فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      سَيد قطب ... والخِطابُ الدعويّ المُعاصِرِ

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
      (1)

      لعلّ من أكبر شخصيات هذا العصر، التي تعرضت للهجوم والنقد والتجريح والتشهير، من بنى جلدتها ومنتسبي عقيدتها هو سيد قطب رحمه الله تعالى. فقد شنت عليه جحافل النقاد والمجرحين حروباً وصلت إلى التكفير والتبديع، وادعاء أنه اسوأ على الإسلام من اليهود والنصارى! حَملاتٌ منها ما أستعلن بالكَراهة والحقد والعداء، كالمَدخلية من عملاء النظم الفاسِدة والحُكومات الجائرة، ومنها ما ظاهِرُه الرحمة والإنصاف وباطنه الغيرة والإجحاف، كفعل القرضاوي وسليم العوا ومحمد عمارة، ومنها ما توَسّط ذلك، فقدح ولم يَفجُر، ونقدَ ولم يفسق، إما بحقٍ أو بباطلٍ، وقليلٌ ما هم.

      وقبل أن نمضي في حديثنا نودُّ أن نبين قصدنا بهذا المقال ليس هو محاولة للدفاع عن سيدٍ قدر ما نا هو محاولة لفهم أقواله ومحاولة الاستفادة منها، دون غُلوّ فيه أو توجُسٍ منه.

      وسيّدٌ رحمه الله تعالى، مثله كمثل كلّ البشر، إلا الأنبياء والرُسل، يخطئ ويصيب، ليس له خاصية أخرى في هذا الصدد. لكن الأمر يجب أن يدور في دائرة ما أصَاب فيه أو أخطأ، دون تَجنٍ أو تحيّفٍ. فليس يلزم من خطئه في أمر أن يكون مخطئاً على طول الخط، كما فيما ارتآه في بعض الصفات، وما ذهب اليه في تأويلها، لا يجب أن ينعكسّ هذا على شَرحه الدقيق الواعي لتوحيد عبادة الله ومَكانة تحكيم شرعه في بناء العقيدة وتشييد رُكن الدين.

      وأحسب، والله وكيلي، أن احداً ممن نقد سيداً، بحقٍ أو بباطل، قد بلغ عشر معشار ما بلغه سيد في تفصيل هذا المقام، ولا أنّ أحداً قدّم شهادة على صدق نفسه فيما يدّعى مثلما قدمّ لها هذا الرجل، حياته لا أقل منها.

      والحقّ أن الحديث عن سيد رحمه الله تعالى وعمله ودوره، وحُساده وعواده، ومحبيه وشانئيه، يطول ولا يكاد ينتهي. لكن أردنا في عجالتنا هذه أن نبيّن معنىً طَرَق للذهن منذ أيام معدودة، وهو صِلة ما كتب سيد بواقعه وبواقعنا على حدٍ سواء. وبكلماتٍ أخر، هل تغير مناط الأحكام التي أطلقها سيد في حديثه عن المجتمعات والأنظمة؟ وهل لا يزال مفهوم العُزلَة الشُعورية التي غزا به عقول قرائه ووجدانهم منذ منتصف الستينيات، قائماً لازماً؟

      وحتى نجيب على هذه التساؤلات يجب أنْ نقرّر أولا أن أيّ كاتبٍ، مهما كان، لا يجبُ أن يُحسب عليه منْ حَمّل كلماته بما لا تحتمل، والتوى في فهمها بما لا يستقيم، ولا يجب أن يَحمِل وِزرَ من خَرج عن الجَادّة بتأويلِ كلماته، وتفريعِ عباراته. وإن شاء أحدٌ دليلاً على صحّة ما قررنا، فهذا كتابُ الله لا ينطق إلا بالحق ولا يعبّر إلا عن الصِدق، ولا يدعو إلا إلى الائتلاف، ولا يحذر إلا من الخلاف، خرجت بتأويله وتزييفه بدعٌ وأهواءٌ أفردت في حصرها مجلدات، وكلها تستشْهِدُ بالآيات البينات. وهو ما يبين أنّ الخلل إذن قد لا يكون في القائل، بل قد يكون الخَلل في القارئ. وقد احترزنا ب" قد" إذ إنه يجب الاحتراز بها إلا في مقام القرآن، الذي نعرف يقيناً أنّ الخلل مَنسوبٌ إلى القارئ، صاحبِ الهوى، لا إلى القائل جلّ وعَلا.

