فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      بيانٌ جليّ على تعقيب الشيخ المهدي

      بشأن أحكام الدور والمنظرين الجدد – حفظهم الله وزاد من أمثالهم

      د طارق عبد الحليم

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد

      لن أتخذ في هذا التعقيب مساري الذي عرفه عني القاصي والداني، من لذع الكرابيج لمن خرج بأقوال ما أنزل الله بها من سلطان، وأصرّ عليها، فالدفاع عن الشريعة في عصرنا لا يحتمل نقد "الطبطبة" على الكتف، إذ الخراب أعم وأعمق، ولكل مقام مقال. قلت لن اتخذ هذا الأسلوب هنا، لمعزة خاصة في نفسي للشيخ عبد الرزاق المهدي، لا أدري لها سبباً!

      لكن حقيق عليّ أن أقول الحق وأبين الخطأ والخطل، وأوجه الشيخ، فهو لي بمثابة أخ أصغر، يحتملني ولو شددت عليه، لما فيه مصلحته أولا قبل كلّ شيء. ولا أدرى أين صنفني الشيخ في الأقسام الثلاثة التي وضعها: الشباب الراضي، أو من اعترض بشدة، أو الشرذمة! ويعلم الله أن ليس في العالم كله من تعرض لهذا الأمر، إلا العبد الفقير في تويتر، بشكل مختصر (https://twitter.com/DMTAH/status/1398775523019563019)،  والشيخ د هاني السباعي حفظه الله في حديثه الطويل المفصّل. وليس ذلك لعجز بعض "المنظرين الجدد، حفظهم الله، لكن إما لانشغالهم بأمور أهم من هذا الأمر التافه الصغير الغريب، أو لخوفٍ من السلطات أن تستدعيه وتؤذيه. فإن كنتُ مع الرافضين بشدة، أصبح الشيخ السباعي شرذمة فريدة!! من فرد واحد لا غير. ولا يخفى أن رضى الكثير من الشباب ليس له وزن بعوضة في تقييم الأعمال العلمية، ولا يشهد لصاحبها بشيء، فشهادة عالم بآلاف من قبول كافة الشباب المستمع في مسجد ما في منطقة ما في بقعة بإدلب، هو متعاطف أصلا مع الاتجاه التمييعي التفاوضي الاستسلامي التصالحي الإخواني. ويكفي أن أنقض رأي الشيخ المهدي في "المنظرين الجدد" حفظهم الله بما جاء في كلام أحدهم، وهو الشيخ المقدسي في الثلاثينية، يدرأ شبهة التكفير بقوله "ومن الأخطاء الشنيعة في التكفير؛ التكفير بناء على قاعدة (الأصل في الناس الكفر) لان الدار دار كفر ومعاملتهم واستحلال دماءهم وأموالهم وأعراضهم بناء على هذه القاعدة ، التي أصلوها تفريعاً على أن الدار دار كفر ، وهذا أمر منتشر بين كثير من الغلاة ، وقد تحمله بعض الجهال عنهم دون أن يعرفوا أصله وتبعاته ، ونحن ولله الحمد والمنة لم نقل بهذا التأصيل ولا تبنيناه في يوم من الأيام ، بل كنا –ولازلنا- من أشد المنكرين له ، حتى كفرني بعض غلاة المكفرة ، لما خالفتهم فيه ، وناظرتهم في إبطاله" اهـ http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_14599.html . هذا عدا ما تحدث به الشيخ د السباعي عشرات المرات وما دونه أمثالي ومثل الشيخ أبو يحي الليبي وغيرنا كثير في بيان هذا الأمر. فالبهتان أمر كبير عظيم يا شيخ مهدي!

      والحق أنني لا أعرف سبب إثارة الشيخ لهذا الموضوع الفقهي، في هذا التوقيت بالذات، فالدافع النفسي لا ينفصل عن القول المترتب عليه. الشيخ يتحدث كمدرس حديث لسنين عدة في معهد أو مدرسة قبل الثورة، ثم جاءت الثورة فبرز اسمه في مجال التعليم الحديثي، لنقص الخبرات في أرض الحرب (ولا إخاله لا يسمي سوريا وقت الحرب مع بشار إلا دار حرب! وإلا فقد الواقع معناه، وسُمّيت الأشياء بغير أسمائها، واختلطت المعاني، كما حدث في مقال الشيخ.

