فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      في ظلال الجهل

      (1)

      حين انحط المزاج العام، وانهار المستوى العلمي بين أبناء الطبقة المتوسطة، مع اختفاء تلك الطبقة

      بشكل عام، وانشغال الطبقة الفقيرة بتحصيل المعايش والطبقة الغنية بالمفاسد والمخازي، نضب معين الثقافة، وقلت العلماء الحق حتى كانت أن تختفي طبقتهم، ومن بقي منهم صار إما سجينا أو طريدا أو شهيدا!   وأدى ذلك إلى الكثير من البلاء، ومنه ظلم لكثير من أصحاب العلم والنتاج الرفيع، حيث أن معرفة قدر العلماء تلزمه بيئة ثقافية وفكرية خصبة. فلما انحصر العلم في دوائر مخصوصة، بسبب ترويع العلماء، وعدم القدرة على البيان، ومنع نشر كتب معينة أو مؤلفات لأناس بأعينهم، توارى إنتاجهم واختفت سيرهم، وصغرت أو اختفت عن أعين الناس أقدارهم. وهو ما يمثل خسارة كبيرة للمجال العلمي، تزيد في تعميق الهوة التي انحدر إليها الوعي العام.   لكن، ما يخفف من هذا الأمر الحزين، أن التاريخ يسجل الأعمال كلها، ويحيي ما أمات الجهال من الأمم، ولو
      بعد حين.

      (2)

      كان من الآثار المدمرة لانهيار الثقافة العامة، التي ألمحنا إليه سابقا، ضياع العلماء الربانيين بين جهل العامة، وظلم الحكام. ولكن كان لظهور المنصات الإلكترونية، أثرا لا يقل تدميرا على دور العلم في حفظ هوية المجتمع وتماسكه، واتباعه لرؤوس العلم، فلا يَضل ولا يُضل.

      كان المعتاد من قبل، على مر العصور، أن العلماء معروفون بما يدونون من كتب، يبتغيها الناس في المكتبات ودو النشر. ولم يكن يعتبر عالما، يحق له الحديث في أمور الشرع أو السياسة، إلا من عُرف بمدوناته، وقوبلت بالقبول في أوساط علمية متخصصة، مما جعلها أهلا للطباعة والإخراج في هيئة كتب منشورة. فكانت الطباعة كشهادة على قيمة الأعمال، بغض النظر عن صحة توجه صاحبها أو فساده. أتاحت تلك المنصات مساحة لكل من يقرأ ويكتب، مهما كان أميا في العلم، أن يكتب رأيا، في كل مسألة تبرز على سطح الأحداث.

      وكان من جراء ذلك أن سادت حالة نفسية عامة بين كافة مستخدمي المنصات، حين رؤوا ما يدونون "مكتوب" بالفعل، وأن دور الطباعة قد تراجع، فاختفت بالتدريج الفروق بين صاحب العلم، وبين العامي الجاهل، أو الرويبضة. وصار الكلُّ "صاحب رأي" يُسمع لخه، بل ويُتابع، ويعاد نشر كلامه! فاختلط الحابل بالنابل، والعالم بالجاهل، وصار الكل عالماً، وإن تنصل البعض من اللقب، لكن التصرف والأداء، قد جعل الساحة الفكرية مليئة بفيروسات لا حصر لها، متسورة على العلم، دون أي خلفية يُعتمد عليها. ولأن الخلفية باتت بلا قيمة، فقد فقد الناس رؤوسهم، حرفياً! وصارت الفوضى العلمية في الفتاوى، التي يسميها الناس اليوم "الآراء" طامة كبرى ومصيبة عظمى.

      وتصدى الكل، دون حياء، لتقييم الأفكار والأشخاص والأحداث، بمجرد هواهم، وما يجمعونه من سقطات ولقطات، سواء من محركات البحث، أو منشورات أقرانهم من فيروسات النت. لم يعد هناك من يُعتمد له قول، إذا، إلا من له نتاج علمي مطبوع قبل عهد النت، لا مجرد صفحة عليها متابعون مهما كثروا، أو مصورات "يوتيوب" يسجلعها كل هاذٍ بليد، في منزله، بعد أن يطلق لحيته، ويضع خلفية بها بعض كتب، يعلم الجمع إنها للتصوير، لا القراءة والتفكير!

      الفوضى التي تضرب البيئة الفكرية اليوم، هي، ككل الفوضى التي تعم كل مجال في حياة الناس اليوم، مقصودة مرادة لذاتها، حتى تدع الناس دون رؤوس يحترمونها ويستمعون إليها، ويرجعون لها في مطالبهم، فتتوحد الأمة وتتفق الآراء.