وفي سياقه الرد على من غلط في تأويل قول أبي محمد المقدسي في رسالة له عن تكفير أبي حنيفة!
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد
فإن البلية كل البلية، والرزية كل الرزية فيمن يقرأ فلا يفهم ما يقرأ، أكبر مما هي فيمن لا يقرأ أصلاً!
فالثاني لا يلقي عبأ جهله على أحد، أما الأول، فيستعلم بما قرأ ولم يفهم ولم يستوعب، فضلَّ وأضَل!
كما إنه من الضروري أن نعي أن إشاعة الفوضى في الوسط الفقهي والعقدي المسلم، هو من أهم وسائل القضاء عليه. وعلى رأس تلك الوسائل إسقاط الأئمة الذين أجمع الخلق على جلالتهم واحترامهم وقبول اجتهاداتهم، مع الاعتراف بأن البشر يصيب ويخطئ، وأنه لا كامل إلا الحبيب المصطفى ﷺ.
أبو حنيفة النعمان بن ثابت، أحد أئمة المسلمين الأربعة الذين قام على أكتافهم بناء الفقه الإسلامي كله، مع مالك والشافعي وأحمد، رحمهم الله جميعاً.
وأبو حنيفة أكبر وأجل من أن نعرف به، وقد عرّف به أئمة المسلمين منذ عصر تابعي التابعين، كعبد الله بن المبارك ومن هم في طبقته، ثم من بعد ذلك كافة أئمة السنة كمالك والشافعي وأحمد ومن بعدهم أئمة مؤرخي الإسلام كالذهبي وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير.
فقد روى الذهبي عن أبي حنيفة النعمان في "تاريخ الإسلام" ج9، ص 307، أحداث سنة 150 هـ
"وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ النَّاسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّاسُ فِي الْفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَوْرَعَ وَلا أَعْقَلَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ وَغَيْرُهُ: سَمِعْنَا ابْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةٌ.
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحْرِزٍ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: لا بَأْسَ بِهِ، لَمْ يُتَّهَمْ بِالْكَذِبِ، لَقَدْ ضَرَبَهُ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا
. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا، كَانَ إِمَامًا، رَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ، كَانَ إِمَامًا، رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ، كَانَ إِمَامًا، سَمِعَ هَذَا ابْنُ دَاسَةٍ مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عِلْمُنَا هَذَا رَأْيٌ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قَدِرْنَا عَلَيْهِ فَمَنْ جَاءَنَا بِأَحْسَنِ مِنْهُ قَبِلْنَاهُ. وَعَنْ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ بِوُضُوءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً
. وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إِذْ سَمِعْتُ رَجُلا يَقُولُ لِآخَرَ: هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ لا يَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَاللَّهِ لا يَتَحَدَّثُ عَنِّي بِمَا لَمْ أَفْعَلْ فَكَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ صلاة ودعاء وتضرّعا" اهـ
وروي مثل ذلك في سير الأعلام للذهبي، والكامل لابن الأثير.**
-------------------------
أما ما روي عنه في تاريخ بغداد للخطيب، فإن فيه تحامل عجيب علي أبي حنيفة، لا ندري سببه. وذاك مما نُسب له زوراً من قول أن القرآن مخلوق! ومن قوله في الإيمان، ومن بعض ما ذكر عنه بهتانا أو خطأ.
أما عن قوله في القرآن، فقد روى الخطيب في تاريخ بغداد ج13 ص 374، ط دار الكتب العلمية، أن:
"32. النخعي: ثنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: لم يصح عندنا أن أبا حنيفة كان يقول بخلق القرآن"
"33: النخعي: ثنا محمد بن شاذان الجوهري قال سمعت أبا سليمان الجوزجاني ومُعَليّ بن منصور الرازي، يقولان: ما تكلم أبو حنيفة ولا أبو يوسف ولا زفر ولا محمد (الشيباني) ولا أحد من أصحابهم في القرآن، وإنما تكلم في القرآن بشر المريسي وابن أبي دؤاد فهؤلاء شانوا أصحاب أبي حنيفة"
فإن نظرت بعين فاحصة متأنية لما حكاه الخطيب تحت عنوان "ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن" فقد ردَّ الخطيب نفسه هذا القول، بما ذكر من رقم 28 حتى 33، كما أوردنا، أما خلافها تحت ذاك العنوان، فما من عزو فيها إلا وفي سنده مصيبة! وهاك بعض الأمثلة:
مثل سند رقم 36 فيه عبد الله بن محمد البغوي، قال فيه ابن عدي: المشايخ وأهل العلم مجمعون على ضعفه.
