فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ثورةُ الشَبابِ .. وثَروةُ الشُيوخِ

      لعلّ ما يعزّينى، كأحد شُيوخ هذا الجيل، الذين تَسَرّبت من بين أيديهم فُرصَةُ المُشَاركةِ الفِعْليةِ في هذه الثورةِ المُبارَكة، هو إننا، كَجيلٍ سَابق، قد شَاركنا، أو بَعضَنا، في وقفاتٍ صَامدة في عَهديّ عبد الناصر وأنور السادات. لازلتُ أذكر ما حَدَثَ في شتاء 1968، في سَاحة جامعة القاهرة، حين تفجّرت المظاهرات ضد عبد الناصر بعد وَكسة 1967، وأذكرُ أنّ طلاب قِسم الكهرباء قاموا بكهرَبة سور الجَامعة لمَنع قوات الأمن من الدُخول لفَضّ الإعتصَام، واستطعنا أن نجذِب سَيارَة مَطافئِ داخِل أسوار الجَامعة والهِتاف من فوقها. ثمّ شاركنا في عام 1972، في إعتصام ميدان التحرير، وكنت وقتها مُهندِساً في حديد وصُلب حُلوان، حيث قضينا يومين مُعتصِمين في الميدان، أعقبَهما إعتقالاتٍ في صفوف المتظاهرين، ثمّ عام 1982، صَدر قرارٌ بالإعتقال لي ولعدد من إخواني، بُعيد مَقتل السَادات مباشرة، دارت بعدها عَجلة الحَياة في غُربَة قاسِية طويلة، حَرَمتنى من رؤية أبي، إلا لِمَاماً، حتى توفّاه الله.

      تَاريخٌ عاشَه شَبابُ ذاك العَصر، وهم شيوخ هذا الزمن، قدّموا فيه ما أمْكَنهم حَسْب ظُروف زَمَنِهم، وإن تراجَعَ دَوْرُهم في العِقدين الأخيرين لقسْوة القبضةِ الأمنيّةِ من ناحية، وتدَهور الوضْعَ الإقتصَاديّ من ناحية أخرى. ويجب أن لا ينسى الشَباب الثائر الآن، أنّ جيل الآباء كان مُجبَراً على الإنكِباب على تأمين حَياتهم أطفالاً، وإعطَائهم الفُرصَة للنُضْج والشَبّ والعِلم، الذي أدّى إلى ما رَأيناه من ثورةٍ ونَصرٍ. كذلك، فإن الغضَبَ المُعْتَمِل في نفوسِ الآباء كان ولاشكّ عَاملاً حاسماً في بناء الثورة أمَلاً وحُلماً في نفوس الأبناء، والولد مرآة أبيه، في غالب الأمر، وإن إختلفت طرق التعبير في كثير من الأحيان، وقد رأيت ذلك في نفسى حيث كان أبي رحمه الله تعالى من أشدّ الناسِ فهماً لسياسة عبد الناصر القمْعِية، وكراهةَ لحُكمه الفرديّ، مما أورثني حِسّاً يكرَه حكم العَسَكر، ويتحسّس من وعودِهم وعُهودِهم، منذ أن كان يُحدثنى عن سِياسة الطَاغية الأسبق، ويذرعُ في نفسى هذه البِذرَة في أوائل الخَمسِينيات المُنصَرِمة.

      وكنت قد نشَرتُ مَقالاً في 3 سبتمبر 2010، بعنوان "مُراجَعات .. جيل السَبعينيات"(1)  ، أنْكرتُ فيه نَفسى وأبناء جيلي، الذين شَعَرتُ أنهم فرّطوا في واجِبِهم نحو مجتمعهم ولم يؤدوا ما عليهم من حقٍ، يقفون به شهداء عند الله سبحانه.

      لكن، مع كلّ ذلك التقْصير، فإن حِكمةَ الشيوخِ لا تزالُ تمثّلُ رَصِيداً هائلاً من الخِبرة والعُمْق والدراية، مبنيّ على تراكُمِ خِبرة السِنين وعمق البحث وطول النظرِ والإسْتدلال. فهي إذن ثروة تحتاجها الثورة، وهي ذخيرةٌ تحمِلُ خبرةَ الماضي ووَعي الحَاضِر وتصَوّرَ المُستقبل. وهي صِمامُ أمانٍ للشَباب أن يخرُج بحَمَاسه وقوّته إلى مَسارٍ سلبيّ دون إعتبار عَواقبَ الأمور ومآلاتها، سواء بالإفراطِ في إتجاه معينٍ أو بالتفريطِ فيه.

      لسْت أدعو لوصَاية الشُيوخ على شَبابِ الأمّة، لكن أدعو أن يلجأ شَبابَ الأمَة إلى شُيوخِها، الصَالحِ منهم وذوي العِلم والمَاضي المُشَرّف، الذين لم تسْتهويهم الثروة ولا السَطوة، ولم يبيعوا ضَمَائرَهم في سوق السُلطان البَغيض، ولم تَذْهَلَ عُقولَهم عن إدراك مَناط واقعهم وتوصيف حَاضرهم توصِيفاً صَحيحاً، يسألونهم النَصيحة ويَسْترشِدون بآرائهم، فيما تأتي به الأيام القادِمة، وما أراها إلا حُبْلى بالأحداث، إذ إنّ من طبيعة الثورات أنها، كالحروب، التي وصَفها زهير بن أبي سلمي بأنها "تنتج فتُتْئِمِ"، وإن كان نتاجُهَا ليس بأحْمرِ عادٍ إن شَاء الله.

      http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-441