(1)
من فضل القول اليوم أن نعيد على مسامع المسلمين، أنّ مقتضى التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، والعبادة هي مطلق الطاعة، وترك الشرك، كل الشرك. وأن طاعة الله في حكمه وأحكامه هي التطبيق الظاهر للعبادة في أعلى صورها.
ومن فضل القول أن نقرر أن الشريعة قد تمت، ولم يبق منها باق، ينتظره الخلق، ليقوموا بإقامته في حياتهم، فقد قال تعالى :
"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"
والدين هنا، هو نظام الحياة الشامل العام، الذي يستغرق الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، كما ينظم العلاقة بين المرء وربه بما عرف بالشعائر كالصلاة والصيام والحج.
فما هي قصة التدرج في تطبيق الشريعة؟!
ألم تكتمل الشريعة بالفعل؟
أليس هناك تمكين للمؤمنين في أرضهم الشاسعة بالفعل، كما كان لرسول الله في المدينة، مع وجود أقليات من اليهود والمنافقين؟
ألم يكن هناك الفرس والروم على حدود جزيرة العرب، كما أن هناك دولا كافرة على حدود البلاد التي تتحدث عن التدرج؟!
لا، لا، قالوا أنتم لا تفهمون الواقع! الواقع مختلف، الزمن مختلف!
قلنا كيف هو مختلف إذا؟ نوعية السلاح، مدى السلاح، أم ماذا؟
فإن كان كذلك، فما دخل تطبيق الشريعة بنوعية السلاح؟
هل يرتبط بامتلاك سوريا مثلا، أو مصر، أو تونس، القنبلة النووية؟
لو كان كذلك فقد امتنع تطبيق الشريعة في الدنيا، والعوض على الله، فحتى باكستان التي تمتلك القوة النووية، لا تطبق شرعاً!
نقول لكم بدورنا: الأمر مرتبط بالانسان، لا بما يحمل من سلاح.
أنتم الذين لا إسلام ولا إيمان لكم، باختصار وبدون تطويل.
من كان بيده تطبيق الأحكام الوضعية وفرضها على مجتمعه المدني، وإنفاذ قوانينه، يمكنه، وبغاية السهولة، جعل الشريعة هي المصدر الأوحد لقوانينه، وإنفاذها وتطبيقها في المجتمع!
من اتخذ بعضاً من الشريعة، وبعضا من الأحكام الوضعية، فقد أشرك مع الله في ألوهيته، وعبد معه غيره، عبادة الطاعة والاتباع، ولم يخرج من الشرك بعد، أيا قال وأيا تعلل، ومهما حلف وتظاهر، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم مؤمن!
فإن قال: أزيد حكما شرعيا اتبعه كل شهر بدلا من حكم وضعي، تدرجا، قلنا، كفرت بالله حتى تعلن وتعزم عن اتباعك الكامل للشريعة، وعدم تخلفك عن تطبيق كل هو ممكن اليوم، الساعة، الآن!
فتدرجك في تطبيق الشريعة، هو تدرج في القرب من أن تصير مسلما، لا أنك تركت الكفر وصرت مسلما بالفعل!
الكفر والشرك، لا يُترك خطوة خطوة .. بل يترك كله مرة واحدة ..
وإعلانك أنك مسلم وموحد وقابل بالشريعة، ثم إعراضك عنها وترك تطبيقها، بالجملة والكلية، كمرجعية تتحاكم إليها في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم، كمجتمع، هو زندقة ونفاق وكفر صريح ظاهر، لا خفاء فيه. قول يكذبه العمل الصريح.
وهذا ليس قول الخوارج، لمن يريدون التلاعب بدين الله من كفرة المتأولين.
فإننا لا نكفر مسلما بمعصية، كسرقة أو زنا أو قتل، أو كبيرة أو صغيرة وإن أصر عليها.
إنما نحن نقول بأن ترك التحاكم لله في القوانين العامة هو شرك في التشريع وكفر بالتوحيد وترك للطاعة المطلقة لرب العالمين.
فليهنأ للقائلين بالتدرج تدرجهم .. فقد رأينا من قبلهم قد رقصوا على الدرج يتدرجون، فلم يرتفعوا عن الحضيض درجة. وليظلوا في درجات الكفر يتراوحون، لعلهم في يوم من ألأيام يسلمون!
(2)
تكملة ما سبق عن التدرج في تطبيق الشريعة..
