّ إِنَّ " الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَعَمِلَ صَالِحًا " الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَصْحَاب سَلْمَان الْفَارِسِيّ بَيْنَا هُوَ يُحَدِّث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ ذَكَرَ أَصْحَابه فَأَخْبَرَهُ خَبَرهمْ فَقَالَ : كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِك وَيَشْهَدُونَ أَنَّك سَتُبْعَثُ نَبِيًّا فَلَمَّا فَرَغَ سَلْمَان مِنْ ثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ قَالَ لَهُ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَا سَلْمَان مِنْ أَهْل النَّار " فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى سَلْمَان فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة فَكَانَ إِيمَان الْيَهُود أَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَسُنَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى جَاءَ عِيسَى فَلَمَّا جَاءَ عِيسَى كَانَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَأَخَذَ بِسُنَّةِ مُوسَى فَلَمْ يَدَعهَا وَلَمْ يَتْبَع عِيسَى كَانَ هَالِكًا وَإِيمَان النَّصَارَى أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِنْجِيلِ مِنْهُمْ وَشَرَائِع عِيسَى كَانَ مُؤْمِنًا مَقْبُولًا مِنْهُ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ لَمْ يَتَّبِع مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَيَدَع مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ سُنَّة عِيسَى وَالْإِنْجِيل كَانَ هَالِكًا . قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : وَرُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر نَحْو هَذَا " قُلْت " هَذَا لَا يُنَافِي مَا رَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " - قَالَ - فَأَنْزَلَ اللَّه بَعْد ذَلِكَ " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة مِنْ الْخَاسِرِينَ " فَإِنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ اِبْن عَبَّاس إِخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ لَا يُقْبَل مِنْ أَحَد طَرِيقَةً وَلَا عَمَلًا إِلَّا مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرِيعَةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد أَنْ بَعَثَهُ بِهِ فَأَمَّا قَبْل ذَلِكَ فَكُلّ مَنْ اِتَّبَعَ الرَّسُول فِي زَمَانه فَهُوَ عَلَى هُدًى وَسَبِيل وَنَجَاة فَالْيَهُود أَتْبَاع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَى التَّوْرَاة فِي زَمَانهمْ ... فَلَمَّا بُعِثَ عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل اِتِّبَاعه وَالِانْقِيَاد لَهُ فَأَصْحَابه وَأَهْل دِينه هُمْ النَّصَارَى ... فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا لِلنَّبِيِّينَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي آدَم عَلَى الْإِطْلَاق وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَصْدِيقه فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَته فِيمَا أَمَرَ وَالِانْكِفَاف عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا )[31] .

      و جاء في تفسير آية المائدة ( وَالْمَقْصُود أَنَّ كُلّ فِرْقَة آمَنَتْ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَهُوَ الْمِيعَاد وَالْجَزَاء يَوْم الدِّين وَعَمِلَتْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يَكُون ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى يَكُون مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّة بَعْد إِرْسَال صَاحِبهَا الْمَبْعُوث إِلَى جَمِيع الثَّقَلَيْنِ فَمَنْ اِتَّصَفَ بِذَلِكَ فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ وَلَا عَلَى مَا تَرَكُوا وَرَاء ظُهُورهمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى نَظِيرَاتهَا فِي سُورَة الْبَقَرَة بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَته هَهُنَا )[32] .

      *لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ[33] .

      قال القرطبي ( وَالْمَعْنَى : لَيْسَ أَهْل الْكِتَاب وَأُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاء ; عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب سَوَاء . وَذَكَرَ أَبُو خَيْثَمَة زُهَيْر بْن حَرْب حَدَّثَنَا هَاشِم بْن الْقَاسِم حَدَّثَنَا شَيْبَان عَنْ عَاصِم عَنْ زِرّ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : أَخَّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة صَلَاة الْعِشَاء ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِد فَإِذَا النَّاس يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاة فَقَالَ : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْأَدْيَان أَحَد يَذْكُر اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السَّاعَة غَيْركُمْ ) قَالَ : أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة " لَيْسُوا سَوَاء مِنْ أَهْل الْكِتَاب أُمَّة قَائِمَة - إِلَى قَوْله : وَاَللَّه عَلِيم بِالْمُتَّقِينَ " وَرَوَى اِبْن وَهْب مِثْله . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَنْ آمَنَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ اِبْن عَبَّاس لَمَّا أَسْلَمَ عَبْد اللَّه بْن سَلَام ، وَثَعْلَبَة بْن سَعْيَة ، وَأُسَيْد بْن سُعَيَّة ، وَأُسَيْد بْن عُبَيْد ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُود ; فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَام وَرَسَخُوا فِيهِ ، قَالَتْ أَحْبَار يَهُود وَأَهْل الْكُفْر مِنْهُمْ : مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا تَبِعَهُ إِلَّا شِرَارنَا ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ خِيَارنَا مَا تَرَكُوا دِين آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إِلَى غَيْره ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ : " لَيْسُوا سَوَاء مِنْ أَهْل الْكِتَاب أُمَّة قَائِمَة يَتْلُونَ آيَات اللَّه آنَاء اللَّيْل وَهُمْ يَسْجُدُونَ . إِلَى قَوْله : وَأُولَئِكَ مِنْ الصَّالِحِينَ ")[34]

