فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      من فِكْرِ الجماعاتِ إلى مَنطِقِ الدَّولةِ.. سوريا مِثالاً

      اخترتُ هذا العُنوان، الذي هو عنوانُ حلقةٍ مُصوَّرةٍ على تلفازِ الجزيرةِ المُوجَّهِ، في برنامج "مَوازين"، يستضيفُ حَسَنَ صوفان، السُّوريَّ المعروفَ بعدائهِ للحركةِ الجِهاديّةِ، وللهيئةِ، في طَورِ ما قبلَ العَلمانيّةِ، وقبلَ انسلاخِها من جِلدِها الإسلاميِّ.

      والعُنوانُ يُمثِّلُ انتقاليةً واقعيةً، وظاهرةً فريدةً في بابِها، عِشنا مَراحِلَها كُلَّها، خاصّةً مَن هُم أبناءُ جيلي، أو مَن تبقّى حيًّا منهم، مِمّا يجعلُنا أقدَرَ على فَهمِها وتفسيرِها وتحليلِها، مِمَّن لم يَمرَّ بالتَّجارِبِ الحركيّةِ منذُ بدأتْ تَحوُّلاتُها الكُبرى في السّتينيّاتِ منَ القَرنِ الماضي.

      وهيَ فريدةٌ في بابِها؛ إذ ترى فيها عنصرَ المُفاجأةِ وسُرعةَ الانخلاعِ من الماضي. وفيها التَّحوُّلُ الأيديولوجيُّ التامُّ، الشّاملُ، الذي ينبِذُ وراءَه كُلَّ ما كانَ عليهِ مِن قَبلُ. وفيها أنّها انتقالٌ من فِكرٍ ومُمارسةٍ حَركيّةٍ، إلى تطبيقٍ شاملٍ في دولةٍ شِبهِ قائمةٍ. فهي، مِن كُلِّ تلكَ الأبوابِ، فريدةٌ في ذاتِها.

      وبعيدًا عن المُزايداتِ والتّسمياتِ، فإنّ هذا الذي تمرُّ بهِ سوريا اليومَ، يُعتبَرُ نكسةً في السّاحةِ الإسلاميّةِ، يُضاهي ـ على المستوى المحدودِ بحدودِها ـ كارثةَ سقوطِ الخِلافةِ، في الرُّقعةِ الواسعةِ منَ العالمِ الإسلاميِّ!

      نشأةُ الجماعات:

      فالفِكرُ الذي نشأ أوّلَ ما نشأَ في مِصرَ، عامَ 1928، بعدَ سقوطِ الخِلافةِ، ونَتَجَ عنه قيامُ جماعةِ الإخوانِ المسلمين، قد مرَّ بثلاثِ مراحلَ من التّطوّرِ، وإن لم تَنسلِخْ مِنَ العَمودِ الفقريِّ الذي ارتضاهُ مُؤسِّسُها، والذي كانَ أقربَ إلى الفَهمِ في زَمنِه، مِمّا آلَت إليهِ في مَرحلتِها الثالثةِ والأخيرةِ.

      وقد قامَ فِكرُ البَنّا على عِدّةِ مَحاوِر، أَهمُّها:

      • إعادةُ تأهيلِ الشّعبِ، لِيُمكِنَ بعدها استعادةُ الخِلافةِ السّاقطةِ، ومِن ثَمَّ التّركيزُ على تَربيةِ الفَردِ أخلاقيًّا، دونَ التّركيزِ على البُعدِ التّوحيديِّ أيديولوجيًّا.
      • الاندماجُ في المؤسّساتِ السّياسيّةِ القائمةِ بالفعلِ، والتي كانت ـ حتّى أيّامِه ـ لا تزالُ في صراعٍ داخليٍّ بينَ الإسلاميّةِ والعَلمانيّةِ.
      • عدمُ المُواجهةِ المُسلّحةِ معَ الحُكومةِ القائمةِ، من حيث إنّ تَصوُّرَ حقيقةِ التّغييرِ الذي حدثَ بسُقوطِ الخِلافةِ ومآلاتِه، لم يكن واضِحًا في ذهنِ البَنّا، لِعواملَ كثيرةٍ، منها الواقعيُّ ومنها الشّخصيُّ.

      وكانت حركةُ البَنّا هي السّائدةَ في السّاحةِ الإسلاميّةِ حتّى عامَ 1941، حيثُ أنشأ أبو الأعلى المَودودي حركةَ "الجماعةِ الإسلاميّةِ" في باكستان، قبلَ انفصالِها عن الهندِ في عامِ 1947.

      وقد اتّفَقَ المَودودي معَ البَنّا في نُقطةِ عدمِ الجِهادِ المُسلّحِ ضدَّ الأنظمةِ القائمةِ، وإنِ اختلفَ معه في التّركيزِ على دورِ "الحاكميّةِ"، وتأصيلِ التّوحيدِ، ومعنى الحاكميةِ، وشرحِ جوانبِها ومُصطلحاتِها، مِمّا يجعلُ المَودودي، فيما أَرى، هو أَبَ الجِهادِ المُسلّحِ، الذي نشأَ بناءً على أَفكارِه وأيديولوجيّتِه، والتي تَبَنّاها بعدَه سَيّدُ قُطبٍ ـ رحمَهمُ اللهُ جميعًا ـ وكان هو المُنظِّرَ الأصيلَ لتلكَ الحركاتِ، وإنْ لم يَدعُ في كِتاباتِه إلى جِهادٍ مُسلّحٍ.

      فَتِلكَ الشَّخصيّاتُ الثَّلاثُ: البَنَّا، والمَودودي، وقُطب، كانت هي المُحرِّكَ وراءَ الحركاتِ الجِهاديّةِ، بطريقةٍ أو بأخرى، وإنْ لم يَدعُ أَيٌّ منها صراحةً إلى الجهادِ المُسلَّحِ.

