فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      طالبان بين قوى الثبات والتغيير

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ

      من رأفة الله سبحانه تعالى بالعباد أن هيأ نصر طالبان في هذا الزمن العسير الذي كثُر خبثه وعمت بلواه، فكان كالبَرَد والثلج على صدور المؤمنين، بعد عقودٍ من الحرب المستنزفة مع أكابر مجرمي الأرض.

      ثم جاء بعد النصر وارتفاع الغمّة، زمن الصبر والهمة. فإن من سنن الله الكونية، أن تتمالأ قوى الظلام على المنتصر بحق ونور. مواجهة قوى الشر في العالم لم تنته بنهاية العمل العسكري، بل هي مستمرة في شكل محاولة التدمير الاقتصادي والاجتماعي والعقائدي. وهي حرب أقل تكلفة بالنسبة للعدو من العمل العسكري، لكنه يتقنها ويحسن استخدام أدواتها. وجنوده في هذه الحرب منتشرة في كلّ بقاع العالم، وأولها بلاد الرقعة الإسلامية، سواء حكامها، أو العملاء فيها، في مواقع عديدة كالإعلام، أو حتى فيمن ينتسبون لدوائر إسلامية، لكنهم يروجون للفكرة الغربية بشكل متدسسٍ خبيث خطير، لا يكشفه إلا عين خبير.

      والقوى المنتصرة في أفغانستان على وعيّ بهذا المخطط الكفريّ. لكن الأمر هو في أدواته ومدى خفائه وتدسسه، مجالات عمله ووسائله. فإن السمَّ يوضع في الدّسم. وهناك بلا شك احتياجات كثيرة تحتاجها البلاد لتعيد بناء بنيتها التحتية والفوقية، وإيجاد فرص العمل وتطوير التعليم لتوفير أصحاب العلم في مجالات الحياة، حتى لا يكون الاعتماد على الغير، الذي نعلم أنه لا يقدم شيئا أبدا إلا مقابل تدمير شيء من الخير في مقابله.

      هناك قوتان يعملان في مجال حياة البشر، قوة السكون والثبات والمحافظة على الموروث، وقوة الحركة والتغيير التي هي – كما قالوا - سمة الكون الأصيلة.

      وهاتان القوتان يعملان حاليا، بقوة، للتأثير على القرار الأفغاني.

      قوة الثبات على المبدأ والمحافظة على الموروث، قائمة في نسيج حركة طالبان، بل والشعب الأفغاني عامة، عرفها العالم طيلة القرن الماضي منذ انهزام الانجليز، ثم الروس، ثم الأمريكان.

      لكن الثبات لا يصفو له جوٌ ولا تخلو له ساحة. فإن ذاك هو امتحان البشر. التوفيق بين ما هو ثابت وما هو متغير. وكما ذكرنا هناك قوى خلف كل منهما، تقدم التبريرات والأدلة والقرائن، لتقنه القوى المؤثرة في قرار الحفاظ على التوازن، بصحة توجهها.

      فقوى التغيير والحداثة، تتمثل في كافة المنظمات التي تعمل على الساحة الإسلامية، وتقدم منتوجها الفكري على أنه "إسلامي" حديث، وسطيّ، متطور، مصلحي، إلخ .. وكل تلك التعبيرات المختلفة مبنى، المتفقة معنى، وهو معنى الرضوخ للأمر الواقع، ونبذ "القديم"، مع البقاء على احترامه كتراث حضاري!

      وتلك المنظمات والجماعات، تعرفها تميّزها بدليل قطعي وهو أنها لا تزال تعمل حرة طليقة في مناخ صار التلفظ فيه بالقرآن أو بكلمة الإسلام يضع عائقا على السفر، والتنقل، وحرية المال، والكلام. فأنى لهؤلاء أن يستمر جهدهم وتتيسر حركتهم، رؤوسا وأعضاء، بينما يُعتقل غيرهم، أو تقيد حركتهم، أو تُحبس أموالهم، أو تُحذف منشوراتهم؟! تلك علامة قطعية يتعرف بها المسلم اليوم على توجه أية جماعة أو منظمة، تدعى العمل للإسلام.

      انظر إلى ما يُدعى رابطة علماء المسلمين، ورئيسها الريسوني، وهو مغربيّ الأصل، تجد أعضاءها منتشرون في كل مكان، تمنحهم العضوية لوناً من الحصانة لا يتاح لغيرهم. وما ذلك إلا للأيديولوجية التي أسسها رئيسها الأول "القرضاوي"، ثم ألقفها للريسونيّ من بعده.

      وفي الغرب، تجد منظمات مثل "يقين"، تلك المؤسسة الممولة من اليهـ.ود، ويرأسها المارق عمر سليمان، وتدعو إلى كل ما هو مخالف للكتاب والسنة وتشكك في الحديث النبوي. ولكن انتشارها واسع بين الناطقين بالإنجليزية من الشباب المسلم.