      و روى ابن كثير ( عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ هَذِهِ الْآيَات نَزَلَتْ فِيمَنْ آمَن مِنْ أَحْبَار أَهْل الْكِتَاب كَعَبْدِ اللَّه بْن سَلَام وَأَسَد بْن عُبَيْد وَثَعْلَبَة بْن شُعْبَة وَغَيْرهمْ . أَيْ لَا يَسْتَوِي مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرهمْ بِالذَّمِّ مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " لَيْسُوا سَوَاء " أَيْ لَيْسُوا كُلّهمْ عَلَى حَدّ سَوَاء بَلْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِن وَمِنْهُمْ الْمُجْرِم وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى" مِنْ أَهْل الْكِتَاب أُمَّة قَائِمَة " أَيْ قَائِمَة بِأَمْرِ اللَّه مُطِيعَة لِشَرْعِهِ مُتَّبِعَة نَبِيّ اللَّه فَهِيَ قَائِمَة يَعْنِي مُسْتَقِيمَة " يَتْلُونَ آيَات اللَّه آنَاء اللَّيْل وَهُمْ يَسْجُدُونَ " أَيْ يُقِيمُونَ اللَّيْل وَيُكْثِرُونَ التَّهَجُّد وَيَتْلُونَ الْقُرْآن فِي صَلَوَاتهمْ )[35] .

      و قال السعدي في تفسير الآية ( لما بين تعالى الفرقة الفاسقة من أهل الكتاب وبين أفعالهم وعقوباتهم ، بين هاهنا الأمة المستقيمة ، وبين أفعالها وثوابها ، فأخبر أنهم لا يستوون عنده بل بينهم من الفرق ما لا يمكن وصفه ، فأما تلك الطائفة الفاسقة فقد مضى وصفهم ، وأما هؤلاء المؤمنون ، فقال تعالى منهم ( أُمَّة قَائِمَة ) أي : مستقيمة على دين الله، قائمة بما ألزمها الله به من المأمورات ، ومن ذلك قيامها بالصلاة ( يَتْلُونَ آيَات اللَّه آنَاء اللَّيْل وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) وهذا بيان لصلاتهم في أوقات الليل وطول تهجدهم وتلاوتهم لكتاب ربهم وإيثارهم الخضوع والركوع والسجود له . ( يؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي : كإيمان المؤمنين إيمانا يوجب لهم الإيمان بكل نبي أرسله ، وكل كتاب أنزله الله ، وخص الإيمان باليوم الآخر لأن الإيمان الحقيقي باليوم الآخر يحث المؤمن به على ما يقر به إلى الله ، ويثاب عليه في ذلك اليوم ، وترك كل ما يعاقب عليه في ذلك اليوم ( ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) فحصل منهم تكميل أنفسهم بالإيمان ولوازمه ، وتكميل غيرهم بأمرهم بكل خير ، ونهيهم عن كل شر ، ومن ذلك حثهم أهل دينهم وغيرهم على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم )[36] .

      *كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون [آل عمران : 110]

      َقال ابن كثير في تفسيره ( وَمَنْ لَمْ يَتَّصِف بِذَلِكَ أَشْبَهَ أَهْل الْكِتَاب الَّذِينَ ذَمِّهِمْ اللَّه بِقَوْلِهِ تَعَالَى " كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَر " فَعَلُوهُ الْآيَة : وَلِهَذَا لَمَّا مَدَحَ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّة عَلَى هَذِهِ الصِّفَات شَرَعَ فِي ذَمّ أَهْل الْكِتَاب وَتَأْنِيبهمْ فَقَالَ تَعَالَى " وَلَوْ آمَنَ أَهْل الْكِتَاب " أَيْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّد " لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرهمْ الْفَاسِقُونَ " أَيْ قَلِيل مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَأَكْثَرهمْ عَلَى الضَّلَالَة وَالْكُفْر وَالْفِسْق وَالْعِصْيَان .

      و قال الطبري ( الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ آمَنَ أَهْل الْكِتَاب لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرهمْ الْفَاسِقُونَ } يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْره : وَلَوْ صَدَّقَ أَهْل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ عِنْد اللَّه فِي عَاجِل دُنْيَاهُمْ ، وَآجِل آخِرَتهمْ . { مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ } يَعْنِي مِنْ أَهْل الْكِتَاب مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ، الْمُؤْمِنُونَ الْمُصَدِّقُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه ، وَهُمْ عَبْد اللَّه بْن سَلَام ، وَأَخُوهُ ، وَثَعْلَبَة بْن سُعَيَّة وَأَخُوهُ ، وَأَشْبَاههمْ مِمَّنْ آمَنُوا بِاَللَّهِ ، وَصَدَّقُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاتَّبَعُوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه . { وَأَكْثَرهمْ الْفَاسِقُونَ } يَعْنِي : الْخَارِجُونَ عَنْ دِينهمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ دِين الْيَهُود اِتِّبَاع مَا فِي التَّوْرَاة ، وَالتَّصْدِيق بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَل