فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      لمحة في التوازنات العالمية

      من الأجدر بالمسلم، المهتم بأمر أمته، والعامل في في مجال الدعوة لدين الله، أن يعرف ما يجري على الساحة العالمية من أحداث، حتى لو تهيأ له أنها لا تمس أمتنا من قريب. ذلك أن الأحداث التي تجري في عالمنا صارت متشابكة متقاطعة، لا يمكن أن تخلو أيها من أثرٍ على مجتمع ما، قربت منه أو بعدت، كمثل قانون "أثر جناح الفراشة" في الفيزياء الحديثة[1]. إذ ما من حدثٍ يقع إلا وله تأثيرٌ على بقية ما يجري في العالم، بشكلٍ ما. وهذ ما يردّ على أولئك السطحيين الذين يقولون "ما لنا ولحرب أوكرانيا، أو لمناوشات أذريبيجان وأرمينيا"! التأثير مؤكد، لكن يحتاج للعقل وللعلم، ولفهم الديماميكية التي تعمل في تصرفات البشر، بشكل عام.

      أما موضع مقالي هذا فهو متعلق بالحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا. ما دوافعها وأسبابها، لنفهم كيف يمكن أن تنتهي، وهل سيكون هناك عالم بقطبين، أم سيظل العالم تحت إصبع أمريكا لحين ممتد من الزمن؟

      نعلم أن الاتحاد السوفييتي، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى (1922)، عقب انهيار الامبراطورية الروسية عام (1917)، كان يضم عددا من الدول التي احتلتها روسيا، ثم ضمت لها عددا آخر من دول الجمهوريات الإسلامية الآسيوية، حتى صار الاتحاد السوفييتي أضخم كتلة عالمية وقتها. حتى تمكنت الولايات المتحدة من تفكيكه في نهاية 1991، بعد سبعين عاما من تأسيسه، وعادت روسيا، أو ما يُعرف بروسيا الاتحادية، بعد أن فقدت ثلث كتلتها الحضارية. وورثت روسيا مقعد الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن، دون استحقاق.

      وروسيا، كدولة، ليست من كبريات الاقتصاد العالمي، بل اقتصادها لا يبلغ عشر اقتصاد الولايات المتحدة، ويأتي تاليا لعشر دول بعد أمريكا. وما سبب شهرتها "كقوة عظمى" إلا بقية ذكرى الاتحاد السوفييتي، وحيازتها لرصيد السلاح النووي من أيامه. لكن حيازة السلاح النووي لا تجعل دولة ما عظمى، حيث تحوزه الهند وباكستان. فالقوة العظمى تكون بالتفوق الاقتصادي والعسكري والتقني، لا بالسلاح النووي. من هنا فإن اهتمام أمريكا بمحاصرة الصين، أشد كثيرا من اهتمامها بتلك الحركات التشنجية التي تقوم بها روسيا منذ عام 2014، حين احتلت القرم وطردت تتار القرم المسلمين، وقوّت شوكة الانفصاليين في شرق أوكرانيا.

      وحرب روسيا على أوكرانيا، هي محاولة تحلم بها قيادة بوتين منذ تولى رئاسة الحكومة عام 1999، ثم رئيسا لروسيا، حتى يوما هذا.

      وهذا الحلم، حلم العودة بالبلاد لعهد الاتحاد السوفييتي، واستعادة قيادة قطب عالمي شرقي، كما كان العهد وقته، وبقية التصور المهيمن على فكر تلك القيادة، هو ما دفعها لدخول أوكرانيا في 2014، وتورطها في سوريا 2017، لتجد لها موطأ قدم على البحر المتوسط.

      لكن، كما هو واضح من مسار الحرب، التي ستدخل عامها الثاني قريبا، بعد أن مقدرا لها أسبوعا من الزمن! واضح أن أمريكا اتخذت من حماقة بوتين وعجرفته، وعدم قدرته على تمييز معايير القوة الحقيقية، متكأ لتمزيق قوته وتخريب اقتصاده على حساب الدولة الأوكرانية. فهم يمدوهم بما يمكنهم فقط من وقف الزحف، لا من التقدم الحقيقي، حتى يطول أمد الحرف ويتم استنزاف روسيا كما يريدون. وهذا لا يعني أن ذلك كان من بدايته من تخطيط أمريكا، إلا عند مغفلي نظرية المؤامرات المشركين لأمريكا و"الحومة العالمية" في قدر الله. بل هو ركوب الموجات التي تحسنه أمريكا أيما إحسان.

      وبوتين اليوم في مأزق شديد، فإما أن يستمر ويُستنزف بالتمام، أو أن يتوقف ويضيع بالتمام. وهما خياران مميتان بالنسبة له. ومن ثم فهو اليوم يحاول تكتيكا جديدا بتدمير الدولة الأوكرانية بكامل بنيانها، مع عدم قدرته على ضرب قوتها العسكرية، التي تضمن أمريكا بقاءها صامدة في حربها بالوكالة.

      روسيا ليست مصدر إزعاج ولا رعب للأمريكان بالمرة. قصاراها أن أوروبا تدفغ الفاتورة من مستواها المعيشي، لا غير. وهي ليست نداً لها عسكريا ولا قريبة من الند ولا شبه ند، فقد أوقفت أمريكا عجلات روسيا العسكرية ببعض الامدادات بأسلحة متوسطة المدى والتقنية لدولة من العالم الثالث، دون تدخل جندي واحد من الناتو.

      المزعج الوحيد لأمريكا، هو الصين، لا أحدا سواها. وهي سائرة اليوم في خطة كبحها تقنيا.

      الخلاصة، أن العالم لن ينتهي بعد هذه الحرب بقطبين للقوة، بلا شك. بل سيظل تحت قطب واحد هو الإمرة الأمريكية، بقبضة أقوى، بعد فشل أوروبا، وضياع روسيا وكبح الصين.

      د طارق عبد الحليم

      8 جماد ثان 1444 - 1 يناير 2023

       

      1. The Butterfly Effect, is a mathematical concept developed by Lorenz (d2008), related to the Chaos Theory.