فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ما بعد دخول كابل! اختبار طالبان في حلقة السياسة العالمية

      الحمد لله والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى ﷺ وعلى آله وصحبه

      لا شك أن الجماعات أو الحركات الانسانية، مثلها مثل الفرد المنفرد، تبدأ قوية فتيّة عنيفة في فهمها وتطبيقاتها، لا تقبل مرونة ولا تيسيرا بحالٍ، من حيث تراه تميعاً وانسياقاً وراء الأهواء. ثم يعمل الزمن والتجربة عملهما في تلكم الحركات، فتصقلها التجارب العنيفة التي تعصف بكل ما هو إنساني على الأرض، وتوجهها المعارف المتراكمة التي يحصّلها أفرادها، وتُختزن في العقل الجمعي للحركات.

      وطالبان ليست بدعا في ذلك.

      فما ليس بخاف على أحد من العارفين بتاريخ الحركات الإسلامية، أن طالبان، التي قادها الملا عمر رحمه الله تعالى، والتي قادت الحرب على السوفييت الحمر مدة عشر سنوات، ووصلت إلى كابل عام 1996، ثم تراجعها عن السلطة عام 2001 بعد الغزو البربري الأمريكي لأفغانستان، تلك الحركة، كانت لا تقبل سياسة ولا تحاوراً ولا تفاوضاً مع عدو كافر. وكانت وقتها في أوج شبابها وعنفوانه. كما إنها التزمت بما وجدته في كتب الفقه، الحنفي منها خاصة، في شأن المرأة وعملها ولباسها وانخراطها في المجتمع العام. مما أدى إلى تصويرها بصورة الإرهابيين المعتمدة لدى الغرب "الإرهابي" المعتدي. كما أدى إلى تحييد، بل عداء سافر، في آراء طبقة كبيرة من الشعوب المسلمة، خاصة التي غرقت في تبعية ثقافية للغرب، مع خضوعها العسكري والاقتصادي.

      لكن التجربة، والزمن، عملا عملهما، وبدأت معالم طالبان الجديدة تظهر على السطح رويداً.

      ولعله من السابق لأوانه أن نقيّم حجم هذا التحور أو التحول، ودرجته ومجالاته، فإن هذا لن يثبت إلا على محك التجربة الواقعة، في الأسابيع والشهور القادمة. لكن تشوف ما قد يحمله المستقبل من تطوراتٍ هو عمل الباحث لا عمل له سواه. فنحن نعمل بما تحت أيدينا، لنرى المسار القادم للأحداث، فلا تباغتنا أولا، كما يمكن أن نقدم النصح لمن أراده ثانياً.

      ما نراه اليوم، كلمات لا واقع لها بعد، يثبتها أو ينفيها، تخص إطلاق حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، والرغبة في علاقات جوار حسن مع جميع دول العالم، ولا أظن هذا يشمل الكيان الصهيوني، وقبول عمل المرأة على العموم، دون تحديد للمجالات المقصودة بعد. وهي كلها كلمات يتداولها المجتمع الدولي، كما يسمونه، يطلقونها ويقصدون بها ما يقصدون، ثم يعملون خلاف ما يقصدون!

      هناك ثوابت سمعنا من متحدث طالبان، بكل وضوح، أنها لا تتبدل وليست محلا للنقاش، وهي أن الدولة الجديدة، تحت حكم طالبان، هي دولة إسلامية، ملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية، وأنها لن تسمح بالتدخل في أمور دينها وتفاصيل تطبيقاته. هذا نصّ صريح واضح ظاهر لا يمكن لباحث منصف أن يغفله. وإنما يُحمل عليه كافة ما قيل من بيانات وتصريحات أخرى، من حيث هو بيان عامٌ كليّ، وغيره بيانات تفصيلية جزئية. فإن احترام "حقوق المرأة" قائم في الإسلام على أتم صورة. لكن يبقى شكل هذا الاحترام والمشاركة النسوية. أعلنت طالبان أن المرأة سيكفل لها حق التعليم، بل والتدريس بشرط منع الاختلاط وارتداء الحجاب. وقد رأينا تغييراً ملحوظا في فقه طالبان، من حيث لم ينبذوا "الحجاب" لصالح "النقاب" كما حدث من قبل، بل جلس متحدثهم الرسمي إلى امرأة صُحُفيّة مرتدية الحجاب، ومكشوفة الوجه، وهو ما يدل على اختيارهم الفقهي الحاليّ. وهو ما لا أرى به، شخصيا بأساً في عالم اليوم، كخيار ثانٍ له أدلته الشرعية، وإن رجّحت شخصيا أدلة النقاب، على سبيل الندب لا الوجوب.