      وقد يُضافُ إلى تِلكَ الشَّخصيّاتِ: تقيُّ الدِّينِ النُّبَهانيُّ ـ رحمهُ الله ـ الذي أسَّسَ حزبَ التَّحريرِ الإسلاميِّ عامَ 1953، في الأُردن، وكانت أيديولوجيتُه قائمةً على فكرةِ إعادةِ الخِلافةِ حَصراً، دونَ التَّركيزِ على بناءِ الفردِ، معَ بعضِ الفكرِ الاعتزاليِّ، مِمّا جَعلَ الكثيرَ يَستبعدونه من الخطِّ العامِّ للفكرِ الإسلاميِّ السُّنِّيِّ البَحتِ.

      وقد بدأت فكرةُ الجهادِ المُسلّحِ ـ بمعنى مُقاوَمةِ السُّلطةِ الحاكمةِ غيرِ الشَّرعيّةِ ـ معَ حركةِ صالحٍ سُرَيّةَ ـ رحمهُ الله ـ التي انتهت باستشهادِه، بإذنِ ربِّه، في عمليّةِ "الفنّيةِ العسكريّةِ" عامَ 1972. وكان من قبلُها قد بدأ تَحرُّكُ بعضِ الخلايا غيرِ المرتبطةِ تنظيميّاً، على رأسِها أيمنُ الظواهري ـ رحمهُ الله ـ في فترةِ التحاقِه بالجامعةِ، والتي تبلورَت فيما بعدُ تحتَ اسمِ "جماعةِ الجهاد". وكان البيانُ العقديُّ الذي صاغَ الفكرَ الجِهاديَّ هو كتابُ محمّدِ عبدِ السّلامِ فرَج ـ رحمهُ الله تعالى ـ الفريضةُ الغائبة، الصادرُ عامَ 1980، والذي كان الدافعَ وراءَ اغتيالِ الساداتِ على يدِ خالدِ الإسلامبولي ـ رحمهُ الله تعالى ـ عامَ 1981.

      ثمَّ ظَهَرَ تنظيمُ القاعِدةِ في نِهايةِ الثّمانينيّاتِ، وقد أنشأَهُ أسامةُ بنُ لادن ـ رحمهُ الله ـ، وتحوَّلَ اسمُه إلى "قاعدةِ الجهادِ" بعد أن تأثَّرَ فكرُ الشَّيخِ أسامةَ بفكرِ الظواهري، رأسِ جماعةِ الجهادِ، الذي كان المُفكِّرَ الرَّئيسَ للجماعةِ المُوحَّدةِ.

      ونحنُ نَعلمُ ما كانَ من أمرِ القاعِدةِ وعمليّاتِها، وما كانَ من موقفِ الملا عمر ـ رحمهُ الله ـ منها بعدَ أحداثِ مانهاتن.

      لكنَّ السّاحةَ الشَّاميّةَ، في العراقِ وسوريا، وفي قِطاعِ غزّة، احتضنَت فَريقينِ من الجماعاتِ التي رَسمَت لنفسِها خطّاً جِهاديّاً، بحقٍّ أو بباطلٍ، وهي الجماعاتُ التي ظَهَرتْ عندَ بدايةِ العملِ المُسلَّحِ ضدَّ نظامِ بشّارَ في سوريا، وما أفرزَتهُ الانتخاباتُ في القطاعِ من فَوزِ منظّمةِ أحمدِ ياسين، المُسمّاةِ "حماس"، بالسَّيطرةِ على غزّة.

      فأمّا حركةُ ياسين، فكانت ـ ولا تزالُ ـ حركةً تُظهرُ الإسلاميّةَ للعامةِ، لكنّها حركةٌ إخوانيّةٌ وطنيّةٌ، لا تلتزمُ بدينٍ، إلّا بمن يُوفِّرُ لها الإمكاناتِ الماديّةَ لاستمرارِ وجودِها على السّاحةِ، ولو كانَ الشيطانَ نفسَه، كما جاءَ على لسانِ أحدِ قادَتِها. وما أحداثُ غزّةَ اليومَ عنّا ببعيدٍ!

      وأمّا جماعاتُ العراقِ والشّام، فقد تطوَّرتْ من جماعاتٍ مُتفرِّقةٍ في العراقِ، لتُصاغَ أخيراً في قالبِ تنظيمِ الدولةِ التّابعِ للقاعدةِ، مروراً بالزّرقاوي، ثمَّ أبو أيّوبَ المصريِّ وأبي عمرَ البغداديِّ، اللّذَينِ اغتيلَا عامَ 2010، ثمَّ ظُهورِ أبي بكرٍ إبراهيمَ عوّادَ البغداديِّ الحَروريِّ، مُنشِئِ تنظيمِ الدولةِ في العراقِ والشّامِ، المعروفِ بـ"داعش".

      وكانَ الأخيرُ هذا هو سببَ نكبةِ الشّامِ، بتعيينِ أبي محمدٍ الجولانيِّ، الذي كانَ يُشاعُ أنّهُ كانَ مسجوناً في سجنِ "باكو" بالعراقِ، ثمَّ التحقَ بالبغدادي وبايعَه، وذهبَ بتوكيلِه لإنشاءِ ما سُمِّيَ بـ"تنظيمِ النّصرةِ" فيما بعد. وكانَ تنظيماً مُسلّحاً منَ اللحظةِ الأولى.

      ثمَّ كانَ ما كانَ من تَطوُّرِ الفكرةِ الجِهاديّةِ المُسلّحةِ، بينَ تنظيمِ داعشَ الحَروريِّ، المُقاتِلِ للمسلمِ والكافرِ على السَّواءِ، وبينَ تنظيمِ النّصرةِ، الذي تطوَّرَ على يدِ الجولاني بعدَ نكثِه لبيعتَينِ، وخيانتِه للفصائلِ العاملةِ معه، عبرَ تنظيماتِ "فتحِ الشّام"، ثمَّ "هيئةِ تحريرِ الشّام".