      مثل تلك المنظمات العربية والغربية، التي تنتمي للإسلام، وتدّعي الدعوة، يقف وراءها رجال منحرفون عقديا ومتميعون حركياً، منهم المخضرم ومنهم الصغير الرويبضة. وكثير من أولئك المخضرمين كان له شأن في حلبة الدعوة، لكنهم خضعوا لفكر التغيير والحداثة، وقبلوا المتغيرات التي فرضها الوضع الجاهلي العام، ضعفا واستسلاماً. وهم اليوم كثير منتشرون في بقاع رقعتنا الإسلامية، بل ومنهم من ينتسب لأهل السنة والجماعة ويدّعي نصرة التوحيد ومحبة الشرع. فهؤلاء النفر، سحبوا مظلة التغيير فوق كلّ فكرة ومعنى ومبدأ، أن وجدوه يتعارض مع معطيات جاهلية واقعية، لها غلبةٌ على الأرض، فروجوا للتغيير، وبالأحرى التبديل، باسم مبادئ خيّلوا بها على الخلق، صحيحة في الظاهر، آثمة في التطبيق، كمراعاة المصلحة، وقبول الرأي الآخر، وفقه الممكن، والضرورة، والتمشي مع الواقع، وفقه النوازل، وغير ذلك من مسميات هي حقٌ أريد بها باطل.  

      أما أهلُ الثبات، فإنهم عرفوا أن الحركة والتغيير هي من ظواهر الكون الثابتة، ومن سنن الله في خلقه. لكنهم وضعوا حدّا لما هو ثابت قائمٌ لا يتغيّر، وما هو قابل للتغيير. وعلى رأس ذلك مبادئ التوحيد وأصوله، ربوبية وألوهية، والتحقق من نواقضه، وقواعد الإيمان، وأصول الشريعة العامة ومبادئها الكلية ومقاصدها، ثم قواعدها الكلية الثابتة المستنبطة من الكتاب والسنة بأدوات الفقه الصحيح، ثم ما يُعرفه أهل الأصول بأنه الفرق بين الحكم والفتوى. فالحكم الشرعي المُستنبط من الكتاب والسنة بالطريق الصحيح، ثابت لا يتغير بمرور زمان أو مكان. أما الفتوى فهي القابلة للتغيير على الدوام، بتغيّر الزمان والمكان والحال.

      تلك كلها ثوابت لا يجوز عليها تغيير أو تبديل، مسايرة لواقعٍ أو ملاينة لطاغوت. وليس من تلك الثوابت ما يخضع لفقه الممكن، ذلك المصطلح البغيض المُغرض، الذي استخدمه رويبضات العصر ليبرروا ما استباحوا من حُرمات الشرع وما غيّروا في ثوابته، وما خلطوا في مفاهيمه.

      وصاحب البصيرة والحق، يمكنه أن يميّز هؤلاء من أولئك من خلال "لحن القول"، فإن هؤلاء المتميعة المضللين أصحاب منهج التغيير، تراهم "يلحنون في أقوالهم وأفعالهم، ويظهر ذلك في تغيّر توجهاتهم، فهم ينصرون داعشاً صباحاً، ثم ينقدونها وينصرون المتسيبين الديموقراطيين مساءً! فهذا لون من ألوان اللحن في المنهج والفكر. وأصحاب الحق والثبات، تراهم على صراطٍ مستقيم، تعرفهم بسيماهم، لا يبدلون ولا يغيّرون فيما يمس أيّ من الثوابت التي أشرنا إليها.

      أما عن الإمارة الإسلامية، فهي كقوة بدأت تلوح رايات نصرها في أفق الدنيا، فكان لابد أن يتودد أصحاب التغيير والتبديل لها، حتى ينفذوا إلى منهج القائمين عليها، فيخربوه بتلفيقاتهم الموهومة، وعلومهم المزعومة. ولا أحابي أحداً حين أقول إن عدداً منهم نجح في التدسس بالفعل، ونفذ إلى إعلامهم، وسرّب سمّاً ناقعاّ من خلال كلماته بينهم، وهو ما يُحزن ويثير الخوق والقلق. وهؤلاء المُغرضون، هم أوفر جمعا وأكثر مالاً وأنفذ وسيلة من أهل السنة المنتمين للثابت من المنهج. وتلك هي سيماء هذا العصر وبصمته. ومن هنا تجد أن لهم نفوذاً وصل لحد أن صار لهم صوت يُرفع في الإمارة الإسلامية، حفظها الله من كلّ سوء.

      والنصيحة واجبة علينا، لإخواننا الأفاضل في الإمارة، أن لا تتهاونوا في رعاية هذا الحصن الإسلامي الذي وهبه الله لكم، فإن الخرق يتسع عادة على الخارق، ولا يبقى على ما هو عليه أبداً، وأولئك البشر يضربون بمعاول خفية لا نسمع لها صوتاً ولا ترى لها غباراً حتى يتصدع البنيان، ويخر السقف على رؤوس أصحابه، وقانا الله من شرّ ذاك البلاء.

      د طارق عبد الحليم

      25 جمادى الأولى 1443 – 29 ديسمبر 2021