      كذلك فإن التعامل مع الغرب وسياسة حسن الجوار لا تناقض كلية شرعية، ولا جزئية سنية. فإن المعاهدات المرعية مع دول الجوار، حفاظا على الكيان المسلم، بشريطة عدم التدخل في شؤون المسلمين، وعدم محاولة الغزو الفكري، والبعد عن الولاء المكفّر، لا غضاضة فيه، بل كان هذا حال كثير من خلفاء الدولة الإسلامية في عصور ضعفها، بل وقوتها في بعض الأحيان. وإنما ينقض التوحيد، ويُلقي في ظلمات الكفر، ما يفعله أمثال ابن زايد وابن سلمان والسيسي وغيرهم من طواغيت العرب الذين، إلى جانب تنحيتهم للشريعة، تراهم يوالون الكفار ويقتلون المسلمين ويعادون كل ما يمت للإسلام بصلة. كما إن ما تفعله جماعات الخزي الاستسلاميّ من أرباب "سلمية"، من تحريف لكلام الله وتخريب للفقه وأصوله، لتبرير ولاءاتهم الكفرية للغرب، الذي يخشونه أكثر من خشيتهم لله، فترى منهم من يطبّع مع الصهاينة كالسيسي وابن زايد، ومنهم من يدخل تحت عباءة الضامن الهزيل العميل العلماني، كهيئة الجولاني المنسحقة مع الأتراك. فهؤلاء لا يمكن مقارنتهم بما أعلنته طالبان حتى اليوم. وكما ذكرنا فإن الأيام هي المحك الرئيس والكشّاف المنير لما سيأتي من أفعالهم.

      ولا يجب أن يستمع المسلم الواعي لأولئك المتكلمين من المنسحقين، وبرامج صبية اليوتيوب، مثل الشريف وأشرف إبراهيم وغيرهما، فإن كلّ أولئك لا علم لهم بشرع ولا أصل، ومن هنا تأتي تحليلاتهم عارية عن الصواب الشرعي وتخرج عن المنطق السوي في كثير من نتائجهم. كذلك فإن منهم، خاصة من ينتمي إلى "جماعة إسلامية" أو موالٍ "لفصيل إسلامي"، يخلط السمّ بالدسم، ويغمز ويلمز في ثوب المهنئ الفرِح الناصح! لكنه النفاق الصراح.

      ثم إن نظرنا إلى التعاون الاقتصادي المزمع مع دول العالم، فإن التجارة مع الكفار، مع الحفاظ على الشروط الإسلامية المرعية، لا غضاضة فيها، بل كانت تقع على عهد رسول الله ﷺ والصحابة والتابعين وكافة أطوار الخلافة الإسلامية. والمحك هنا، وهو ما لا أعرف إجابته إلى اليوم، وإن توقعت تصرف طالبان فيه، هو الوقوف في وجه المقاطعات الاقتصادية، ومنع التعامل مع البنك الدولي، وهو، على أية حالٍ، أمر مرفوض أساسا في النظر الفقهي، لربويته، ثم مرفوض في النظر المصلحي لأنه سبب في التبعية والدَيْن وكسر الأعناق. فلذلك لا أحسبه، والله أعلم، يمثل مشكلة لطالبان، من حيث إن لدى أفغانستان مصادر لا تُحصى للمال السائل، يدا بيد، أو معاوضات وعقود استصلاح وغيرها من الأشكال الشرعية لتأمين النقد.