وسند رقم 38، قطن بن نسير قال ابن عدي: يسرق الحديث، وحمل عليه ابن معين.
وسند رقم 39، فيه الحسين بن عبد الأول، قال أبو زرعة: لا أحدث عنه، وكذبه ابن معين
وسند رقم 42 فيه سفيان بن وكيع، قال البخاري يتكلمون فيه بأشياء، وقال أبو زرعة: متهم بالكذب
وقس على ذلك كلّ عزو جاء به الخطيب تحت هذا الباب. راجع هوامش التحقيق.
أما عن قوله في الإيمان، فقد قال علماء السنة، ونحن لهم تبع في هذا، أن قوله رحمه الله أن الإيمان لا يتفاضل، كان خطأ وزلة حادت عن الجادة. فالإيمان يزيد وينقص. وما أورده ذلك إلا قوله في أن مصطلح الإيمان هو لغوي بمعنى ما وقر في القلب، أي تصديقه. فأخرج العمل من مسمى الإيمان لفظا، ولكنه جعل العمل شرطا في صحة الإيمان، لا يكون منجياً إلا به. لذلك جاء عن ابن تيمية أن خلاف الأحناف لفظي لا أصلي. ومع ذلك قيل عن الأحناف هم مرجئة الفقهاء لهذا التعريف.
وقد توسعت في التعليق على هذه النقطة في كتابي "حقيقة الإيمان" في هامش الفصل الثاني تحت عنوان "الإيمان قول وعمل" ولا بأس من سرده هنا لأهمية وارتباطه الوثيق بما نحن فيه:
" يقول ابن تيمية: "ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء كحماد بن أبي سليمان – وهو أول من قال ذلك ومن اتبعه من أهل الكوفة – وغيرهم متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل فهم يقولون إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب كما تقوله الجماعة…" الإيمان ص255.
كذلك فإن الحنفية قد جعلوا كثيرا من الأعمال من شرائط الإيمان ومستلزماته ، وجعلوا من لم يأتي بها كافراً ، بل توسعوا في ذلك عن سواهم من المذاهب ، قال صاحب الفقه الأكبر" "… وفي الخلاصة من وضع قلنسوة المجوس على رأسه قال بعضهم يكفر ، وقال بعض المتأخرين إن كان لضرورة برد .. لا يكفر الإيمان وإلا كفر"جـ155.
وكذلك : "وفي الخلاصة من أهدى بيضة إلى المجوسي يوم النوروز كفر أي لأنه أعانه على كفره وإغوائه أو تشبه بهم في أهدائه.." إلى غير ذلك كثيراً جداً من الأعمال التي نصوا على كفر فاعلها أو على كفر من لم يتركها "إن كانت من أعمال المشركين" فهم وإن جعلوا الإيمان "التصديق" إلا أن ذلك خلاف لفظي لأن من الأعمال عندهم – بل أكثر مما هي عند غيرهم – ما يكفر فاعله ويخرج عن الملة مطلقاً ، ونظرة في كتب فقه الحنفية تؤكد ذلك مما لا يدع مجالا للشك (راجع شرح الفقه الأكبر ، الإعلام بقواطع الإسلام للهيثمي).
وأما بالنسبة لمسألة التصديق ومعناه والمراد منه ، فقد ذكرنا من قبل أن الأحناف وإن اعتبروا أن الإيمان هو التصديق إلا أنهم جعلوا الإقرار من لوازمه.