      ولاشك أن هناك ألفاظٌ متداخلةٌ موهمة، وأفكارٌ متشابكة متزاحمة، تمتلأ بها كتابات سيد، وهو أحد اسباب هذا النتاج الهائل من النقد والتجريح والتقريع. ولعلّ بعض الظروف التي أحاطتٍ بسيدٍ في فترة خروجه من ثوبه الفكري إلى ثوبه الإسلاميّ الصرف، قد دفعت ببعض هذه التعابير والألفاظ إلى مكانها في كتاباته. ولكن، علينا، وفاءً للرجل، وإحساناً للظن به، وتغليباً لما غَلُبَ على فكره من صحة ورقيّ أن نحاول فهمه دون تعسفٍ ولا ازدراء وأن ننزله منزلته من الحق ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

      (2)

      ودعونا نردّد النظَر في مُصطلحين من مصطلحاتٍ سيدٍ رحمه الله تعالى، هما جاهلية المجتمعات والأنظمة، والعُزلة الشعورية التي يجب أن يحيا بها المؤمن في عصرنا هذا بين الناس.

      فحين يتحدث سيداً عن غياب الأمة المسلمة، فهو لا يقصد بها أفراد الأمة، بل يعنى الكِيان الذي يَصِحّ وَصفَه بأنه "أمة"، وهو "كيان" لا "أفراد الكيان".

      وسيد ليس بدعاً في هذه التفرقة، بل قد سَبقه لهذه التفرقة شيخ الإسلام بن تيمية، حين فرّق بين حكم ماردين كَكِيانٍ، وحكم أفرادها بإسلام أو كفر. وعدم فهمِ هذه المسألة، أو التغافل عنها، يؤدى إلى خَلط كبيرٍ وظلمٍ عظيمٍ لسيد وفكرِه.

      أما قوله "إنْ العالم يعيش اليوم كله في "جاهلية " من ناحية الأصل" المعالم، بما فيه بلادُ المسلمين، فإن لفظ الجاهلية لفظٌ عامٌ يشمل عاداتٍ وتقاليدٍ وعقائدٍ وتصوراتٍ وأفعالٍ، كما بيّن صلى الله عليه وسلم في قوله لابي ذر "إنك امرأ فيك جاهلية"، فعقائد الصوفية في شرك القبور جاهلية، وتصورات العلمانيين في حكمة اللادينية الغربية جاهلية، وتقاليد الأربعين والسنوية للميت جاهلية، وعادات مصافحة النساء والاختلاط جاهلية. ولو ذهبنا نعد ما في مجتمعاتنا من جاهلياتٍ ما انتهيا من مقالنا هذا اليوم. لكنّ الأمر أن الجاهلية ليست رديف الكفر، بل رَديف الكفر هو الإسلام لا الجاهلية. وهو أمر اصطلاح شرعيّ. فمن أراد الكفر ذكره صراحة، ومن ذكر الجاهلية كان قوله متردد بين معنى الكفر الأكبر، ومعنى البدعة والانحراف والخروج عن السنن ومعصية الله ومناوئة السنة، ومثل ذلك من المنكرات الشرعية، صغيرها وكبيرها، والتي لا يشكّ أحدٌ فيه قدر ذرة من نصفة أن مجتمعاتنا ليست غارقة فيها حتى شحمة أذنيها. ولم يأتِ في حديث سيد كله، وهو مدوّن بين أيدينا، نصّ واحد أعلن فيه كفر أفراد المسلمين، بل حديثه كله عن جاهلياتٍ متراكبةٍ، ظلماتٍ بعضها فوق بعض من ركام العقائد والتصورات والعادات والتقاليد والقوانين. فحين يتحدثُ سيدٍ عن جاهلية الأنظمة ومصادر التشريع والتلقي، فهو يتحدث عن كفر هذه الأنظمة التي تحكم بغير ما أنزل الله وتشَرّع من دونه، لا كفر من يعيشون تحت ظلها كما أشرنا. وحين يتحدث عن جاهلية الشعوب، فهو يتحدثُ عن الجاهلية المنحَرفة عن الإسلام، لا الخَارجة عنه بإطلاق. وأسال من فهم غير ذلك من كلام سيد، أما أن يأتي بنص واضحٍ في تكفير أعيان المسلمين، أو أن يراجع نفسه ويسألها: أتدعى فهم هذه الجزيئة البسيطة وتنكر على سيد قطب أن يكون هو الآخر قد فهِمَها، وأرادَها على ما هي عليه؟