      ثم نقطة في غاية الأهمية، وهي إعلان طالبان الواضح الصريح المتكرر، أنها لن تسمح بأن تكون أرضها محلاً للهجوم على أية دولة غربية أو شرقية. ومعروف من المقصود بمثل هذا المنع، ألا وهو تنظيم القاعدة بشكل أساس. وداعش هي أصلا عدوة لأهل السنة ولطالبان، ومدعومة بقوى الغرب، فلا محل لتأكيد منع طالبان لها من العمل من على أراضيها. لكن لنا على ذلك ملاحظات:

      1. أن طالبان لم تصرّح بتسليم أي من قادة أو أفراد القاعدة، سواء كانوا موجودين بالفعل على أرض أفغانستان، أو سيفدون إليها بعد.
      2. أن منع اتخاذ أفغانستان منطلقا وقاعدة لهجمات على الغرب لا يعني منع من يعيش عليها من تخطيطٍ قد يُحمل عملياً بواسطة مراكز خارج أفغانستان، مثل قاعدة الجهاد في الجزيرة أو في المغرب الغربي مثلا، وإن كان ذلك مرتبطا بمدى التنسيق من أراضيها. ولا أظن طالبان من التغفيل بحيث تسمح بتنسيق عالٍ المستوى أو مباشرٍ بشكل صريحٍ، من أراضيها لمثل تلك الهجمات مرة أخرى.
      3. أنه ليس من قواعد الولاء والبراء أن يُسمح لهجمات، قد تكون، في بعض الأحيان، غير محسوبة العواقب أو غير مكتملة الشرعية الفقهية والمصلحية، أن تنفذ من أرضها، فتعرّض كيانها الوليد كله للخطر.
      4. أن ذلك الفهم لا علاقة له بما يحدث في الشام، وعلى وجه الخصوص في إدلب، من عمالة هيئة الجولاني لحكومة علمانية صريحة، وتبعيتها لأوامر جيش علماني، واعتقال من هم من أهل السنة، ممن يريد قتال النصيرية والروس، لا الأتراك. ذلك أن:
        • الشام لا زالت محتلة من الروس والنصيرية، لم ينته القتال فيها، ولا حتى على أضيق نطاق.
        • التفاهمات الدولية في الشام واضحة صريحة، تسمح للروس والنصيرية بضرب المسلمين، فتقيدهم الهيئة وتمنعهم من الردّ! وهذا خلاف لما عليه طالبان تماماً.
        • التحالف مع الأتراك تم بخلفية أنهم مسلمون من إخواننا! لا على أنهم دولة علمانية، مسموحٌ بالتجارة والتبادل المنفعي معها، كما تقترح طالبان في التعامل مع دول الغرب، والفارق بينهما شاسع.
        • التكافؤ بين القوى في الحالين يمثل فرقا شاسعا. فحين لم تكن لطالبان السيطرة الكاملة والكلمة العليا، لم تقبل تعاوناً مع دول الغرب أبداً، إلا التفاوض على آليات الانسحاب كما بينت في مقال سابق، بينما فصيل العمالة الجولانية هو صاحب اليد السفلى والطرف الأضعف في المعادلة الحالية، فتفاهماته وولاءاته كلها نابعة من ضعف واستسلام وإلقاء للسلاح ومنع للجها.د.
      5. أن التركيبة الحكومية، في شكلها الشرعي، أبسط إجرائيا وأكثر فاعلية في تحقيق أهدافها. زمثال ذلك ما عرضته أجهزة الدعاية العلمانية، على رأسها ما جاء من تركيا، عن محاكمة سريعة لسارق شاة اعترف بجرمه بالفعل، وقامت محاكمة بسيطة للغاية، بإثبات وقائع الجريمة، وتسجيلها. ثم تركت الحكم لقاض فقيه متخصص، يأخذ بعين الاعتبار كافة جوانب المسألة. لكن الدعاية الخبيثة صورتها على هيئة همجية لا تمثيل للدفاع فيها! ولا يدرك هؤلاء أن نظرية الدفاع لا أساس لها في الفقه الإسلامي، ولا عمل لما تعرفه العلمانية من وظيفة "المحامي" في الشرع. والغرب قد استحدث نظاما معقدا بطيئا يسهل فيه التلاعب بالثغرات القانونية، فيفلت الجاني من العقاب، وتنفق الأموال على ذاك الجهاز الهائل لذاك النظام دون داع.

        هذا ولا شك أن المستقبل القريب سيظهر الكثير مما لا نزال لا نعرف عن توجّه طالبان، وكيفية تطبيقهم للشرع في مسائل معينة، وإن كنا نُحسن الظن بهم من حيث إنهم أثبتوا صلابة لا مثيل لها إلا في عصور الإسلام الأولى، وصرّحوا بكليات واضحة، سنشهد إن شاء الله تحقيق مناطاتها.

      د طارق عبد الحليم

      12 محرم 1443 – 20 أغسطس 2021