      لا أدري دافع الشيخ في الزج بمثل هذا الموضوع الخارج عن دائرة تخصصه! لكن أخشى أن يكون محصوراً في أهداف محددة. منها زرع فكرة أن تركيا دولة إسلامية، رغم إعلان رئيسها عشرات المرات أنه علماني، يحكم دولة علمانية. لكن الهوى دفع بكثير من "الإسلاميين" أن يضعوا في فمه ما لم يدعه هو نفسه. ومنها تقديم أوراق اعتماد لتركيا، استعدادا للمرحلة القادمة، كمن يقول "انتبهوا: أنا لست ممن يقول هذا أو ذاك، إنما أنا "وسطي معتدل"، لا أنتمي للشرذمة من المتطرفين "الجدد" الذين يرون كفر الناس والمجتمعات!" وهذا خطأ في فهم الشريعة والعلمانية كليهما!

      وسأقسم تعقيبي إلى قسمين، الأول يقوم على اعتبار الواقع والمنطق وقواعد الفهم المستقيم. وهو أحد أهم أدوات الفقيه، المدرّب على صحة النظر واستقراء المعاني.

      والثاني، يقوم على تعضيد ما نراه ببعض مواضع الإجماع أو الرأي الظاهر المتفق عليه بين الغالبية الساحقة من الفقهاء القدامى، لا المنظرين الجدد، حفظهم الله، وقواعد التعارض والترجيح، ولن أعطي الشيخ فيها محاضرة، فلعله يجد ما يوضح أمرها في كتب السلف الأول، مثل الجزء الرابع من الموافقات، كتاب الاجتهاد والتقليد، أو المستصفى للغزالي ج2 ص342 وبعدها. ولي شرح صوتي لكتاب الموافقات كاملا بحمد الله تعالى.

      أولاً: شواهد الواقع والمنطق وقواعد الفهم المستقيم:

      1. الحق أن المقال ذاك مضطرب اضطرابا يستعصي على الإصلاح. فهو مكتوب بطريق غير علمي كما نعهد في الأبحاث العلمية، إذ هو فاقد للوحدة الفكرية، ومضطرب في الغاية. وأبسط دليل على ذلك هو أن الشيخ بدأ سرد الآراء الخمسة التي ذكر أنها تعتني بالإجابة على موضوع حكم الدار وتحولها، بأضعف الآراء وأقلها رجحانا وأبعدها عن الصواب، وأضيعها لقواعد العقل والمنطق، وهو ما جاء به الإمام الهيتمي في تحفة المحتاج، ومفاده أن دار الإسلام لا تتحول لدار كفر أو حرب طالما ساد فيها الإسلام يوما! وهو قول من أعجب الأقوال وأكثرها شذوذا، ولكل جواد كبوة، وحسبك صاحب المستصفى في الأصول يدوّنُ الإحياء! والاتيان به في رأس الأقوال؛ تدليس وتمويه يعرفه الشيخ معرفة يقينية.
      2. ومفاد ذلك أن اسبانيا اليوم دار إسلام، يجب على المسلم أن يهب للدفاع عنها إن غزاها غازٍ! بل الأدهى من ذلك، وهو لازم للشيخ، أن الهند اليوم دار إسلام، على ما فيها من عبادة البقر وغرائب الأديان وقتل المسلمين في كشمير وغيرها! ولا ننسى بلغاريا مثلاً! أيقول بهذا بشر، بلغ من العمر أربعة سنوات لا أكثر!؟ ولا مفر من هذا اللازم، فهو جزء من استدلاله العجيب.
      3. والرجل قد نقل كلام الهيتمي وما علق به الرملي دون أن يأتي بمرجعه، لا مجلدا ولا صفحة، وهذا عيب شديد في النقل، إذ واضح أنه كله مقصوص من مقالات بالنت، تختص بذاك الشأن ولم تأت بالمرجع. وهو عيب على من يدعى العلم، لعدم الأمانة اولاً، ولإمكانية اجتزاء المعنى وتحريفه ثانيا، وهو ما حدث مع الشيخ هنا كما سنبين.
      4. ثم التضارب بين بداية الكلام ونهايته. فقد قام دليل الشيخ حصراً على ذاك القول الواهي من حيث أن دار الإسلام لا تتحول مطلقا لدار كفر (أو دار حرب، إذ دار الحرب هي شكل من أشكال دار الكفر، لكنها تختص بأن أهلها لم يعاهدوا ولم يعطوا جزية). فالدار في الإسلام داران، لا ثالث لهما كما أنه ليس هناك إلا إسلام وكفر لا ثالث لهما. وتتشكل أنوع دار الكفر كما يتغير شكل الكفر.