      وبعدَها، ومنذُ عامِ 2019، أَسفَرَ الجولانيُّ عن وجهِه الحقيقيِّ، بمُطاردةِ الفصائلِ المُسلّحةِ الأُخرى، وتجريدِها من سلاحِها، والتّعاونِ مع الأتراكِ ومعَ الوجودِ الرّوسيِّ في حمايةِ الممرّاتِ لمناطقِ النّظامِ، ثمَّ ما تُوِّجَ بهِ ذلكَ التّعاونُ من اغتيالِ قادةِ الجهادِ المُخضرَمينَ أجمَعينَ، ثمَّ ما كانَ من افتعالِ تَمثيليّةِ الانتصارِ على جيشِ بشّارَ، التي حاكَ خُيوطَها ورَسمَ فُصولَها الأتراكُ والأمريكانُ، بمُباركةٍ صَهيونيّةٍ منَ الكيانِ، وتَعاونٍ استخباريٍّ معَ قادةِ بشّارَ.

      وأمّا الفكرُ الجِهاديُّ ـ الذي يَحلو لبعضِهم تسميتُه بـ"المُسلَّحِ" ـ فليسَ فكراً غريباً عن حضارةِ الإنسانِ وتَصرّفاتِه منذُ فَجرِ التّاريخِ. فكافّةُ الحروبِ التي عمّت سطحَ الأرضِ منذُ آلافِ السنينَ، كانت إما دَفْعاً لصائلٍ، أو طَلَباً لمَصالِحَ. إنّما الفَرقُ كانَ في الدّافعِ وراءَ الطَّلبِ. أمّا الدَّفعُ فغَرضُهُ واحدٌ لا يَتغيَّرُ.

      والفارقُ هو أنّ تِلكَ العمليّةَ ـ من دَفْعٍ وطَلَبٍ ـ التي مارَستْها البشريّةُ كُلُّها، لا تُسمَّى "جِهاداً"، وإن شابَهَتْهُ في ظاهرِ شكلِها، من حيثُ إنّ الغرضَ منَ الجهادِ ـ دَفْعاً وطَلَباً ـ هو إعلاءُ كلمةِ الله، بينما كانت حروبُ البشريّةِ كُلِّها، إمّا دَفْعاً لصائلٍ، أو طَلَباً لنصرٍ وتوسُّعٍ لأجلِ الدُّنيا والحِرصِ عليها.

      فالبشريّةُ، إذًا، كانت على الدَّوامِ في حالةِ جهادٍ شكليٍّ، لا موضوعيٍّ! ثمَّ هم يُهاجمون مَن يتميَّزُ بصِدقِ التوجّهِ والغرضِ، ويُعلونَ كلمةَ مَن يُريدُ التعدّي وإهلاكَ الحرثِ والنَّسلِ. وما حربُ أمريكا في فيتنام وكوريا والعراق وأفغانستان وغيرها، إلّا حربُ طَلَبٍ للتعدّي على أهلِها، لا غير!

      والغرضُ الذي تسعى إليهِ قُوى الكُفرِ العالميِّ، هو تَجريدُ المسلمين، لا منَ السِّلاحِ فقط، بل من "الرَّغبةِ" في إنقاذِ أنفُسِهم منَ الورطةِ التاريخيّةِ التي أوقعوا أنفُسَهم فيها، بالصّمتِ على إقصاءِ الشَّريعةِ، التي تَحمِلُهم على دَفعِ الصّائلِ المُعتدي بكلِّ وسيلةٍ مُتاحةٍ، وإفهامِهم أنَّ ذلك "جهادٌ" إرهابٌ ورُعبٌ وعُنفٌ، يجبُ مقاومتُهُ والقضاءُ عليهِ فكرًا ووجودًا. وما هو إلّا مقاومةُ مُحتلٍّ غادرٍ مُتعدٍّ سافلٍ مُغتَصِبٍ، ليسَ إلّا، دونَ استخدامِ أيِّ مُصطلحٍ يُثيرُ ثائرةَ الغاصبين!

      ونحنُ هنا لا نتحدَّثُ عن جهادِ طَلَبٍ، فهذا عَبَثٌ منَ العبثِ اليومَ، في الظُّروفِ التي تَمُرُّ بها الأُمّةُ، ويعرِفُها القاصي والدّاني. فعلى الأُمّةِ أن تتخلّصَ من قُيودِها المفروضةِ في الدّاخلِ، لِتتعافى وتَعودَ لها قوّتُها.

      الجماعاتُ المعاصرةُ

      فإنِ استوعبْنا ما سبق، نظرْنا إلى تحوُّلاتِ الجماعاتِ "الإسلاميّةِ"، لِنعرِفَ حقيقةَ ما حدثَ في سوريا.

      الإخوانُ المسلمون:

      وتلك الجماعةُ كانت، ولا تزالُ، على توجُّهٍ واحدٍ، منذ أوائلِ الخمسينيّاتِ، بعد أن فَشِلَ الفكرُ الجهاديُّ أن يُثبّتَ أقدامَهُ فيها، وهو التوجّهُ السِّياسيُّ، الذي يَعتمِدُ على خَلفيّةٍ إرجائيّةٍ مُتطرّفةٍ في الإرجاء، صَحَّحَتْ إسلامَ الحُكّامِ، حتّى مع نَبذِهم للشَّريعةِ، لِتُبرّرَ اشتراكَها في تنظيماتِهم، لمحاولةِ الوصولِ إلى الحُكمِ، لا بالشّريعةِ، بل بما يتوافَقُ عليهِ المجتمعُ.

      وقد وصلتْ تلك الجماعةُ إلى هذا الحالِ البِدعيِّ السّاقطِ، خاصّةً في مصر، حيثُ مَولِدُ الجماعةِ، على مرحلتَينِ بعد مرحلةِ البَنّا؛ فمرحلةُ الهضيبي تميّزتْ بالتّنظيرِ الإرجائيِّ في كتابِهم دُعاةٌ لا قُضاة. ثمَّ مرحلةُ الثّمانينيّاتِ وحتّى يومِنا هذا، والتي تميّزتْ بالتّطبيقِ العَملِيِّ لذاكَ الفكرِ الإرجائيِّ المتطرّفِ، والذي قاد ـ في مصر ـ إلى مفهومِ "سلميَّتُنا أقوى مِنَ الرَّصاص"، وإلى تَحطيمِ الجماعةِ واعتقالِ كافّةِ صُفوفِها.

