فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      حين يعيا الجسد !

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه

      على مدار العمر، وتوالى السنين والعقود، تتكشّف للإنسان أمور لم تكن ظاهرة له من قبل، وإن كانت قائمة على امتداد عمره، تعمل في صمت وتصميم. لكن الجامع لتلك الأمور، التي تتعلق بتفاصيل كثيرة في حياة المرء، هو تلك العلاقة العجيبة القائمة بين الجسد والروح.

      الروح، هي تلك القوة السارية بين جنبات المرء، والتي تمثل ذاته المنفردة، وتجعله حيّاً عاملاً ناشطاً، وتحمل في طياتها الخبيئة قيَمَه وفكرَه وعلمَه. أما الجسد فهو الآلة التي تحوي تلك الروح، وتتحرك بفعلها، وحسب ما توجهه إليها. علاقة تلازم وتلاحم بين الجسد والروح، تبدأ منذ لحظة الميلاد، بجسد صغيرٍ هزيلٍ، إلا من أدواته الأساس، وروح فارغة إلا من فطرتها الأصيلة. ثم تمر الشهور والأعوام، وتتقلبُ الأحوال بين صحة وسُقام، وشظف عيش ورَغَد مقام، وينمو الجسد في شباب ورجولة ليصير أقوى وأقدر وأفعل، وتقوى الروح، متلازمة معه، تقوى وتشتد وتزدهر علما وحكمة ودراية وفكراً، حسب ما يهيأ لها صاحبها.

      كلّ ذلك والروح تسري في الجسد، وتجاريه في نضجه وتحصيله، هو من حيث القوة والحيوية والحجم، وهي من حيث الفهم والإدراك والمعرفة، فهما مجتمعان معا، تسايره ويسايرها، لا يشعران بانفصال بينهما البتّة، لا يشعران بغربة بينهما، بل لا يشعران بفرديتهما وجوهرهما المختلف، إلا ما كان من نتائج تحصيلهما. فهما كلٌّ واحد مجتمعٌ هو الفرد القائم بذاته.

      ثم يتقدم العمر، ويبدأ الجسد في النكوص على عقبيه، ويناوشه الضعف من كلّ منفذ، ويتبادره الهِرَم في كل مأخذ، فيَكلَّ ويَهِن، ويعجز عن أن تقوم آلاته بما كانت تقوم به من قبل، حتى يصل لعقدٍ من العمر، تخرب فيه تلك الأدوات، وتتصدع الجنبات وتبطئ الحركات. لكن الروح تبقى في قوتها، حاملة ما يتعلق بها من حياة ومعانٍ وقيم وأفكار وعلم، لا تنقص، في غالب الأمر، إلا بقدر ما تختل به آله الحفظ الجسدي المعروفة بالذاكرة.

      هنالك يبدأ الانفصام بين الجسد والروح، رويدا رويدا. وتبدأ الروح في الشعور بتفردها وتجردها عن الجسد، فتراها تضيق به ذرعا وتود لو تطير من بين جنباته، إذ هو ليس إلا سجنا محكما حولها، قد صار إلى حالة من الضعف لا يساير فيها روحه الطلوقة الغنية الحية بقوتها، وكأنها ذاتُ بطارية متى ما شُحنت لا تنفذ أبداً.

      ويستمر شعور الانفصال شيئا فشيئا، حتى يكاد الجسد يخبو، والروح على حالها، حتى تنفصل عنه انفصالا نهائيا، فتنتقل بما حوته وما حملته من دنياها، ويثوى الجسد في التراب بعد أن حملها بين جنباته عمراً.

      د طارق عبد الحليم

      16 ربيع أول 1443 - 22 أكتوبر 2021