فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      'إذا جَاء نَصرُ الله والفَتح... فسَبح بحَمد رَبك'

      الحمدُ لله كثيراً، وسُبحانَ الله بُكرة وأصِيلا. هذا عيدٌ أكبرٌ آخرُ، يمُنّ الله به علينا في عَامٍ واحدٍ. عيدٌ لا يأتي إلا مع آيةٍ من آياتِ الله في الأرض، ألا وهي نهاية طَاغية، مُعَاندٍ لله ورسُوله، مُعطلٍ لأحَكامِه، سَارقٍ لثروةِ بَلده، مُرهِبٍ لأبنَائه، مُعذِبٍ لدُعَاته، مُغتالٍ لحُريّته. وهي آية ردّدها القرآن مَرات في نِهاية فِرعون مِصر، وهامان وقارون وأبي لهب. صورةُ من إن ذهب له الناصحون "إذهب إلى فرعون إنه طغى"، إذا به يَطغى ويُغرِق في الطُغيان ويتنَاسى سُنة الله الكونية في الخلق أنّ الحقّ يعلو وأنّ الباطل يزهقُ، "وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَـٰطِلُ ۚ إِنَّ ٱلْبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًۭا" الإسراء 81.

      سَقط طاغية مصر وفرعَونها الحديث، وسَقط معه هَامانه، وسَقط معه حِزبه ومَلأه، وجُمّدت أمواله، وسَيُطاردُ هو وأهله، وأقاربه ومَلأه، وسيُحاكمون ويُسْجنون بإذن الله.

      لكن الدَرس الأكبر الذي يجب أن تبدأ جَماهير مصر المُسلمة في تأمّلِه، بعد أن يترَعوا من كؤوس الفرحِ ما يكفيهم، هو أنّ البُعْد عن الله سبحانه وعدم الإعتبار بسُننه هو ما يقضى، ليس على الطغاة فحَسب، بل على الأمَم ذاتها إن أعرضت عن عبادة الله سبحانه، ولنا في قوم عادٍ وثمود وقوم نوحٍ ولوط، والمؤتفكة وقوم تبّع، وغيرهم من الأمم التي لم تراعِ حقّ الله سبحانه، عبرةٌ فهل تغنى النُذر.  

      ومما يلحظه المُتأمل هنا أنّ الله سبحانه قد ذكر أربعة أمثلة سمّاها للطغاة بينما ذكر عديد من الأمم الهالكة. وليس هذا إلا لأن زلات الأمم أعمّ وأخطر وأعمق أثراُ من بلاءِ الفرد الطاغية. ومن هنا فإن الأمّة المُسلمة في مصر يجب أن تنتبه لهذا العمق حيث أنّ الحِرصَ على حُريتها فرعٌ من الحِرصِ على دينها وجزء منه. والخطر كل الخطر أن ينعكس الوضع، وينقلبُ الفرعُ أصلاً والأصلُ فرعاً.

      وإنظر إذا شئت إلى قول الله تعالى في سورة الفتح، إذ وجّه المسلمين عامّة إلى ما يجب عليهم حين يأتي وقت النصر، أن يخلصوا العبادة لله ويقيموا التوحيد ويقصدوه في الدعاء والتسبيح ويكثروا منه، لا أن يدعوا إلى نبذ شرائعه والتمرد على أوامره. إن هذا إذا لهو عين الجُحود وحق الصُدود.

      ونحن نعلم أنّ ثورة 25 يناير هي ثورة أمة مسلمة، وليست ثورة إسلامية، والفارق بينهما كبير، لكنها تَصَبّ في إناء واحدٍ، هو رِفعة الإسلام والمُسلمين. لكن من محاذير هذا الأمر أنّ من وراء الجموع المُسلمة من يحمل حقداً على الإسلام، يمكن أن يَتسرّب إلى دُستور الدولة المصرية الجديدة في خضم الثورة وانفعالاتها وفي غفلة من وعى أبنائها وحُسن تقديرهم، خاصّة والحَاقدين على الدين ينوّعون خِطَابَهم ويبدّلون مُصْطلحَاتَهم ليموّهوا على من تدخُل عليه هذه المُغَالطَات.

      ولست أتوجس خيفة من فراغٍ، بل نرى اليَوم من مَطالب لَجنة التغيير الشَعبية، التي يُفترض أنها المُعبّرة عن شَباب الثورة، أن تكون مصر دولة مدنية بلا إيديولوجية، أي تكون علمانية لادينية، كما أرادها سعد زغلول قديماً. وفي لقاء على قناة دريم، استضاف البرنامجُ المخرج خَالد يوسُف وفنّانة شَابة، يتَحَدّثا عن ثورَة الشَبابِ وآمال الحُرّية، ورَوعة الثورة المصرية. وتطرق الحوار إلى القوى التي تريد أن تُسيطر على مكاسِبِ الثورة وأن تلتف حَولها. وقرّر المُخرج الثائرِ أن مصر (حسب رؤيته) تريد دولة مدنية (أي علمانية) ليس لها مَرجعية إسلامية، بل مرجعيتها هي "الحضارة الإسلامية لا الإسلام"! وهذا التصريح، وإن كان قد جاء على لِسان عَيٍّ مَهينٍ،لا يكاد يُبِين، إلا إنه يعكس موقفاً قد يكون له إمتداد ووجود، ولو ضعيف، بين بعض الطبقات التي تنتمى إلى فئة من "المثقفين" بشكلٍ، وعدد من الشباب الذين لم يتشبعوا بثقافة إسلامية وإن تعطُشوا للحُرية التي هي مطلبٌ غريزيٌ  لكلّ كائن حيّ.

      وهؤلاء يخلطون الأوراق، ويُسمون الأشياء بغير أسمائها، فيطلقون لفظ "المدنية" مقابل "الدينية" ليتوهم السامع أنهم يقصدون "المدنية" مقابل "العسكرية"، فيكون اللفظ أكثر قبولاً من المعنى. وهذا التقابل الأخير هو الصحيح، لأن دولة الإسلام هي دولة مدنية كذلك، تُحكم بحاكم يرتضيه أولوا الأمر منهم، من أفضلهم ديناً وأعقلهم وأخلصهم، من غير قادة الجيوش وأهل الحرب. ولنا في خالد بن الوليد خيرُ مثالٍ، إذ لم تؤهله عبقريته العسكرية التي عزّ على الزمن أن يجود بمثلها، أن تؤهله لمنصب خلافة ولا ولاية في يومٍ من الأيام.

      فعلى المسلمين، عامتهم وخاصتهم أن ينتبهوا لهذا الذي قد يكاد لهم، إذ إن مثل هذه الأمور ليست مما يعلنها مروجوهان بل يمكرونها بالمدينة ليلاً ويتدسّسوا بها نهاراً

      ولعلى أن ألعب دور النذير المُبكّر، الذي يحرص على ما يمكن أن يتربص بالأمة المسلمة، خيرا من أن أكون كما كان دُريد بن الصُمّة مع قَومِه من غُزية، إذ قال بعد أن فاتَهم أوان النُصح:

      أمرتهم أمْرى بمُنْعَرِج الّلوى    فلم يسْتبينوا الرُشدَ إلا ضُحَى الغَدِ

      ثمّ أذكر بقول الله تعالى: "ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا۟ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ" الحج 41

      ولنا إلى الحديث رجعةٌ، بل رجعاتٌ إن شاء الله تعالى