      قاعدةُ الجهاد:

      وقد نشأتْ تلك الجماعةُ على مرحلتَينِ مُنفصلتَينِ متباعدتَينِ، بين توجّهِ أبي عبدِ الله ـ رحمهُ الله ـ المُسالِمِ للحُكوماتِ، وفِكرِ الجهادِ الذي أتى بهِ الدكتورُ الحَكيم ـ رحمهُ الله تعالى ـ. ثمَّ كان الاندماجُ بينهما، وخُروجُ تنظيمِ "قاعدةِ الجهاد" في أفغانستان.

      وقد بدأتْ تلك الجماعةُ بفكرٍ سنّيٍّ سلفيٍّ صحيحِ العقيدةِ، وبَنَتْ تصرّفاتِها على ذاكَ الفكرِ، وإنِ اختلفْنا معهم في بعضِ التّطبيقاتِ. ثمَّ تحوّلتْ منَ المركزيّةِ إلى اللّامركزيّةِ، خاصّةً بعد مقتلِ زعيمَيها. وصارت اليومَ في وضعٍ مائعٍ غيرِ واضحٍ، بلا زعيمٍ مُعلَنٍ، لأسبابٍ معروفةٍ. وصارتْ فُروعُها تتصرّفُ حسبَ ما تُمليهِ قيادتُها القُطريّةُ أو الإقليميّةُ.

      وتُعتبَرُ القاعدةُ أكبرَ وأهمَّ مَن تَولّى الفكرَ الجهاديَّ المُسلَّحَ، بِلَونٍ من جهادِ الطَّلبِ أوّلًا، تحتَ مسمّى "العالَميّة"، ثمَّ تحوّلَ تدريجيًّا بعدَ الثّوراتِ العربيّةِ، والضَّغطِ العالميِّ، إلى تأييدِ جهادِ الدَّفعِ، والوقوفِ في وجهِ الحُكّامِ بالقُوّةِ المُسلّحةِ.

      تنظيمُ الدولة:

      وهو تنظيمٌ وَلِيدٌ سَقْطٌ من فُروعِ القاعدةِ، بدأ سُنّيًّا، ثمَّ تحوّلَ إلى الحَرُوريّةِ على يدِ الخليفةِ الهالِكِ الموهومِ، أبي بكرٍ البغدادي.

      وتَصوُّرُ التنظيمِ للجهادِ يُخالفُ التّصوُّرَ السُّنّيَّ، في تَكفيرِ "كُلِّ مُخالِفٍ" لا يُؤمنُ بتوجّهاتِهم كلّها. فهو شَكلٌ من أشكالِ الانحرافِ الذي عاشَتهُ الأمّةُ من قبل، منذُ أيّامِ حَرُوريّةِ عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ، إلى حَرُوريّةِ شُكري مصطفى، والزّوابري، ثمَّ البغدادي.

      حَرَكَةُ أَحْمَدَ يَاسِين، المَعْرُوفَةُ بِاسْمِ "حَمَاس"

      وهي في أَساسِها حركةٌ إخوانيَّةٌ، تَستخدمُ نفسَ الخِطابِ الإخوانيِّ السياسيِّ في الحُكمِ. فهي حركةٌ تَدَّعي الديمقراطيَّةَ، وتَتَبَنَّى العملَ البرلمانيَّ شَكلًا، لا موضوعًا، كبقيَّةِ الأنظمةِ الحاكمةِ في رُقعةِ المسلمين.

      وتتحدَّثُ باسمِ الشَّريعةِ والدِّينِ، رغمَ مناهضتِها لتَطبيقِهِ في القِطاعِ على مدى سَبعةَ عشَرَ عامًا! بل ومُحارَبَةِ مَن يَدعو إلى ذلك.

      وهي تُواجِهُ صائلًا مُختلِفًا، يُعتَبَرُ خارجيًّا وداخليًّا في آنٍ واحدٍ! فاستيلاءُ الصهاينةِ الوافدينَ من الخارجِ على الأرضِ الفلسطينيَّةِ، والسيطرةُ عليها واستعمارُها بالقوَّةِ، لَهُوَ صيالٌ خارجيٌّ لا رَيبَ فيه. ثمَّ إنَّ وجودَهم على الأرضِ، واتخاذَهم لها مَوطِنًا، يُجاورون فيه السُّكّانَ الأصليِّين، يجعلُهم أشبَهَ بالصائلِ الداخليِّ!

      لكن، في كُلِّ الأحوالِ، لا يُمكنُ اعتبارُ تِلكَ الحَركةِ "جِهاديَّةً" بالمعنى الذي أَوضَحناهُ في خِطابِ تِلكَ الجماعاتِ. فهم يُعلِنون أنَّهم لا يَقصِدون إلَّا تحريرَ الأرضِ الفلسطينيَّةِ منَ الصائلِ، بأيِّ وسيلةٍ كانت، سواءٌ بالتَّعاونِ معَ الكفَّارِ أو الرَّوافِضِ أو الشيطانِ، ولأيِّ نهايةٍ تكون، وإنِ انتهى الأَمرُ إلى دولةٍ علمانيَّةٍ مُلحِدةٍ، بلا فَرقٍ!

      وقد كَتَبوا، بِغَطرَستِهم، وقِلَّةِ خِبرَتِهم، ورعونتِهم، وغَضَبِ اللهِ عليهم، أن كَتَبوا نِهايَتَهم بأيديهم، ثُمَّ قضَوا على مِئاتِ الآلافِ من أهلِ غَزَّةَ معهم، وحَسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيل.

      النُّصْرَة / جَبْهَةُ فَتْحِ الشَّام / هَيْئَةُ تَحْرِيرِ الشَّام / الدَّوْلَة!

      أمَّا التَّجرِبةُ السُّوريَّةُ، فهي كما قُلنا، تجربةٌ فَريدةٌ في بابِها، بَطَلُها شخصٌ واحدٌ، له صفاتٌ خاصَّةٌ، لا أَحسَبُ أنَّ أَحَدًا حازَها بكامِلِها غيرُه، منذ أبي رِغالٍ في الخِيانةِ، وجمالِ الدِّينِ الإيرانيِّ (المَعروفِ بالأفغانيِّ) في المَكرِ واختراقِ الوسطِ الإسلاميِّ السُّنِّيِّ!