= فمدار النجاة عندهم – كمداره عند أهل السنة جميعاً – على الالتزام بالطاعة – كما سيتبين بعد في مفهوم الالتزام عند أهل السنة – مع ترك أعمال الشرك جملة ، ولم يجعلوه كما يعتقد بعض مرجئة العصر الحديث – هو مجرد نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر ، فإن هذا الأمر مما لا يختلف فيه بين أبي حنيفة وبقية الأئمة لمساسه بأصل الدين ومدار النجاة من الكفر المخلد في النار وهذا ما عناه الإمام الكشميري في "فيض البارى" حيث ذكر أن الخلاف بين أبي حنيفة وبقية الأئمة – وإن لم يكن نزاعاً لفظياً في رأيه – إلا أنه اختلاف في جهة النظر ولكن مدار النجاة عندهم واحد يقول:
"ومن ههنا علمت أن الاختلاف ليس من باب الاختلاف في الأنظار بمعنى أن هذا مؤد إلى طرف صحيح وهذا أيضاً لطرف آخر صحيح وعند كل حصة صحيحة ، والناتج عند كل واحد ناج عن الآخر وكذلك الهالك عند واحد هالك عند الآخر" فيض البارى جـ2ص63.
وهذا الذي أشار إليه العلامة الكشميري هو ما نريد أن نؤكد عليه هنا ، فإن خلاف أبي حنيفة وأصحابه مع بقية أهل السنة إنما هو خلاف لفظي يتناول مدلولات الألفاظ أو خلاف في الأنظار يصل إلى طرف صحيح ، وإنما المهم هو أن القدر اللازم للنجاة من الخلود في النار عند كل منهما لا يتغير فأبو حنيفة قد أطلق الإيمان على التصديق ثم جعل شرط قبوله الإقرار بالطاعة ، والانقياد - وليس نطق اللسان فقط - لضمان النجاة ، وأهل السنة قد أطلقوا الإيمان على التصديق والإقرار والالتزام بالطاعة معاً ، وهو المستلزم للانقياد للشرائع عامة وأدخلوا في مسماه الأعمال فيكون بهذا المعنى الإقرار شرطاً عند أبي حنيفة وشرطاً (أو ركناً) عند بقية أهل السنة .
يقول صاحب فيض الباري: ".. فأقول إن الجزء الذي يمتاز به الإيمان والكفر هو التزام الطاعة مع الردع والتبرى عن دين سواه .." إلى قوله: "فهذا هو الصواب في تفسيره . فقد نقل الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى الإجماع على كون هذا الجزء مما لابد منه في باب الإيمان وحينئذ ينبغي أن يراد من الاقرار في قول الفقهاء الاقرار بالتزام الطاعة" الفيض جـ1 من 51.
وما ذكره في غاية الأهمية للدلالة على أن مراد الفقهاء بالاقرار ليس هو نطق الشهادتين باللسان ولكن هو التزام الطاعة وعدم الانخلاع من الأحكام الشرعية عامة . ثم يبين أن القول بأن الاقرار المنجي هو النطق بالشهادتين يورد إشكالاً يقول: "وههنا إشكال يرد على الفقهاء والمتكلمين وهو أن بعض أفعال الكفر قد توجد من المصدق كالسجود للصنم والاستخفاف بالمصحف ، فإن قلنا أنه كافر ، ناقض قولنا : "إن الإيمان هو التصديق" ثم يجيب قائلاً: فالحق في الجواب ما ذكره ابن الهمام رحمه الله تعالى وحاصله أن بعض الأفعال تقوم مقام الجحود نحو العلائم المختصة بالكفر.
وإنما يجب في الإيمان التبرؤ عن مثلها أيضاً ، كما يجب التبرؤ عن نفس الكفر ، ولذا قال تعالى : (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) في جواب قولهم (إنما كنا نخوض ونلعب) لم يقل إنكم كذبتم في قولكم بل أخبرهم بأنه بهذا اللعب والخوض اللذين من أخص علائم الكفر خلعوا ربقة الإسلام عن أعناقهم وخرجوا عن حماه إلى الكفر ، فدل على أن مثل تلك الأفعال إذا توجد في رجل يحكم عليه بالكفر ولا ينظر إلى تصديقه في قلبه ولا يلتفت إلى أنها كانت منه خوضاً وهزءاً فقط أو كانت عقيدة ، ومن ههنا تسمعهم يقولون إن التأويل في ضروريات الدين غير مقبول وذلك لأن التأويل فيها يساوي الجحود . وبالجملة إن التصديق المجامع مع أخص أفعال الكفر لم يعتبره الشرع تصديقاً ، فمن أتى بالأفعال المذكورة فكأنه فاقد للتصديق عنده وأوضحه الجصاص فراجعه" الفيض جـ1 ص 5.