      ثم أتى الشيخ في نهاية حديثه فقال: "فليس كلامنا على الحكام، بل الكلام على بلاد فتحها المسلمون ودخل الناس في دين الله أفواجا واستمر الحكم فيها بشرع الله أكثر من ١٣٤٠ سنة حتى كانت الحرب العالمية الأولى وتغلب الحلفاء واحتلوا البلاد ثم اختاروا عملاء يأتمرون بأوامرهم.". يعنى ليس حال اسبانيا ولا الهند! رغم أن ذلك هو محور استدلال الهيتمي، حتى أنه ذكر قرطبة. وهذا أوقعنا في حيرة، هل يأخذ بقول الهيتمي أم لا!؟ وهذا مناطٌ يختلف تماما عن المناط الذي يتحدث عنه الهيتمى وشرحه الرملي، والذي هو مناط دولة حُكمت بشرع الله زمنا ثم غلب على أهلها الكفار وأجروا شرائعهم وسيطروا سيطرة تامة على مقاليد الأمور، فتظل كونها دار اسلام رغم ذلك، لسابق عهد الإسلام فيها. فإن تَغيّر مناط الواقعة، لم تصح الفتوى، وسقط الاستدلال بالدليل، وانهدم عامود استدلال الشيخ وقاعدته الراسخة، ولم يبق له متمسك بالمرة!

      1. ثم إن الشيخ المهدي، هداه الله، قد اختلط عليه أمر التوحيد اختلاطا شديدا! فقد قرر في عدة مواضع أن الأحكام الجارية في تلك البلاد التي حكمها الإسلام 1340 سنة، ثم تحكّم فيها أئمة الكفر وقلبوا أحكامها، هي لا تزال أحكام شرعية "في كثير منها"، وإنما حسب قوله " والحاصلُ: أنّ عمومَ بلادِ المسلمين اليوم لم يتحوّلْ إلى دار كفرٍ، مع التّسليم بوقوعِ تغيّرٍ كثيرٍ في أحوالها، واختلاطِ حُكْمِ كثيرٍ منها بالقوانين الوضعية." كما قال "الحدود والقوانين هي جزءٌ مِن أحكام الإسلام، وليست كلَّه"!!

      تاه عن الرجل معنى التوحيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

      يا شيخ مهدي، أقول لك ما ظللت أكرر لطلبتي في التوحيد منذ أكثر من خمسين عاما، أن التوحيد مداره على الالتزام المطلق، لا مطلق الالتزام. فالالتزام شقان: شقٌ هو القبول والطاعة المطلقة، في كل أمر ونهي، صغيرا وكبيراً، وهو التزام القبول، والثاني هو تطبيق تلك الأحكام في الحياة. وهو التزام التنفيذ. ومن جمع بينهما لحصول التوحيد فهو من الخوارج، ومن فرق بينهما فنحى التزام القبول فهو من المرجئة أو الكفار حسب درجة تفرقته.

      التوحيد يا شيخ مهدي، هو أن يكون الحكم لله وحده، لا شريك له. أي تكون الكلمة العليا للشرع عند الخلاف. لا أن تكون الكلمة للجنة تشريعية برلمانية، تحكم فيه ما ترى.، حسب الأغلبية البرلمانية! أي توحيد هذا يا شيخ مهدى؟ هذا كلام سائقي "تكاتك"!!، وعلى أحسن تقدير كنت أحسب أن ذلك التصور متروك لعلي جمعة ومحمد حسون والبوطي، يروجون به الكفر القائم للناس، فإذا بمدرس حديث يتحدث بقال الله وقال الرسول، والسند والمتن والعلل، يكرر مثل هذا الهراء والتبديل للشرع وتغيير معالم الدين؟!