      والتَّجرِبةُ السُّوريَّةُ ليست غريبةً، في أَصلِها وبِدايتِها، في الفِكرِ والتَّوجُّه، عن بقيَّةِ الحَركاتِ الجِهاديَّةِ في العالَمِ الإسلاميِّ، بل هي جُزءٌ من التَّوجُّهِ العامِّ لتِلكَ الحركاتِ كُلِّها، والتي يَنبني تَحرُّكُها، ويُبنى بِناؤُها على مَبادئَ عامَّةٍ منَ الشَّريعةِ.

      مَبادِئُ الخِطابِ الجِهَادِيِّ كما يَراها أَصْحابُهُ:

      • الأصلُ هو دَفعُ الصائلِ المُعتدِي، بكافَّةِ الوسائلِ، وعلى رأسِها الجِهادُ المُسلَّح.
      • الصائلُ هو كُلُّ مَن صالَ على حُقوقِ المسلمين، فنبذَ شريعتَهم، وحكمَ بغيرِها، وقتلَ أهلَ الإسلام، واعتقلَهم، ونهبَ ثرواتِ بلادِهم، وتَعاوَنَ معَ أعدائِهم ضدَّ الجماعةِ المسلمةِ في بلدٍ ما منَ الأُمَّةِ كُلِّها.
      • الصائلُ قد يأتي من خارجِ البلادِ أو من داخلِها. وعلامتُه الأُولى هي مَوقفُه منَ الشَّريعةِ وتَحكيمِها في البلادِ؛ فإن رَفَضَها وعطَّلَها، فهو صائلٌ على الدِّينِ والعِبادِ، وإن تَرَكَ أمرَ الحُكمِ لأهلِها واستَعمَرَها، فهو صائلٌ على أهلِها. وكِلَاهما واجبٌ على المسلمين صَدُّه ورَدُّه. والأوَّلُ أولى في القتالِ والصَّدِّ.
      • ومُراغَمةُ العَدوِّ، في النَّظرِ السُّنِّيِّ كما يراه أتباعُ التَّنظيماتِ الجِهاديَّةِ، تَقَعُ تحتَ مَبادئَ أَساسيَّةٍ:
        • أنَّ الحاكمَ أو الحكومةَ التي تَمتنِعُ عن إقامةِ الشريعةِ، هي حكومةُ كُفرٍ، ورجالُها كُفَّارٌ بالله، لا عهدَ لهم ولا ذمَّة:
          "
          إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ" [النساء: 105
        • أنَّ الالتزامَ بالشريعةِ في الحُكمِ كُلٌّ لا يتجزَّأ:
          "
          وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ..." [المائدة: 49–50.
        • أنَّ قِتالَ الصائلِ الدَّاخليِّ أَولى من قِتالِ غيرِه:
          "
          يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةٌ" التوبة: 123.
        • الأَصلُ في النَّاسِ في الرُّقعةِ الإسلاميَّةِ هو الإسلامُ، وتُبنى على ذلكَ المُعامَلاتُ، كالصَّلاةِ في المساجدِ، والبيعِ والشِّراءِ، والنِّكاحِ، وغيرِها، ولو وُجِدَ فُسوقٌ أو مَعاصٍ، ما دامَتْ غيرَ مُستحلَّةٍ.
        • تَفادي الإيذاءِ في الرُّقعةِ الإسلاميَّةِ مَبدأٌ واجبٌ يُخالفُ تنظيمَ داعش الحَرُوريَّ.
        • المؤسساتُ الدِّفاعيَّةُ التي تَخدُمُ المنظومةَ الكافرةَ الحاكمةَ، كالجيشِ والشرطةِ والمخابراتِ، هي مؤسّساتُ كُفرٍ، يُعامَلُ أَفرادُها كالمُرتدِّين، وكذلك مؤسّساتُ الإعلامِ المُسانِدةُ.
        • العَدوُّ الصائلُ الداخليُّ في هذا العصرِ يوالي الكُفّارَ، ويَعملُ بتوجيهاتِهم، فتَنطبقُ عليهِ أَحكامُ الولاءِ والبَراءِ، حسبَ طبيعةِ التَّصرُّفِ والموقفِ.

      وبناءً على تِلكَ المبادئِ والتَّصرُّفاتِ، جاءت الأيديولوجيا الجهاديةُ بما يُقيمُ تِلكَ الأُصولِ ويدعمُها. فكانَ الخطابُ الجهاديُّ قائمًا على تصنيفِ الحاكمِ الخارجِ عن إطارِ الشريعةِ بالكُفرِ والصّيالِ على دِينِ المسلمين.

      ومِن ثَمَّ، وَجبَتْ مُقاومتُه بالجِهادِ، لا من خلالِ مؤسّساتٍ برلمانيَّةٍ يُقيمُها الصائلُ نَفسُه، لضَبطِ حَراكِ المُناهضين، ورَسمِ خُطَطِهِم، حتى لا يَخرُجوا عنها... وحركةُ الإخوانِ شَاهدٌ على ذلك، لا يَحتاجُ خِطابُهم بَعدَها إلى دليل!

      سَبَبُ نَشْأَةِ التَّوَجُّهِ الحَرُورِيِّ عِندَ تَنْظِيمِ الدَّوْلَةِ:

      ومِنَ المُثيرِ هنا أن أُقَرِّرَ، بدرجةٍ عاليةٍ منَ الدِّقَّةِ، أنَّ التَّوَجُّهَ الحَرُورِيَّ لِـ"تنظيمِ الدولةِ الإسلاميةِ في العراقِ والشامِ"، كما أسماها البغدادي، قد بدأ بسببِ التَّمَرُّدِ الذي قامَ به الجَولاني، ورفضِهِ وَرَدِّهِ لِبَيْعَةِ البغدادي في منتصفِ عامِ 2013.