      أما عن موضوع العزلة الشعورية، فلا أظن إلا أن سَيداً قد قصَدَ إلا ما يعانيه المُسلمُ من غُربة عن الواقع الذي تحدثنا عنه، وحين نتأمل النصوص التي ذكرها سيدٌ في حديثه عن هذه العزلة، نجد أنه فرّق بين "قدرين" من العزلة، أولهما العزلة التامة الكاملة التي عاشها المسلمون الأوائل، حيث يقول "كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماض المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية" المعالم، وبين العزلة المحدودة التي يعيشها المؤمن في عصرنا هذا، والتي يجب على الطليعة أن نحياها، فيقول "تمضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب ، ونوعًا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة" المعالم. فلا يغيبُ عن القارئ الحصيف الفرق بين قدرِ العزلتين، أحدهما "عزلة شعورية كاملة"، والأخرى هي "نوع من العزلة"، فكان تعبيره هنا أخفّ حدة من حديثه عن مجتمعٍ قريشٍ الأوائل، وإذا هو يتحدثُ عن عزلة شعورية محدودة لا مطلقة.

      (3)

      فإذا ذهبنا نطالع مُعطيات حَاضرنا اليوم، وجدنا أنه رغم عدم تغير الكثير من مظاهره، إلا إن حراكاً ينبؤ عن حقائق دفينة كانت حبيسة تحت السطح نتيجة القهر والخوف، ومكر الليل والنهار، الذي يحملُ حتى صاحب العزيمة على الاستسلام، بقدرٍ أو بآخر، إلا من عصم الله. هذه الحقائق هي الخلفية المسلمة التي يتمتع بها الشعب المصريّ والتي تجلت في قولة "نعم" حين شاب الموقف مساساً بالدين ومرجعيته.

      ثم، كذلك، نرى أنّ الواقع الضاغط الذي كانت تعيشه مِصر طوال الخَمسين عاماً السَالفة، قد بدرَت فيه بوادر انفراجة للمرة الأولى، تستلزم انفراجةً موازيةً في الخطاب الدعوىّ المعاصر، وفي الأسلوب الذي تنتهجه الدعاة من أهل السنة والجماعة، أتباع السلف الصالح، في توجّههم إلى الناس، وبين الناس.

      هذا الخطاب المعاصر، يريد أن يردمَ الفجوة التي أرادتها الأنظمة السابقة أن تكون بين المسلم من عوام الناس، وبين الداعية. يريد هذا الخطاب ألا يوّلد جفوة من الفجوة، تجعل التواصل بين الداعية وبين المدعوّ شاقٌ صعبٌ، بدلا من ان يكون سهلاً محبباً. ولن يكون هذا إلا إن انتقل الداعية إلى صفوف المدعوين يخاطبهم بأمه واحدٌ منهم، مسلمٌ بين مُسلمين، يريد لهم الخير لأنهم علي الخير، ويريد أن يكون واسطة هداية لا فارضَ ولاية، وأنّ لا فضل له عليهم ولا تكبر ولا ازدراء.