----------------------------------
حين نتحدث عن تطبيق الشريعة، فنحن نقصد اعتماد الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد لكافة الأحكام في المجتمع، في كل جوانبه، واعتبار القرآن والسنة الصحيحة هو الدستور الحاكم. ولا بأس من إصدار بعض المذكرات أو الملحقات الدستورية لمعالجة ما يلزم مما هو من التفاصيل الحديثة.
هذا القدر لا جدال فيه، ولا مراء ولا تردد، وبدونه فالنظام الحاكم كافر ظالم فاسق، خارج عن الملة، جاهليٌّ لا خير فيه! قولاً واحداً!
لكن، بعد اعتماد مبدأ التوحيد، والخروج من شرك القوانين، فإن الأمر موكول للقضاء والعلماء في التطبيق العملي على الأرض.
فيبدأ النظر في أحوال المجتمع، من حيثية أن الأصل هو الالتزام بالشريعة، ويعلم الله أن غالب أحكام الشريعة لا مشكلة في القيام بها، وكافة الشعب لا يعترض على أن تكون هي القاضية في مجتمعه، إن نسينا الأقليات الكافرة.
فإن كان هناك أمر، كتغيير النظام الاقتصادي البنكي، فلا شكّ أن هناك خطوات طويلة للوصول إلى هذا الهدف. لكن تلك الخطوات يجب مناقشتها واعتمادها فقهياً واقتصادياً، والسير فيها، سواء استغرقت سنة أو عشراً!
ذلك شرط التدرج، ومفهومه الشرعيّ.
أما أن يكون التدرج هو إغفال الشريعة قولاً وعملاً، بعدم إعلان الخضوع لها، ابتداءً، وعدم اتخاذها دستوراً، أو جعلها "مصدر رئيسياً"، فإن ذلك كفر بواح صراح .
"فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"
"أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ"
"إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"
"إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا"
"وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"
هذا قول الله تعالى، فماذا تقولوا لربكم رداً على ذلك، وهو كلام عربي مبين؟!
أما عن الأثر الذي ورد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، مع ابنه عبد الملك "قال له ابنه الورع التقي عبد الملك: يا أبي ما لي أراك تتباطأ في إنفاذ الأمور؟ والله لا أبالي لو غلت بي وبك القدور في سبيل الله. فقال يا بني: إن الله ذم الخمر في آيتين ثم حرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أدفع الناس إلى الحق جملة فيدعوه جملة، ولكن أما ترضى ألاَّ يمر على أبيك يوم إلاَّ وهو يميت فيه بدعة ويحيي سنة؟"
فأين هذا من هؤلاء المبدلين الراغبين في إماتة الشريعة؟!
فأولا، لا حجة في قول أحدٍ أمام قول الله تعالى أيّاً كانت مكانته!
ثانيا، فإن هذا الأثر ليس له إسناد أصلا، لكنه ورد هكذا عن ابن عبد ربه الأندلسي الأديب، في العقد الفريد، وهو كتاب أدبي على مثال الأغاني للأصفهاني، وليس كتاب حديث معتمد.
فإن الناس وقتها قد طالبت بإيقاف حصص بيت علي رضي الله عنه، والطالبيين. فامتنع عمر وقتها خوفا من أن لا يقوم عليه الطالبيون، وهو ما ورد في الأثر الثاني الثابت في حلية الأولياء، وذكره ابن الجوزي والسيوطي:
"رحمك الله, وجزاك من ولدٍ خيراً, يا بني؛ إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدةً عقدةً, وعروةً عروةً, ومتى أردتُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمَنْ أن يفتقوا علي فتقاً يكثر فيه الدماء, والله لزوال الدنيا أهون عليَّ من أن يُراقَ في سببي محجمة من دمٍ, أَوَ ما ترضى ألَّا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت بدعة, ويُحيي سنة)".
وهذا واضح في المناط الذي قلناه.
أما استخدام الشاطبي وغيره لهذا الأثر فهو من باب الاستئناس لاثبات النقطة التي قرروها من القواعد العامة، فترى الشاطبي يقول "ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة."الموافقات 2-93.
ثم قال استئناسا: "وفيما يُحكى عن عمر بن عبد العزيز ... " وانظر قوله فيما يُحكى وهو تضعيف للخبر.
فهذا هو النظر الصحيح في هذه المسألة
طارق عبد الحليم
31-1-2025
1-8-1446
(3)
استمرار البيان لمعنى "تطبيق الشريعة"، والقول في تدرجها!
الحلقة الثالثة.
---------------------------
الذي يجب أن يؤكد عليه العالمون ويرسخ في ذهن الدعاة قبل العامة من الناس، أن قولنا "تطبيق الشريعة" ينقسم إلى قسمين:
أولهما، وهو الأهم: إقرار مبدأ التحاكم إلى الشريعة في البلد التي حصل فيها التمكين، بإسقاط الحكم الفاسد، والتي صار لها حدود معينة وقوات تحميها، وتحمي الأمن داخلها. ولا اعتبار للتهديد الخارجي بقلامة ظفرٍ في هذا الصدد، وإلا فالناس على دين الجاهلية حتى يدَعوا ذلك التوجه "وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۚ".
وهذا القسم، هو بمثابة إعلان التوحيد وأنه الأصل في ديانة البلاد. وهذا لا يصح تأخيره لحظة واحدة بعد الاستيلاء على مقاليد الحكم من نظام سابق ساقط. والتأخر فيه وتعمد إرجائه، هو عمل كفري محض مجمع عليه، لا يشك فيه رجل يدعي الإسلام!
والقسم الثاني، وهو تطبيق الأحكام ذاتها: وهذا القسم يكون "الأصل" فيه هو صلاحية وإمكان تطبيق الأحكام كلها، دون استثناء، حتى يثبت خلاف ذلك، في طور التطبيق، لا في طور البحث والتنظير! فلا يُقال مثلا: نجلس إلى مائدة، وننظر في كل حكم شرعي ونرى هل هو ممكن التطبيق أم لا! فإن في هذا، إلى جانب تبسيطه للأمور تبسيطا مخلاً، فهو مخالف لمنهج السنة والجماعة وفعل الصحابة رضي الله عنهم!
فأما التبسيط هو أن هذا القول، على بريقه، يكاد يكون مستحيلا في كل حكم شرعي! إلى جانب أن التغير في الظروف قد يحدث سلبا وإيجابا، وفي أماكن مختلفة على الدوام.
أما منهج السنة والجماعة، فهو إقرار قاعدة "توفر الشروط وانتفاء الموانع".
وذلك بأن تُقرّ الأحكام الشرعية، في محاكم الشريعة التي يقوم عليها قضاة دَرِبون، فإن وقع للقاضي أمر في مسألة أو حالة يجد فيها أن الشرع فيه مانع من التطبيق، لظرف خاص، أو لجائحة عامة كالمجاعة أو ما يقوم مقامها مما هو مفصّل في كتب الفقه، فعليه عدم تطبيق الحكم، سواء على الفرد، أو على الجماعة التي يقع عليها المانع، حتى يزول المانع، بحكم قضائي شرعي آخر ..
وهو ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، حيث قيل أنه "منع إقامة حد السرقة"! ولا أظن أن الأمر كان منعا عاما شاملا، وقد ناقشت ذلك في بحث منفصل. بل كان توجيها للقضاة والقائمين على تنفيذ الأحكام، باعتبار الحالات الخاصة. فلا أظن للحظة واحدة، أنه في زمن عمر، قد أتى رجل صاحب مال معروف، وقد سرق، فامتنعوا عن قطع يده لأن عمر منع حد السرقة! مستحيل! لكنما هو التأكيد على مبدأ اعتبار الموانع، وجعله في زمن النوازل هو الأصل في حكم النازلة.
فأما ما هو من شؤون الدولة كالاقتصاد والبنوك في عصرنا هذا، فهو ما يجب أن تكون هناك لجنة شرعية مكونة من علماء في الشريعة ومتخصصون في الاقتصاد، لتجد ما يصلح أن يتم تبنيه على الفور وما يصلح أن يبدأ العمل في تطويره ليمكن مواءمته للشريعة ولو بعد حين!
ومن هنا فإن الواجب في دولة تدَّعي أنها قامت بثورتها لإقامة الشرع أن تسير على هذا النهج، لا غيرهم، لا أن تترك الأمر على الغارب في كافة الأحكام، بدعوى أنها "لا أدري ما الدعوى حقا..."! وإلا فسوف تلحق بمثيلاتها من الثورات التي غارت في مزبلة التاريخ، ويودي بأهلها إلى الفاقة والعوز وجلب غضب الله عليها، كما رأينا في كافة الدول التي فعلت هذا من قبل.
طارق عبد الحليم
9-1-2025
10-1-1446
#كلمتين_وبس