      ولا أَشُكُّ أنَّ إعلانَ البغدادي عن ضَمِّ "حركةِ النصرةِ" إلى تنظيمِه، في عامِ 2013، كان نتيجةً لوصولِ معلوماتٍ إليهِ عن تَوَجُّهاتِ الجَولاني في المُخادعةِ والانفصالِ عنه. فأعلَنَ ضَمَّ النصرةِ، فتمَرَّدَ الجَولاني عليه، فلم يَقبَل، وادَّعى أنَّهُ مُبايِعٌ للظواهري ـ رحمهُ الله ـ، وكان أمرُ تَحاكُمِهِما إلى الظواهري، وحُكمُهُ بإقرارِ كُلٍّ منهما على تنظيمِه عامًا، يتمُّ بعدَه البَتُّ في الأَمرِ.

      وذاكَ التوجُّهُ في التَّكفيرِ العامِّ، لم يكن من سِماتِ التنظيمِ منذُ بدأَه الشَّيخُ الزرقاوي ـ رحمهُ الله ـ، بل كان مُلتزمًا بالخطابِ الجِهاديِّ السُّنِّيِّ الذي ذكرْنا لَمَحاتٍ منه، حتّى عامِ خيانةِ الجَولاني لتنظيمِ الدولة.

      ولعلَّ السَّببَ في ظُهورِ ونُموِّ ذلكَ التوجُّهِ، الذي انتهى بتنظيمِ الدولةِ إلى الحَرُورِيَّةِ، هو سببٌ سِيكولوجِيٌّ، لم يكن مَبدأُهُ عَقَدِيًّا أيديولوجيًّا. فإنَّ إعلانَ الجَولاني والنصرةِ خِيانةَ البغدادي، قد وَلَّد نوعًا منَ الكراهيةِ والرَّغبةِ في قِتالِهم وقتلِهم، ومِن ثمَّ ـ وكَمُبرِّرٍ قويٍّ للقتالِ والقَتلِ ـ فقد دَفَعَهُم إلى تَكفِيرِ النصرةِ قِيادةً وجُندًا، خاصَّةً بعد إعلانِ الخلافةِ الموهومةِ في يونيو 2014، كما دفعَهم إلى تَكفِيرِ الظواهريِّ والقاعدةِ، إذ اعتَبَروا أنَّ قرارَ الظواهريِّ كان انحيازًا للجَولاني!

      ولو رَجَعْنا إلى تاريخِ الخوارجِ، لوجدْنا أنَّ اقترانَ التكفيرِ بالقتالِ كان سَببًا رئيسًا في ظُهورِ الخوارجِ الأُوَل، أيّامَ عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ. فما أَسهلَ التبريرَ النَّفسيَّ لِـ"قتالِ المسلمينَ للمسلمينَ"، مِن تَكفِيرِهِم، ومن ثمَّ قِتالِهِم وقتلِهِم، بكلِّ أَريحيَّةٍ، خِلافًا لِـمبادئِ الخطابِ الجِهاديِّ السُّنِّيِّ!

      ويُلاحِظُ الباحثُ المُتتبِّعُ لأحداثِ الحركةِ السُّوريّةِ، أنَّ الجرائمَ الكبرى التي قامَ بها تنظيمُ الدولةِ جاءت بعدَ ذلكَ الانفصالِ في أوائلِ 2013، ولم يكن يُسجَّل مثلُها مِن قبلُ. والرُّجوعُ إلى تواريخِ أحداثٍ مثل قِتالِ البوكمالِ والأتاربِ ومارع وإعزاز، في أواخرِ 2013، وأوائلِ 2014، يُؤكِّدُ هذا التفسيرَ.

      وقد رَصَدَ الباحثونَ تاريخَ ظهورِ التَّوَجُّهِ الحَرُورِيِّ لدى "داعش"، لكنْ لم يَربِطْ أحدٌ ذلكَ بالسَّببِ السِيكولوجِيِّ الذي وَلَّدَهُ انفصالُ النصرةِ، وخيانةُ الجَولاني الأولى في قائمةِ خياناتِهِ اللّاحِقة.

      مِنَ الخَيْمَةِ وَفِكْرِ الجَمَاعَةِ إِلَى القَصْرِ وَمَنْطِقِ الدَّوْلَةِ - تَقَلُّبَاتُ الجَوْلَانِيِّ

      وسِجِلُّ الجَولانيِّ حافِلٌ بِسِلسِلَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الخِيَانَاتِ، الَّتِي ظَهَرَتْ فِي شَكْلِ تَقَلُّبِ الوَلَاءَاتِ، مَعَ تَبْرِيرَاتٍ تَعْقُبُ كُلَّ مَرْحَلَةٍ، لِيَحْتَفِظَ لِنَفْسِهِ بِصِفَةِ العَمَلِ الجِهَادِيِّ، الَّذِي كَانَ مِفْتَاحًا لِلوُصُولِ إِلَى القَصْرِ.

      فَقَدْ تَمَرَّدَ عَلَى أَمِيرِهِ المُبَاشِرِ، أَبِي بَكْرٍ البَغْدَادِيِّ، الَّذِي ابْتُلِيَتْ بِهِ الأُمَّةُ حِينَ أَمَدَّهُ بِالمَالِ وَالرِّجَالِ، لِيَبْدَأَ العَمَلَ فِي سُورِيَا بِاسْمِ "هَيْئَةِ النُّصْرَةِ"، تَحْتَ رَايَتِهِ فِي تَنْظِيمِ "الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ فِي العِرَاقِ"، القَائِمِ بِالفِعْلِ مُنْذَ 2006.

      وَكَانَ البَلَاءُ ـ فِيمَا نَرَى ـ مُتَبَادَلًا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ؛ فَقَدْ ابْتَلَى الجَوْلَانِيُّ الأُمَّةَ بِإِثَارَةِ النَّزْعَةِ الحَرُورِيَّةِ عِنْدَ البَغْدَادِيِّ، كَمَا ابْتَلَى البَغْدَادِيُّ الأُمَّةَ بِإِرْسَالِ الجَوْلَانِيِّ إِلَى سُورِيَا وَدَعْمِهِ لَهُ أَوَّلَ أَمْرِهِ. فَتَوَاطَأَ الرَّجُلَانِ عَلَى خِيَانَةِ الأُمَّةِ المَكْلُومَةِ!

