فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      بين يديّ البحث العلمي

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ

      حديثي هذا ليس بحثا في ذاته، لكنه حديث عن طرق البحث العلمي ووسائله. وهو علم منفرد مستقلّ يدرّس في عدد من الجامعات العربية، كما يُدرّس في كافة الجامعات والمعاهدالعلمية الغربية.

      وسبب تناولي لهذا الأمر بالحديث، هو اختلاطي، في العقد الحالي من الزمن، بطبقة من "طلبة العلم" أو ممن يحاولون أن يكونوا من طلبته، فوجدت فقرا مدقعا، وانعداما علميا لِمَا يُقدم لهؤلاء الراغبين في أن يكونوا من طبقة "طلاب العلم". والسبب في ذلك هو ذلك الجو الكئيب المظلم، المختفى عن الأعين الناقدة، الذي تدوَّن فيه أبحاث لا حصر لها، يكتبها كل من هب ودب بالمعنى الحرفي للكلمة، دون أن يكون لهؤلاء أية مرجعية "علمية" صحيحة، يرتكز عليها، ليس فقط في موضوع البحث ذاته، فهذا من المفروغ منه أن هؤلاء "الباحثين" في عالم النت من الوطاويط الظلامية العلمية الفجة، ليسوا ممن حصل على أقل المؤهلات العلمية ابتداء، بل كذلك في أساليب البحث التي يتداولها هؤلاء "الطلبة" المساكين، الذين تُعرض عليهم، بل وتُدّرس لهم، تلك المُخرَجات، فتكون ظلاما فوق ظلام، لا نورا على نور. وإنما ذلك، كما قلنا، للفقر العلمي في الموضوع ذاته من ناحية، ولانعدام المعرفة بأساليب البحث العلمي. فهؤلاء كمرتزقة الجيوش، يعرضون أنفسهم، لقتل الحاسة العلمية عند هؤلاء الشباب، مقابل الارتزاق المادي أو غيره من أهواء النفوس. فمن الأمانة ألا يتحدث المرء إلا فيما يعلم، وهو لن يعلم إلا إن تلقى في جامعة وتدرج في المعرفة .. أو هو جيل مشوّه، مُدجّن، يردد ما كتبه الأسلاف، بعد تفنيطه كورق "الكوتشينة".

      وحين أطلق لفظ "العلمية" يتبادر إلى ذهن القارئ غير المطلع، أنني أعني ما يختص بالعلوم الطبيعية أو البيولوجية أو التكنولوجية، وما شابهها مما يتناول الفيزيقا بأبعادها ومركباتها. لكن هذا اللفظ يعنى "أي مادة يتناولها العقل البشري الفاحص بالنظر في مقدماتها ونتائجها، من زاوية ما أو أكثر".

      فالبحث العلمي يشمل النقد الأدبي، ومباحث التاريخ، وفلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم الإدارة، والعلوم السياسية، وما شئت من هذا القبيل.

      وقد درسنا هذه المادة، مرتين. مرة حين انشأنا في كتابة بحث الماجستير، لنتعرف على كيفية البحث ووسائله وأدواته، وطرائقه ، وتنظيم مقدماته ونتائجه، وتحديد مصطلحاته. ومرة قبل البدء في الدكتوراه، حيث كان النظر في قواعد هذا العلم أكثر التصاقا بالمادة التي تخصصنا فيها بالذات.

      وقواعد المنهج العلمي هي مجموعة من المسلمات المعرفية، التي يتفق عليها الباحثون بشكل عام، أو مجموعة زائده يتفق عليها الباحثون في موضوع بعينه.

      وهذه القواعد منها ما هو شكلي وما هو موضوعي.

      فما هو شكليّ يتعلق بإخراج البحث بشكلٍ عام، مثل الترتيب والتقديم، وعمل الفهرس، وتصحيح الأخطاء اللغوية أو المطبعية، وغير ذلك من الشكليات.

      أما الموضوعي، فيختص فكيفية إعداد خطة البحث، لا بالتهجم على الصفحات وتسويد بياضها بكلام لا يعرف القارئ أين بدأ وإلى اين ينتهي.

      كذلك تحديد منهج البحث، أي الطريقة التي يتبعها الباحث للوصول من مقدمة إلى نتيجة.

      كذلك تحديد نوعية البحث، سواء، تعريف بعلم، أو إضافة جديدة على علم، أو شرح لمكتوب، أو مجرد سرد لنقولات تختص بمادة واحدة، تُرتب كأنها أتت بجديد، أو أضافة مطلوب.

      ثم تعريف المصطلحات التي سيستخدمها الباحث، وبيان حدودها، واستخدامها في هذا البحث بالذات، حتى لا تلطم القارئ في حدقته، حين يقرؤها فلا يعرف موقعا لها في الجملة!

      واختيار منهج البحث في عنصر في غاية الأهمية. ألا ترى أن للمحدثين مناهج يسيرون عليها، لا يشاركهم فيها أحد (1). وهكذا كل علم. ومن ضمن تلك العلوم هو علم طرائق البحث.

      ثم جدّة الموضوع، وطريقة العرض. فإنه لمّا كان غالب علماء النت، قليلي أو عديمي العلم الدراسي المنهجي، تجدهم لا يُخرجون إلا ما لا جدة فيه، ولا استقراء لواقع، أوسع من دائرة حارتهم او حيهم، أو بلدتهم، بل إعادة إخراج دون فقه مقارن في موضوع البحث الذي يتناولونه، سواء كان علم رياضي أو أدبي أو سياسي أو اجتماعي.

      وتوثيق المصادر من أهم ما يحتاجه الباحث، ليلقي ثقة على ما يُقدم. والأهم من ذلك هو مقارنة ما ينقل بما كتبه الأخرون، ليصل إلى نتيجة تقرب من الحقيقة العلمية المطلوب كشفها.

      كثيرة هي قواعد هذا العلم وتفاصيله ومنهجه .. ولا أريد أن أكتب فيه بحثا، فقد درسته مرتين والحمد لله، ولا حاجة لي بعرضه، لكنه التنبيه والنصح.


      (1) انظر كتاب "مناهج المحدثين" بالعربية والانجليزية للكاتب