فانظر رحمك الله إلى قول كبار أئمة الحنفية - كابن الهمام والكشميري والجصاص - وهم الذين أطلق عليهم بعض العلماء - مرجئة الفقهاء لمجرد أنهم أخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان لفظاً فقط رغم اشتراطهم للقدر اللازم منها للنجاة من الخلود في النار كبقية أهل السنة سواء بسواء .
يقول شارح الطحاوية مبيناً ذلك : "ولم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق وإنما يقابل بالكفر .. والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفراً أعظم ، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط ولا الكفر التكذيب فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب ، فكذلك الإيمان يكون تصديقاً وموافقة وموالاة وانقياداً ولا يكون مجرد التصديق". شرح الطحاوية ص 243.
ويقول الإمام الطحاوي في المتن: "وأهله - أي أهل الإيمان - في أصله سواء" أي متفقون على أصله المنجي من الخلود في النار الموقع خلافه في الكفر ، فالمحصلة إذن واحدة والخلاف وإن كان لفظياً .. أو خلافاً في النظر كما يرى صاحب الفيض - فالاتفاق حاصل فيما هو مدار النجاة من الكفر ، وترتب الثواب والعقاب حسب إتيان الأعمال أو تركها متفق عليه بينهم ، والأعمال المكفرة والتي تعرف بها انخرام الأصل وسقوط عقد القلب محددة في مذاهبهم ، بل إن الأحناف توسعوا في دلالات الكفر بالأعمال عن سائر المذاهب ، كما ذكرنا من قبل، وأما أن يقال إن الإيمان هو التصديق ثم يقابل التصديق بالتكذيب فيكون الكفر هو التكذيب فقط ، فذلك ما لم يقله أحد من أئمة السنة لا الأحناف ولا غيرهم ، بل إن هذا هو محور بدعة الإرجاء المذمومة كما سنبين بعد إن شاء الله تعالى ، كذلك أن يقال إن إخراج الأعمال من مسمى الإيمان يعني عدم حدوث أو ترتب الكفر على عمل من الأعمال فهذا خلاف ما ذهب إليه جميع أهل السنة - بما فيهم الحنفية - بل إن قائل ذلك قد اضطرب فهمه عامة سواء في مفهوم الأحناف للإيمان أو في مفهوم بقية أئمة السنة فيه ، كذلك اضطرب في مفهوم الكفر العملي والاعتقادي ومجالهما كما سنبين بعد . ومما يجدر هنا ، أن ننقل أثراً رواه ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية يفيد تردد أبي حنيفة في قوله في الإيمان ، قال : "إن حماد بن زيد كما روى له حديث أي الإسلام أفضل .. الخ، قال له : ألا نراه يقول أي الإسلام أفضل؟ قال الإيمان ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبوحنيفة فقال بعض أصحابه : "ألا نجيبه يا أبا حنيفة قال : بم أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" شرح الطحاوية ص 253."
أما عن بعض ما حكي عنه الخطيب في تاريخ بغداد، فنضرب مثالا بالتصحيف الذي وقع فيه في خبر أورده في ص 386، برقم 3: قال: عن يوسف بن أسباط يقول قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله ﷺ وأدركته لأخذ بكثير من قولي"! وهذا غريب شاذ! فقد جاء في جامع المسانيد أن الرواية التي يرويها أبو يوسف أنه لما ظهر عثمان البتي المعروف بابن جرموز، في البصرة وأظهر مذهبه في الأصول، وكان فقيها محدثا، قال أبوحنيفة "لو أن البتي رآني لأخذ الكثير من قولي" فصحفها الخطيب "لو أن النبي ﷺ رآني ...". راجع الهوامش.
وهذا دليل على تحامل الخطيب على أبي حنيفة بشكلٍ منكر!
فإذا نظرنا في الروايات التي نقلها بشأن استتابة أبي حنيفة في الكفر، وتجدها في ج13، نفس الباب "ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن"، والذي تحدثنا عن سقوط أسانيده. أما ما قيل في الكفر والاستتابة فهو يجري على نفس المنوال.
فتحت رقم 41، سنده فيه مجهول (عن شيخ!) فلا تصح به رواية!
ورقم 46، "ثنا ضرار بن صرد (قال البخاري وغيره متروك)، ثنا سليم المقريّ (قال ابن معين ضعيف ليس بشيء).