      ويقول الشيخ بكل أريحية (ولا أريد استعمال الكلمة المناسبة هنا!): " الحدود والقوانين هي جزءٌ مِن أحكام الإسلام، وليست كلَّه". ثم يستدل على ظهور شعائر الدين العيد والجمعة!!! والله عجباً. إن استشهاد بعض الفقهاء بأن الدار دار اسلام لإقامة العيد والجمعة لا يقصد أن تقنين الخمر والزنا والمحرمات، ليس من الدين، بل هو من الشرائع، وإنما افترض الوصف على الشعائر "الظاهرة"، مع استصحاب أن الشرائع قائمة من حيث هي ليست علامات ظاهرة كالآذان والعيدين، لا أن الآذان والعيدين هما الدلالة الوحيدة أو الحاسمة في تحديد نوع الدار! هذا فهم عجيب لا أعرف لعقل صاحبه وصفا لائقاً. وهل يقول عاقل أن إقامة صلاة العيد أهم وأدل على الإسلام من إقامة قوانين الربا ومنع الدعارة ومثل تلك الأمور؟

      الأمر، إن لم يكن واضحا لك يا شيخ مهدي، هو أمر الكلمة العليا، لمن؟ لا كم من الأحكام طُبق، وكم لم يطبق! وعليك بقراءة كتابي "حقيقة الإيمان"، 1979، فقد أوردت فيه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء على صحة هذا المعنى، الذي لا أظن أن موحّداً ينكره، او يمارِ فيه.

      1. ثم طامة أخرى، وهو الحديث عن "المنظرون الجدد" حفظهم الله، وهم من تعلم وأعلم، ويعلم غالب قرائنا. فأولا، من قال إن التنظير الجديد عيب يوصف به عالم، إلا إن كان من قبيل تنظير "المجددون" كالغنوشي والترابي وأمثالهما؟

      ثم كونهم "جددا" في الزمان، فلا مشاحة، أما الآراء التي ينقلونها فهي والله آراء السلف وأصح وأرجح أقوالهم دون سياسة أو دوافع خاصة.

      يتبنى هؤلاء أقوال كبار علماء المذاهب دون مذهبية بغيضة، فيأخذون عن السرخسي والكشميري وابن قدامة والنووي والبلقيني وابن دقيق العيد، بله الأربعة الأكابر بلا شك.

      وهؤلاء المنظرون الجدد، لم يقل واحد منهم بكفر المجتمعات أو الناس في ديار الكفر الحديثة، وأتحدى الشيخ تحدياً مفتوحا أن يأتي بقول لأحدهم بكفر الخلق أو التوقف فيمن بدا عليه دليل إسلام، أيا كان، حتى يثبت عكسه، إذ الأصل عندنا الإسلام بيقين، فهو ثابت حتى يزول بيقين، كما زال عن السيسي وابن سلمان وابن زايد وبقية العصابة التي تخشى أن تكفّر واحدا منها، في قولة حق تقف بها بين يدي الله!

      إنما الحديث عن وصف الدار. وقد استهلك هذا الموضوع وقُتل بحثا، من المنظرين الجدد حفظهم الله ورحم من استشهد منهم، ومن الأكاديميين العاديين، الذين أخرجوا مئات الرسائل من الماجستير والدكتوراة في أحكام الديار. فلا أدرى ما الجديد الذي أتيت به إلا قولا شاذا مرجوحا، في بحث مضطرب ليست عليه صبغة العلم الأكاديميّ؟ هداك الله يا شيخ عبد الرزاق.

      ووصف الدار هنا أسبق في الحديث عن تحول الدار. فتحول الدار مناطٌ من المناطات، إنما وصف الدار هو الحكم الشرعي المعين في هذا الأمر. لذا وجب الاتفاق عليه، كمدخل لأي بحث أو مناظرة في هذا الأمر. لذلك، كذلك، قلت إن ذاك البحث لم يتخذ الصبغة الأكاديمية العلمية، بل كان موجها لغرض معين كما بيّنا.

