فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      بين الكتابة الشرعية والسياسة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أله وصحبه ومن والاه

      كنت أراجع مقالات المجلد الثامن من مجموعة الأعمال الكاملة، جعلها الله خالصة مقبولة لوجهه الأكرم، شدّ انتباهي إلى الكم الكبير من الكتابات "السياسية" التي تُعنى بالأوضاع القائمة وتحليلها، والنظر في أسبابها ومآلاتها.

      وعاد بي الفكر إلى ما دوّنت، خاصة في السنوات العشر الماضية، منذ عام 2010، اندلاع حركة 25 يناير في مصر، فوجدت أن ذلك اللون من الكتابة شغل ما يقرب من سبعين بالمائة من كتاباتي، وبقيتها في الأبحاث الشرعية أو الكتب العلمية الإسلامية، مثل "السياسة الشرعية" أو أبحاث الولاء والبراء.

      أزعجتني هذه الفكرة فترة، وشغلت بالي وخاطري، وأثارت مخاوفي. ساءلت نفسي، أو ساءلتني نفسي، هل هذا تقصير مني أو كسلٌ تجاه البحث العلميّ الذي نحن في أشد الحاجة إليه، خاصة ممن التزم بمنهج أهل السنة والجماعة؟ أم هو أثر الواقع وضغطه؟ أم هو فعل الزمن والعمر، الذي يجعل المرء، حين يكون في عقده الثامن من العمر، أحرص على تقديم العمليات من النظريات، من حيث تجمع الخبرة وتراكمها عبر السنين؟

      أمّا عن التقصير والكسل، فهما سمة من سمات بني آدم، فلا شك في تقصيري في أداء ما عليّ مما هو ممكن مُستطاع، لا يمكنني التفلّت من ذلك بقول أو تبرير، والله المستعان.

      لكن ما هدّأ من روعي، هو أنّ الحدّ بين ما هو شرعيّ محض وما هو سياسي أو اقتصاديّ أو اجتماعي، خاصة في صورته العامة لا التخصصية، فرق لا يكاد يتميّز. فالإسلام سياسة، والإسلام اقتصاد والإسلام اجتماع وعمران. وتلك النظم كلها هي جزء لا يتجزأ من توحيد مصدر التلقي، وهو الوحي الإلهي، متاباً وسنة. فالأبحاث الشرعية، مهما كان تخصصها، يجب، أولاً وأخيراً أن تؤدي إلى "عمل" أو تطبيقٍ، يظهر أثره في حياة الناس، وإلا فهي عبثٌ من العبث. وإلى هذا أشار إمامنا مالك رحمه الله من أنه "لا يحب الكلام فيما ليس تحته عمل" ... هذا الإمام مالك يتحدث!

      والأبحاث العلمية، سواء كانت تدويناً أو إلقاءً، يجب أن تخدم وجها من أوجه الحياة، حتى أبحاث اللغة، التي قد يراها البعض بعيدة عن مجالات التطبيق العمليّ، إلا ما كان منها تزيّداً عن المطلوب، وشراء سمعة رخيصة، كما يفعل البعض استسهالاً لجلب اسم ومشيخة، كمن صرف دهراً، ودوّن مجلداً في دراسة "حتى"!!!

      الأمر، كذلك، أنّ الاهتمامات الإنسانية تتشكل بهوية أصحابها، وبمرحلة عمرهم، وبعمق دراستهم ونضج وعيهم واستيعابهم. فابن الأربعين يختلف عن ابن الخمسين، وكلاهما غير ابن الستين، الذي يختلف كلية عن ابن السبعين ... وهكذا. وهذا أمر لا يمكن شرحه بكلمات، بل هو متروك للزمن، يشرحه للمرء .. وليس أفضل منه شارحاً!

      والواقع الذي لا مراء فيه، إنه رغم ما مر بشعوبنا من أحداث جسامٍ خلال الخمسين عاما الماضية، والتي كنت فيها عاملا فاعلا، على قلة الجهد وضعف القدرة، في حراكنا الإسلامي، إلا أن تكاثف الأحداث ووقعها المتسارع خلال العشر سنوات الماضية، قد كان وكأنه مخاض تلك العقود السابقة كلها. فقد كُشفت حركات ادعت الإسلامية، وفشلت حركات ادعت السياسة والحنكة، وأعلنت دول كفرها، بعد طول نفاق وتميّع. وصعدت أسماء وسقطت أسماء ... ويكفي في بيان هذا التغيّر العميق الأثر، والذي، فيما أرى، هو نتيجة لمقدمات بدأت منذ قرن من الزمن، نهاية القضية الفلسطينية، التي عمرها من عمري، ونبذها من كافة حكام الدول العربية الذين كفروا بالله العظيم قولا وفعلا... فإنه مهما كان امرئ من أصحاب الاستشراف قادرا على قراءة الأحداث، فقد يصعب عليه جدا أن يتصور يوما يُصبح فيه "الفلسطينيون هم أعداء الأمة، وهم الغادرون بأمة صهيون، وهم المعتدون وهم المتسولون" ... إلى آخر ما يروجه كفار الخليج والجزيرة ... نيابة عن بقية كفار العرب! هذه وحدها نقطة تحول هائلة في التوجه العربيّ، الذي سقط بسقوط قادته في الدرك الأسفل من الكفر والذلة. وهل هناك على وجه الأرض أذل من السيسي، وأخبث وأكفر من ابن زايد وأكثر عَتَها من ربيب المخدرات وخريج مشافي الأمراض النفسية ابن سلمان؟!

      إذن، كان من المحتّم أن يتوجه قلم الكاتب، الذي يعرف الصلة الوثيقة بين الحياة والشريعة، إلى الخوض في تفاصيل ما يحدث، بياناً وتأريخاً وتحليلاً، ليبقى على أقل تقدير، مصدراً من المصادر السنيّة الرؤية والمنهج، واضحاً مدوّنا ثابتا، لجيل قادم، لعل الله يجعل الخير على يديه قادم.

      انظر إلى ذلك الكمّ الهائل من الدراسات الأكاديمية المتراصّة على الرفوف، في الجامعات والمعاهد العلمية. واشهد أن كثيراً منها متميّز، بل رائع. لكن تبقى خافية عن الواقع، ويبقى الواقع خافياً عنها. فلا اتصال بينهما، إلا بتدخلٍ بشريّ يعي كليهما ويفهمهما معا كوحدة واحدة.

      ثم انظر إلى قدرة العامي على التحليل والنظر في المسائل، حين تُعرض عليه من الوجهة العلمية، تجده لا يكاد يعي الأوليات المنطقية حتى 1+1=2! دع عنك ربط الجزئيات بكلياتها واستنباط الحقائق من وسط ركام الأكاذيب التي تروجها وسائل الإعلام السلطانية ليلاً ونهاراً. فتقديم النتائج والخلاصة، التي هي من باب الإفتاء، هو دور الكاتب السياسيّ صاحب المرجعية الشرعية الإسلامية الثابتة الوثيقة.

      وإذن، فلعل تلك الكتابات لم تكن عبثاً، بل كانت رابطتها بالشريعة أقوى من الأبحاث النظرية، التي تعج بها الجامعات، ولا يكاد يستفيد منها إلا متخصص.

      والله ولي التوفيق ومنه القبول والرضوان

      د طارق عبد الحليم

      8 ديسمبر 2020 – 23 ربيع ثان 1442