الأزمة التي يمر بها الشعب السوري المُهجَّر في تركيا، ليست وليدة الوقت الحاضر، أو الحكومة الحالية. بل هي وليدة تراكمات عنصرية قديمة بين العصبية الطورانية والعلمانية الأتاتوركية.
والحق إن هذه الحركة قد بدأت منذ ثلاثة قرون، على يد يهود الدونمة، الذين قصدوا إلى إضعاف الخلافة العثمانية المسلمة، بإحياء النعرة التي أخذت اسم العنصر الطوراني، وهو الذي يشمل العرق التركي في أسيا الوسطى، وحتى التتار، ويمتد ليشمل الأتراك المهاجرين إلى أوروبا، والذي نشأ لمقاومة العرق السلافي الروسي.
وتقوم القومية الطورانية على التعصب لذاك الغرق، وعدم الاعتراف بالدين كجامع للأتراك، وصارت اللغة الطورانية هي أساس كتاباتهم، ونبذوا اللغة العربية، بل أزالوا آثارها من المساد حتى قبل تمكن أتاتورك من الحكم! فكأن التاريخ يعيد نفسه.
وكان مبدأ القومية الطورانية، الذي كتب أدبياته بعض اليهود، الذين سيطروا على حركة تركياالفتاة، وعلى جمعية الاتحاد والترقي، قد قوي واشتد عوده، حتى استطاع الاتحاديون هزيمة التوجه الإسلامي بقيادة أتاتورك، وأنهوا الخلافة.
وبالطبع وجد هذا التوجه الطوراني بغيته في العلمانية، التي تمكن أربابه من انتزاع الدين، كمصدر وحدة، وتستبدل القومية والعصبية بالإسلام، وتجعل توجه الأتراك بالتمسك بالهوية الطورانية هو الأقوى والأشد.
وقد كانت هذه الدعوة للقومية الطورانية هي السلف التعيس لدعوة القومية العربية، التي أراد بها الهالك عبد الناصر ما أراد أتاتورك، إلا أنه فشل فشلا ذريعا من حيث إيمانه هو العسكر بالفكرة أساسا، كما الاتحاديون بالقومية الطورانية.
فالشعب التركي قد تم صياغة هويته وفكره، في القرنين السابقين على الأقل، من خلال دمج تلك القومية الطورانية في عقيدته، حتى صارت جزءاً لا يتجزأ منها، بما تحمل من تعصبٍ وخضوع لمبدأ العلمانية وفصل الدين عن الحياة العامة، لا يختلف في هذا تركيان.
ثم انقسم الشعب على نفسه إلى اتجاهين، أحدهما من تبنى العلمانية الأتاتوركية، التي نسميها اليوم "العلمانية الخشنة" التي تنكر الدين وتحاربه، وتنهى عنه. والعلمانية العثمانية، والتي أطلقنا عليها "العلمانية اللينة"، أي التي، مع إيمانها بالعلمانية مذهباً، والتي هي فصل الدين عن الحياة العامة، وبالقومية الطورانية جامعاً، تؤمن بالدين شكلا وشعائراً، لكنها تقصيه عن الحياة بنفس المبدأ الذي تقصيه به علمانية أتاتورك. ثم يشترك الأتراك كلهم "أتاتوركيون وعثمانيون" في إيمانهم المطلق بالقومية الطورانية، والنعرة الطورانية واللغة الطورانية غير العربية.
ومن ثم، فإن ما نراه اليوم في تركيا، من تعصب ضد العرب، واللغة العربية، وكا يمارسه الشعب التركي، في غالبه، هو نتيجة عملية طويلة جرى فيها صقل الشخصية التركية العلمانية الطورانية/العثمانية. وكلها تدين بالولاء لأتاتورك، ولاء تاماً لا مراء فيه، سواء العلمانيون العثمانيون او العلمانيون الأتاتوركيون، من حيث اشتراكهما في القومية الطورانية والعلمانية. لذلك، فحين نسمع أنّ الأردوغانية متهمة بأنها عثمانية، لا يجب أن نفهم من ذلك "العثمانية الإسلامية" التي آمنت بالجامعة الإسلامية، لا بالعلمانية ولا بالقومية الطورانية، والتي تم القضاء عليها بالتمام ليحل محلها اتجاهي العلمانية آنفي الذكر.
وفي ضوء هذا يُفهم التوجه الأردوغاني الي ينتمي للطورانية العثمانية العلمانية.
مشكلة تركيا اليوم أكبر من أن يعالجها معالج من داخلها. بل هي، مثلها مثل بقية بلدان العرب، تحتاج فتحا إسلاميا جديداً، يقضي على النزعة الطورانية التي تأصلت في عقل وضمير الشعب كله، وعلى مفهوم العلمانية بشقيها، اللين والخشن، الأتاتوركي والعثماني.
د طارق عبد الحليم
20 يوليو 2023 – 2 محرم 1445