      وسنتحدث عن وصف الدار في القسم الثاني إن شاء الله تعالى.

      ثانيا: الاستشهادات والأدلة الشرعية

      أما عن هذا القسم، فقد اتسع الخرق على الراقع، فأولا الاستشهادات التدليلية لا تنطبق على الحالة المقررة، بل غالبا ما لا يكون لها بها صلة، إلا في مخيلة الشيخ!

      مثلا: قول النووي: " دَارٌ يسكنها المسلمون... ، ودارٌ فتحها المسلمون وأقَرُّوها في يد الكفّار ِبِجزيةٍ... ، ودَارٌ كان المسلمون يسكنونها ثم جَلَوْا عنها، وغَلَبَ عليها الكفاّر".(لم يذكر له مرجعا، وهو دليل على أنه خراج بحث جوجليّ أتى بالنصّ دون موضعه، وهو عيب على رجلٍ يدعي العلم الشرعي. والنص موجود في روضة الطالبين طبعة المكتب الإسلامي ج5ص433. وقد أورده النووي في معرض حديثه عن حكم اللقيط.

      فأولا: لم يتعرض النووي في هذا النص لتعريف الدار حكماً، وإنما لسكانها من حيث موضوع بحثه في اللقيط. فحين يقول "يسكنها المسلمون" فهذا ليس علة كونها دار إسلام إلا عند جاهل بالأصول. فكون أحكام الإسلام تسودها يستلزم بشكل ما أن سكانها مسلمون، لا أكثر. وحين تعرض لدار اغتصبها الكفار، واستولوا عليها ونشروا أحكام الكفر، فقد ذكر رأيا مما قاله بعض أصحاب الشافعي "وأما عد الاصحاب الضرب الثالث دار اسلام فقد يوجد في كلامهم ما يقتضي أن الاستيلاء القديم يكفي لاستمرار الحكم! ورأيت لبعض المتأخرين تنزيل ما ذكروه على إذا كانوا لا يمنعون المسلمين منها، فإن منعوهم فهر دار كفر" اهـ السابق

      ولا ننسى أمرين، أولهما أنه يتحدث عن حكم اللقيط، والثاني، هو ما يعنيه "لا يمنعون المسلمين منها". فإن مشكلة الشيخ أنه يعتبر السماح بالجمعة والعيدين هو إقامة الشريعة، فوجهة نظر هؤلاء، التي لم يعلن النووي تبنيها، أنه لوجود الإسلام فيها من قبل واستمرار وجود مسلمين فيها يقيمون "دينهم وشعائرهم وشرائعهم، فالاحتفاظ باسم دار الإسلام لا مانع منه، وقد علله بعض الباحثين بأن فيه حثّ على العمل لاستردادها من أيديهم. وقد كانوا في عصر فيه الكر والفر قائمٌ على الدوام.

      ثم أين هو تقرير النووي ان على كونها دار اسلام هو أن المسلمين فيها غالبية سكانية!؟ سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.

      فالقراءة المتعجلة غير المتأنية المبتورة عن موضعها، تمنع من رؤية القصد والصورة بجمع أطراف الفهم، وثم ننتقل لنقله عن الرملي، لنرى التدليس والبتر والتعجل في النظر، وعدم الرجوع لأصل الكتاب والاكتفاء بالنت!

      نقل عن الرملي " أي: مِن دار الإسلام- ما عُلم كونُه مسكنًا للمسلمين، ولو في زمنٍ قديمٍ، فغلب عليه الكفّارُ كقرطبةَ؛ نظرًا لاستيلائنا القديم"." وهذا النص موجود في نهاية المحتاج ج5 ص154، باب اللقيط، طبعة دار الكتب العلمية.