      وَقَدْ عَرَضْنَا لِتَقَلُّبَاتِ الجَوْلَانِيِّ، مِنْ خِيَانَةِ البَغْدَادِيِّ، إِلَى نَكْثِ بَيْعَةِ الظَّوَاهِرِيِّ، إِلَى اصْطِنَاعِ إِقَامَةِ "جَبْهَةِ فَتْحِ الشَّامِ"، وَخُدْعَةِ عِيسَى الشَّيْخِ، ثُمَّ إِقَامَةِ "هَيْئَةِ تَحْرِيرِ الشَّامِ"، الَّتِي اتَّخَذَهَا سِلَاحًا لِضَرْبِ الفَصَائِلِ كَافَّةً وَالغَدْرِ بِهَا.

      وَفِي كُلِّ تِلْكَ المَرَاحِلِ، كَانَ الجَوْلَانِيُّ يَتَقَمَّصُ فِكْرَ الجَمَاعَةِ، أَيْ الفِكْرَ الجِهَادِيَّ، وَيُنَادِي بِضَرُورَةِ إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ، وَكُفْرِ مَنْ لَا يُقِيمُهَا، وَمُنَاهَضَةِ أَمْرِيكَا وَحُكَّامِ العَرَبِ. وَهُوَ الدَّوْرُ الَّذِي أَجَادَهُ مُدَّةَ عِشْرِينَ عَامًا مِنْ عُمْرِهِ، مُنْذُ سِجْنِهِ فِي بَاكُو.

      وَقَدْ كَانَ المُخْلِصُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّرِيعَةَ فِي أَحْكَامِهِمْ عَلَى النَّاسِ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْهُمْ، يُعِينُونَ الجَوْلَانِيَّ وَيَقِفُونَ فِي صَفِّهِ، حِينَ كَانَ يُنَادِي بِالشَّرِيعَةِ، وَيُبَايِعُ مَنْ هُمْ عَلَى مِنهَاجِهَا، وَيُحَارِبُ مَنْ يَتَبَنَّى فِكْرَ الحَرُورِيَّةِ.

      لَكِنْ أَمْرُ الرَّجُلِ صَارَ يَتَكشَّفُ مُنْذُ عَامِ 2017، وَتَخَلَّى عَنْهُ مَنْ كَانُوا يُسَانِدُونَهُ، إِلَّا بَعْضَ مَنْ انْتَكَسُوا وَمَرَدُوا عَلَى الحَقِّ. وَقَدْ ظَهَرَتْ عَمَالَتُهُ التَّامَّةُ لِلْغَرْبِ مُؤَخَّرًا فِيمَا أَخْرَجَتْهُ المُخَابَرَاتُ البِرِيطَانِيَّةُ، عَنْ خُضُوعِهِ لِتَدْرِيبٍ غَرْبِيٍّ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ ثَوْبِ "الإِرْهَابِ" إِلَى ثَوْبِ "السِّيَاسَةِ"، أَيْ: مِنْ فِكْرِ الجَمَاعَةِ المُرْتَبِطِ بِالدِّينِ وَالجِهَادِ، إِلَى مَنْطِقِ الدَّوْلَةِ اللَّادِينِيِّ العَلْمَانِيِّ، التَّابِعِ لِلْغَرْبِ تَبَعِيَّةً مُطْلَقَةً.