ورقم 50 عن استتابته مرتين: في سنده محمد بن فليح المدني (قال ابن معين ليس بثقة، وقال أبو حاتم لا يعجبني حديثه) عن أخيه سليمان (وهو مجهول)، فالرواية ساقطة بالجهالة.
وفي رقم 52 ص 279، وهي الرواية التي ينقلها البعض دون تروٍ، فيها أن شريكا يقول: استتبت أبا حنيفة مرتين! وفي سندها محمد بن حيوة بن العباس الخزاز، قد أعلَّه الخطيب نفسه بأنه يروي ما لم يسمع (انظر هامش 68 ص 367)!
وقس على ذلك كافة روايات ذلك الباب.
والعجيب عمن أورد تلك الروايات قد أغفل الكتاب الملحق بطبعة دار الكتب العلمية لتاريخ بغداد، ومحققها الأستاذ مصطفى عبد القادر عطا، لردَّ هذا الظلم عن أبي حنيفة، وهو كتاب "الرد على أبي بكر الخطيب البغدادي" للإمام الحافظ محب الدين هبة الله المعروف بابن النجار (ت643هـ). وفيه رد الإمام على كل شاردة أوردها الخطيب مما فيه انتقاص لأبي حنيفة.
وهذا الإغفال هو من سمة أهل الباطل الباحثين عن الشهرة والمتابعين والمال الوارد من وسائل الاتصال، في زمننا هذا الذي أظلمت شمسه بحجب الجهل السرمد، وتعفرت أجواءه بغبار الهوى والغفلة والباطل، بفعل صغار غُشْمٍ جهلاء، لا يعرفون لأحد حرمة ولا قدراً، إلا ما أشرب من هواهم.
وأما عما ورد في "كتاب المجروحين" لابن حبان، ج2 ص 406 وبعدها، ط دار الصميعي، جدة، ، ففيه مما ذكرنا في نقض كلام الخطيب، كما أن ابن حبان معروف بالتساهل في الأسانيد، لذلك لم تعتبر سننه من كتب السنن الستة المعروفة، على جلالة قدره في الحديث.
------------------------
(2) أما عن النقل الذي نقله البعض عن الشيخ أبو محمد المقدسي، في روايته لمسألة تكفير أبي حنيفة مرتين، فإن ذلك الكلام قد ورد في رسالته "إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر".
فقد أورد الشيخ حفظه الله، في ص 56-59، كلاما ذكر فيه أن أئمة معاصرين لأبي حنيفة قد كفّروه. وذكر أن ذلك مذكور في تاريخ بغداد للخطيب، والمجروحين لابن حبان. وقد بينت أن السند الذي أورده الخطيب كله معلول لا يصح منه شيء أبداً.
إنما الأمر أن المقام في كلام الشيخ المقدسي لم يكن لجرح أو تعديل لأبي حنيفة أو غيره. إنما، كما قال الشيخ في ص 57، إن الكلام، مهما كان قائله، فإنه لا يجوز تصحيحه لمجرد علو قدر صاحبه! فالرجال يعرفون بالحق، والحق لا يُعرف بالرجال. فالشيخ كان يرد على تعميمات وإطلاقات يستشهد بها من يروج لشبهة الإرجاء، بقول أبي حنيفة في الإيمان، وهو مذهب لا يأخذ به أئمة أهل السنة جميعا كما بيّنا في الجزء الأوا أعلاه. لكن هذا لا يستتبع تكفير أبي حنيفة إلا عند الجاهل في العقائد والتاريخ وأقوال الأئمة جميعا!
وقد رد الشيخ في ص 59، على من قال إنه يقول بتكفير أبي حنيفة فقال "فمرادنا ليس استقصاء هذا أو تبنيه، وإنما إبطال شبهاتك وخرق إطلاقاتك"
كما نبه لهذا مرة أخرى في هامش ص59 ردا على من رماه بتكفير أبي حنيفة، قال "فليتأمل هذا من افترى علينا تكفير أبي حنيفة، فإننا لا نشغل أنفسنا بتكفير من مضوا ..."
ولعل في هذا بيان للمسألتين اللتين انشغلنا بالرد عليهما هنا.
وعلى الله التوفيق
د طارق عبد الحليم
29 يونية 2024 – 23 ذو الحجة 1445