      مرة أخرى، الحديث هنا ليس في توصيف الديار، لكن في التفرقة التي يمكن بها تعيين حكم اللقيط بأرض كانت دار اسلام يوما. والنصّ الأصلي هو: "اذَا وُجِدَ لَقِيطٌ بِدَارِ الْإِسْلَامِوَمِنْهَا مَا عُلِمَ كَوْنُهُ مَسْكَنًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ فِي زَمَنٍ قَدِيمٍ فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ كَقُرْطُبَةَ نَظَرًا لِاسْتِيلَائِنَا الْقَدِيمِ، لَكِنْ نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مَحِلَّهُ إنْ لَمْ يَمْنَعُونَا مِنْهَا وَإِلَّا فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ" فغاية قول الرمليّ هنا هو أن اللقيط قد يغلب الظن أنه من بقايا المسلمين في البلاد، فتقوم بالنسبة لأحكامه مقام دار الإسلام في إجراء أحكامها عليه. هذا قصارى ما يؤخذ من هذا الموضوع الذي بتره الشيخ المهدي، وأخرجه عن سياقه!

      ولا أدري لمَ يبحث الشيخ في نصوص تتعلق باللقيط في كتب الشافعية ليستدل بها على أوصاف الدار، رغم أنه باب قائم بذاته في كتب الفقه على جميع المذاهب!؟ سؤال لا جواب له إلا ضعف القدرة على البحث، واصطياد نقولات تناسب الغرض.

      جاء في السرخسي الحنفي "عند أبي حنیفة رحمه الله إنما تصیر دارھم دار الحرب بثلاث شرائط:أحدھا: أن تكون متاخمة أرض الترك لیس بینھا وبین أرض الحرب دار للمسلمین، والثاني: أن لایبقى فیھا مسلم آمن بإیمانه ولا ذمي آمن بأمانه، والثالث: أن یُظھروا أحكام الشرك فیھاوعن أبي یوسف ومحمد رحمھما لله تعالى إذا أظھروا أحكام الشرك فیھا فقد صارت دارھم دار حرب، لأن البقعة إنما تنسب إلینا أو إلیھم باعتبار القوة والغلبة، فكل موضع ظھر فیه حكم الشرك فالقوة في ذلك الموضع للمشركین فكانت دار حرب، وكل موضع كان الظاھر فیه حكم الإسلام فالقوة فیه للمسلمین السرخسي، ج ١٠ ص ١١٤، طبعة دار المعرفة. ونقل ابن القيم أن هذا هو قول الجمهور "قال الجمھور: دار الإسلام ھى التي نزلھا المسلمون وجرت علیھا أحكام الإسلام، ومالم تجر علیه أحكام الإسلام لم یكن دار إسلام وإن لاصقھا، فھذه الطائف قریبة إلى مكة جدا ولم تصر دار اسلام بفتح مكة. أحكام اهل الذمة ج1 ص 366.

      قال الشوكاني "ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ ﺑﻈﻬﻮﺭ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ، ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻷﻭﺍﻣﺮ ﻭﺍﻟﻨﻮﺍﻫﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﺍﺭ ﻷﻫﻞ ﺍﻹﺳﻼﻡ، ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻣﻦ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ ﺃﻥ ﻳﺘﻈﺎﻫﺮ ﺑﻜﻔﺮﻩ، ﺇﻻ ﻟﻜﻮﻧﻪ ﻣﺄﺫﻭﻧﺎ ﻟﻪ ﺑﺬﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻻﺳﻼﻡ، ﻓﻬﺬﻩ ﺩﺍﺭ ﺍﻹﺳﻼﻡ، ﻭﻻ ﻳﻀﺮ ﻇﻬﻮﺭ ﺍﻟﺨﺼﺎﻝ ﺍﻟﻜﻔﺮﻳﺔ ﻓﻴﻬﺎ، ﻷﻧّﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻈﻬﺮ ﺑﻘﻮﺓ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ ﻭﻻ ﺑﺼﻮﻟﺘﻬﻢ، ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺸﺎﻫﺪ ﻓﻲ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺬﻣﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻴﻬﻮﺩ ﻭ ﺍﻟﻨﺼﺎﺭﻯ، ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﻫﺪﻳﻦ ﺍﻟﺴﺎﻛﻨﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﺍﺋﻦ ﺍﻷﺳﻼﻣﻴﺔ، ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﻌﻜﺲ ﻓﺎﻟﺪﺍﺭ ﺑﺎﻟﻌﻜﺲ ”.السيل الجرار ج4 ص 575.

      ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ ﺃﺑﻮ ﻳﻌﻠﻰ ﺍﻟﺤﻨﺒﻠﻲ في نصٍّ حاسم "ﻛﻞ ﺩﺍﺭ ﻛﺎﻧـﺖ ﺍﻟﻐﻠﺒﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻷﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﻜﻔﺮ ﺩﻭﻥ ﺃﺣﻜﺎﻡ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻓﻬﻰ ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻜﻔﺮ" المعتمد في أصول الدين ص276 طبعة دار المشرق

      فإجماع فقهاء الجمهور أن علة حكم الدار هي "ظهور الكلمة" بتعبير الشوكاني، أو علو أحكام الإسلام أو الكفر، ولا دخل لها بكتلة سكانية، ولا استيلاء سابق قد يُستدل به على حكم لقيط أو إجراء حكم جزية كما ذكر الرملي في تحفة المحتاج ج8، عن حكم الدار في معرض الحديث عن حكم الجزية والسلب والغنيمة. ولا مثل هذا الهراء المخالف لجمهور العلماء السنة.

      الفتاوى والأحكام تؤخذ من مظانها يا شيخ مهدي، ولا تُقتطع أو تُبتر، ولا تُخرج عن سياقها. والأسلوب العلمي يحتاج العزو للمراجع للأمانة العلمية، وضبط عدالة الكاتب.

      ثم لعلك لا تقرأ ما تنقل يا شيخ مهدي!، فقد نقلت قول العلامة الرومي (طبعا دون عزو لمصدر) "وأمّا البلاد التي عليها ولاة كفارٌ -يعني مِن جهة التتار-: فيجوز فيها أيضًا إقامةُ الجمعة والعيدين، والقاضي قاضٍ بتراضي المسلمين؛ إذ قد تقرر أنّ بقاءَ شيءٍ مِن العلة يُبقي الحكمَ، وقد حكمنا بلا خلافٍ بأنّ هذه الدّيارَ قبل استيلاء التتار مِن ديار الإسلام، وبعد استيلائهم: إعلانُ الأذان، والجمع والجماعات، والحكمُ بمقتضى الشّرع والفتوى ذائعٌ، بلا نكيرٍ مِن ملوكهم، فالحكمُ بأنها مِن بلاد الحرب لا جهةَ له". وهذا ضد ما تقول! فقد اشترط "والحكمُ بمقتضى الشّرع والفتوى ذائعٌ" وهو بيت القصيد، لا الجمعة والعيدين!!! عجيب والله ...

      ثم بنيت على هذا أسلمة الأنظمة الكافرة التي تحكم بغير ما أنزل الله، لا تطبيقاً بل التزاما، والكلمة فيها لقوانين الكفر والبرلمان. ولعلك لم تخرج من قريتك في سوريا لترى أحوال القضاء والقضاة، كيف يحكمون بما في القوانين الوضعية، إن تعارضت مع شرع فالعلو للقانون الوضعي بلا خلاف!

      أتعتبر هذه أنظمة مسلمة؟ وهذه الديار ديار إسلام، بغض النظر عن دين غالب أهلها؟ أهذا إجراء العلة أو الوصف الظاهر المنضبط في تعيين حكم الدار؟

      نعم، صدقت يا شيخ أنك لم تأت بجديد لم يقله أحدا قبلك، فقد تبنّى هذا القول كافة علماء السلاطين، والمداخلة، ومتميعة الإخوان المرجئة، وكثير من "المعاصرين" العلمانيين، وكافة رجال الإعلام، وكل تلك الطوائف. فأنت لست نادراً في هذا الاتجاه، مع أسفي وحزني، أن تنضم لقافلة الطيب وعلى جمعة وبرهامي وحسون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

      أدعو الله سبحانه أن يردّك للصواب، وألا يغرُّك جمع من الشباب في مسجد، يطوفون حولك، لانعدام البدائل من أهل العلم، ممن سُجنوا أو قتلوا أو هربوا واختفوا، أو صمتوا خوفا واكراها ملجئا، فإن هذه ظواهر وقتية، لا بقاء لها، ودونك الهالك البوطي الذي سقط من علٍ حين فقد البوصلة.

      د طارق عبد الحليم

      27 شوال 1442 – 7 يونيو 2021