      • وَمَنْطِقُ الدَّوْلَةِ، فِي مُقَابِلِ فِكْرِ الجَمَاعَةِ، لَا يَعْنِي إِلَّا خَلْعَ ثَوْبِ الشَّرْعِ (حَقِيقَةً وَمَجَازًا!)، وَتَعْرِيَةَ النَّفْسِ دُونَ خَجَلٍ، أَوْ خَشْيَةٍ مِنَ اللهِ، أَوْ مِنَ النَّاسِ، وَالوَلَاءِ التَّامِّ لِلْأَنْظِمَةِ الغَرْبِيَّةِ العَلْمَانِيَّةِ. هَكَذَا بِبَسَاطَةٍ، وَبِلَا تَعْقِيدٍ!
      • مَنْطِقُ الدَّوْلَةِ يُمْلِي الخُرُوجَ مِنْ حَالِ النِّفَاقِ وَالخِدَاعِ وَالمَكْرِ، إِلَى الإِعْلَانِ وَالبَيَانِ وَالإِفْصَاحِ عَنْ إِلْغَاءِ الشَّرِيعَةِ وَتَجْرِيمِ الدَّاعِينَ إِلَيْهَا، وَمَحْوِ التَّوَجُّهِ الإِسْلَامِيِّ، وَتَسْلِيمِ التَّوْجِيهِ الاجْتِمَاعِيِّ لِلشَّوَاذِّ وَالعَلْمَانِيِّينَ، وَاسْتِبْدَالِ الحَاضِنَةِ الثَّوْرِيَّةِ المُسْلِمَةِ، بِإِحْلَالِ الحَاضِنَةِ الفَاسِدَةِ مِنَ العَهْدِ المَاضِي، بِشَبِّيحَتِهِ وَفُسَّاقِهِ، وَالتَّنَازُلِ عَنْ حُقُوقِ الشَّعْبِ السُّورِيِّ بِتَوْقِيعِ اتِّفَاقِيَّاتٍ، لَيْسَ مِنْ شَأْنِ رَئِيسٍ انْتِقَالِيٍّ مُؤَقَّتٍ أَنْ يُوَقِّعَهَا، كَالتَّنَازُلِ لِقَسَد وَلِلدُّرُوزِ، وَالتَّسْلِيمِ لِلرَّئِيسِ الأَمْرِيكِيِّ فِي كُلِّ مَطَالِبِهِ، فِي جَلْسَةٍ خَاصَّةٍ، ظَهَرَ مَضْمُونُهَا بَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، فِي تَصْرِيحٍ بِشَأْنِ المُقَاتِلِينَ الأَجَانِبِ. وَأَخِيرًا: المُضِيُّ فِي مُحَادَثَاتِ التَّطْبِيعِ مَعَ الكِيَانِ!
      • مَنْطِقُ الدَّوْلَةِ هُوَ إِنْشَاءُ دَوْلَةٍ مَنْزُوعَةِ الكَرَامَةِ، يَظُنُّ غَالِبُ شَعْبِهَا، مِثْلَ بَقِيَّةِ الشُّعُوبِ العَرَبِيَّةِ الَّتِي مَزَّقَهَا حُكْمُ وَكَلَاءِ الغَرْبِ الصَّلِيبِيِّ مُنْذُ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ، أَنَّ الوَلَاءَ لِلْغَرْبِ سَيَجْعَلُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ شَظَفِ العَيْشِ إِلَى بَحْبُوبَةِ الثَّرَاءِ! وَيَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ، لَا يَزَالُونَ يَنْتَظِرُونَ مُنْذُ ثَمَانِينَ عَامًا!
      • مَنْطِقُ الدَّوْلَةِ، هُوَ: اللِّبَاسُ الغَرْبِيُّ، بَدَلًا مِنَ السُّتْرَةِ العَسْكَرِيَّةِ، وَوَضْعُ رِبَاطِ عُنُقٍ بِشَكْلٍ مُضْحِكٍ مُزْرٍ، وَإِخْرَاجُ "السَّيِّدَةِ الأُولَى" لِلكَامِيرَاتِ، كَمَا تَخْرُجُ سَيِّدَاتُ المُجْتَمَعِ الغَرْبِيِّ أَمَامَ شَاشَاتِ العَالَمِ!
      • مَنْطِقُ الدَّوْلَةِ هُوَ انْخِرَاطُ الحَاكِمِ وَحُكُومَتِهِ فِي دَهَالِيزِ السِّيَاسَةِ المُظْلِمَةِ، دُونَ رَائِدٍ يَقُودُهُمْ، إِلَّا مَا يَرَوْنَهُ بِعُقُولِهِمُ أُحَادِيَّةِ الخَلِيَّةِ أَنَّهُ فِي صَالِحِهِمُ الشَّخْصِيِّ أَوَّلًا، وَقَدْ يُصْلِحُ بَعْضَ مَا فِي الشَّعْبِ مِنْ كَوَارِثَ!
      • مَنْطِقُ الدَّوْلَةِ هُوَ الخِدَاعُ المُسْتَمِرُّ لِعَوَامِّ الشَّعْبِ الجُهَّالِ، الَّذِينَ لَا يُهِمُّهُمْ إِلَّا أَنْ يَسْتَمِعُوا لِتَوَقُّعَاتٍ بِالتَّحَسُّنِ المَادِّيِّ، حَتَّى دُونَ أَنْ يَرَوْا مِنْهُ قَدْرَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ!
      • مَنْطِقُ الدَّوْلَةِ هوَ اعْتِمادُ خِيانَةِ الإِخْوَةِ الرُّفَقاءِ، وَالتَّعاوُنُ الِاسْتِخْباراتيُّ لِاغْتِيالِهِم، في إِطارِ مَسْؤُولِيَّةِ جِهازِ أَمْنِ الحاكِمِ!

      تِلْكَ هِيَ الخُطُوطُ العَرِيضَةُ لِمَنْطِقِ الدَّوْلَةِ!

      دَوْلَةٌ مِثْلُ دَوْلَةِ السِّيسِي، الَّتِي هِيَ نَعْلٌ لِلْكِيَانِ المُشَوَّهِ، لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ!

      وَهُوَ مَا تَمَّ تَدْرِيبُ الجَوْلَانِيِّ عَلَيْهِ، مُنْذُ عِلَاقَتِهِ بِالغَرْبِ، وَعَمَالَتِهِ لَهُمْ، وَالَّتِي غَالِبًا مَا بَدَأَتْ حَتَّى قَبْلَ 2017، حِينَ بَدَأَ المُرَاقِبُونَ فِي الوَسَطِ الإِسْلَامِيِّ مُلَاحَظَةَ النَّمَطِ الَّذِي يَسِيرُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ.

      النَّتِيجَةُ:

      وَالنَّتِيجَةُ اليَوْمَ: سُورِيَا مُمَزَّقَةٌ، مُفَتَّتَةٌ، إِلَى أَجْزَاءٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَنْ بَعْضِهَا، الجُزْءُ الَّذِي يَحْكُمُهُ الجَوْلَانِيُّ فِي الشَّمَالِ الغَرْبِيِّ وَالوَسَطِ، وَالدُّرُوزُ فِي الجَنُوبِ، مَعَ الوُجُودِ الإِسْرَائِيلِيِّ، وَالجُزْءُ الغَرْبِيُّ مَعَ الوُجُودِ الرُّوسِيِّ فِي "حُمَيْمِيم"، وَالجُزْءُ الأَكْبَرُ فِي الشَّرْقِ وَالشَّمَالِ الشَّرْقِيِّ مَعَ مُلْحِدَةِ الأَكْرَادِ. مَعَ وُجُودِ الخَطَرِ الكَامِنِ فِي كُلِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الجُزْءِ السُّنِّيِّ، نَتِيجَةَ وُفُودِ النُّصَيْرِيَّةِ وَالأَكْرَادِ.

      سُورِيَا لَيْسَتْ دَوْلَةً... حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا!

      سُورِيَا عُرْضَةٌ لِلانْهِيَارِ التَّامِّ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ مِنَ المُسْتَقْبَلِ القَرِيبِ.

      وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ مَنْ قَامَ عَلَى أَمْرِهَا مُنَافِقٌ مُخَادِعٌ، لَا إِخْلَاصَ لَدَيْهِ لِدِينٍ، وَلَا لِشَعْبٍ.

      طارق عبد الحليم
      20-05-2025
      22-11-1446

      ----------------------------

      [1]بيان (Disclaimer)  
      يتناول الكاتب أمر التحليل والبيان، من وجهة نظر الجماعات الإسلامية، وليس عضوا في أي منها، ولم يكن في يوم من الأيام. ولا يعني شرح معاييرها وفكرها، تبني كافة أفكارها وتصرفاتها.