      ولإن احتاجَت طليعَة المُسلمين الظاهرين على الحق، من أعداء الجاهلية بكلّ دَرجاتها وأشْكالها، في عُصور القهرِ والظلمِ أن يُحافظوا على هويّتهم بالتميّز والاستعلاء، فإن الطورَ الذي نرجو لمصر أن تكون آخذةٌ فيه، لا يصلح فيه من الدعاة استعلاء على أهليهم واصحابهم، فإن ذلك لن يؤدى إلا إلى التفرّق عنهم إلى أهل المَكرِ والخِدعَة من دعاة الوسَطية الزائفة أو التجديدِ المُحرّف، أو إلى الأسوأ من دين "اللادينية" المتخفي وراء اسم العلمانية. يجب أن يتخاطب الدُعاة إلى الناس مُسلماً لمسلمٍ، أخاً لأخ، دون أن يشعر الداعية بأنه اعلى وأفضل بسبب الجلباب أو اللحية، بل عليه أن يُبدّى ما هو أهم وأولى حسبَ مقتضيات الشريعة، التي تُقدِمُ ما هو من الضروريّ، كالصلاة والصيام، على ما هو من الحاجيّ، وبالتالي على التحسينيّ كالجلباب واللحية (مع وجوب الّلحية).

      كذلك فإن الخطاب الدعوى، يجب ألا يكون شعاره ابتداءً "مناهَضَة المُجتَمع الجَاهِليّ"، بل يجب أن يتحوّل ابتداء إلى "تأصيل المجتمع الإسلاميّ"، بناء على أنّ الدعوة لا تقوم على تكفيرِ الناسِ ابتداء، إلا من جهر بكفرٍ على عِلم ودراية، كالقائمين على دين العلمانية، لا المُغرّر بهم ممن لا يعلم حقيقة ما يقوم عليه ذلك الدين، إذ هذا أمرٌ من الأمور الخفيّة التي تحتاج إلى تفصيلٍ وبيانٍ قبل إصدار أحكام بصددها (وعلى من أراد مزيد بيانٍ في هذا الصَدد أن يراجع كتابنا "الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد").

      إن العطاءَ المدرارَ الذي أنتجَه قلبُ سيدٍ وقلمُه، لا يزال يصْلحُ أن يكون مُوجّهاً عَاماً للمُسلم في فهمِ دقائق التوحيد، وعناصره ونواقضه، والحياة في ظِلاله الوارفة الغنيّة بالأمنِ والاستعلاء على الكفر والجَاهلية. إنما الأمر هنا هو فيما يصلحُ منه أن يتصدّر الخِطابُ الدَعوىّ في حقبة من الحُقب، وقد كان لنا في المَنهج القرآنيّ أسوة حسنة، حين تغيّر وجه الخِطاب القُرآني تماماً، شكلاً وموضوعاً، فصار أكثر طراوة وأقل شدة، إذ أصبح يتوجه إلى "الذين آمنوا" لا إلى "الناس" في غالبه. أمر الدعوة يجب ان يكون أمر قبولٍ وتوافق، لا أن يكون أمر تخالفٍ وتراشق. وهذا، فيما نحسب هو الضمان الوحيد، بعد توفيق الله سبحانه، للفوز على الأديان الأرضية الوضعية، العلمانية، والسّماوية المحرّفة، النصرانية.

      رحمَ الله سيداً وجزاه عنا وعن الإسلام والمسلمين خيراً كثيراً، فإنه لا يعرفُ الفضْل لأهلِه إلا أهلَ الفضل، ولا يُنكرُه ويجْحَده إلا أهل الفُجْر.

      د طارق عبد الحليم
      06 أبريل 2011

      (تحميل الكتاب)