فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      شلة المنتفعين .. من ثمرات عمل المجاهدين

      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد

      روى ابن سعدٍ في طبقاته عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: لمّا هاجر عبد الرحمن بن عوف من مكة إلى المدينة، نزل على سعدٍ بن الربيع في بلحارث بن الخزرج، (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما كما ورد بعد ذلك)، فقال له سعد ابن الربيه هذا مالي فأنا أقاسمكه، ولي زوجتان فأنا أنزل لك عن أحداهما، فقال بارك الله لك، ولكن إذا أصبحت فدلوني على سوقكم. فدلوه فخرج فرجع معه حَميتٍ من سمنٍ وأقطٍ قد ربحه" طبقات ابن سعد ج3 ص 116.

      هذا دين الأنبياء "قل لا أسألكم عليه من أجر"، وهذا فعل الصحابة .. وفعل التابعين وتابعيهم، وفعل أجلاء الفقهاء مثل الشافعي وأبي حنيفة وأحمد الذي لم يكن منهم أحد يقبل عطاءً من خليفة مسلم!

      ثم لنعود إلى ما بدأنا ..

      من سمات السقوط في عصرنا الحاضر هذا، هو ما نراه اليوم شائعاً بين غالب، وأكرر غالب، مشايخ الدعوة "المبتلين"، المهاجرين، الفارين من مصر خاصة، أو أمثالهم من قادة الفصائل الشامية للحركات "الإسلامية" لتحرير الشام (مع ضحكة ساخرة تابعة!).

      ولندع قادة الفصائل هنا، فالشام مجزرة حقة لكل من هو، أو ما هو، طاهرٌ شريفٌ برئٌ، يُراد به، أو بعمله، وجه الله تعالى.

      بدأ التوجّه الماديّ في استخدام الدعوة كمصدرٍ للرزق منذ السبعينيات، حين انتشرت موجة هجر التعليم في سبيل الدعوة، فصار الشاب يترك جامعته، ويبسط مائدة يبيع عليها أشرطة وتسجيلات لمشايخ ذلك الزمن. فاستقر في لاوعي الناشئة أن هذا أمرٌ من فضائل الأعمال، وهو حسرة لا تليق بالرجال! لكن هذا التوجّه يومها كان بسيطاً بريئاً، ثم اجتالته الشياطين، فتحّول إلى ما يشبه فعل أحمد موسى وصحبه، لكن بلباس إسلاميّ وصيغٍ دعوية!، مع شديد الحسرة والألم.

      أمّا المشايخ! وما أدراك ما المشايخ! ثم ما أدراك ما المشايخ!

      فرّوا من مصر، لأن الطاغوت الأكبر هناك لا يدع من انتمى إلى إسلام، أيّ لون أو نوعٍ من الإسلام يوماً ما، إلا وطالته يد زبانيته الملحدين في جيشه وقوات أمنه. وبقي هناك من رقد مستلقيا على وجهه، لا قفاه، يتعبّد بدعم الطاغوت، وسياسة الطاغوت، وما يمثله الطاغوت، ويرمي بشرر كالقصر كلّ من يتحدث عن مظلمة أو مفسدة أو دعارة أو هدم لدين أو خلق. بل يفعل ما يمكنه لتقويض دعائم هذا الدين في ذاك البلد الأتعس الأبعد. ومنهم، على سبيل المثال كبيرهم برهامي وأصحابه وفئته، ثم الرسميين من دار الإفتاء (والله حرامٌ نسبتها إلى إفتاء في دين الله!)، أو وزارة الأوقاف وداعرها الأكبر ... وهلمّ جرا. هؤلاء بقوا في مصر وتقبلهم النظام قبول السيد القاهر لعبده الأذل.

      أمّا بقية المشايخ، الذين فرّوا من الطاغوت، فمنهم من هم على طهارة ورغبة أصيلة في إقامة دين الله، وهؤلاء يعدون على أصابع اليد الواحدة، حقيقة لا مجازاً، نعرفهم بأسمائهم، ولا نزكي على الله أحداً، على ما في بعضهم من شوائب فكرية، تعود لسابق منهجٍ غير سويّ.

      ومنهم، وهو الأغلب الأعم، الذي لا يُعتبر الاستثناء منه لندرته، كان عاملاً بالدعوة من قبل، أو حبيساً فأطلق سراحه قبل سيطرة الطاغوت، وإن لم يكن ممن تألق نجمه في علم أو غير ذلك. وهؤلاء كانوا من دعاة الإسلام "الوسطي"، إسلام الغنوشيّ، إسلام الديموقراطية والليبرالية وحرية الأديان وأخوة الإنسان، وما إلى ذلك من دعاوى، أقاموا لها صرحاً تحت مظلة الإسلام، ويشهد الله إن الله ورسوله والمؤمنين برآء منها ومنهم. ولا يخفى أن بعضاً منهم كان ممن يدّعي غير ذلك، ويتمسح بنهج الصحابة وأهل السنة والجماعة، لكن دواعي الفرار، وحال البلاد التي فرّ إليها، أعادت تشكيله ليلائم البيئة، فإن البقاء للأصلح كما يقال!

      وغالب هؤلاء انتقلوا إلى قطر أولاً، ثم منها إلى تركيا. وهناك ظهر مخبوء القلوب وتبيّن التواء القصد وخراب النية.

      وإذا بنا نرى هؤلاء لمشايخ، الذين كان من المفترض أنهم فروا من مصر دون زادٍ أو مال، أن يعملوا لكسب معايشهم، وأن نراهم في حالٍ من العيش تنزعُ إلى الخشونة منها إلى الترف والليونة.

      لكن ماذا رأينا؟!

      مالٌ وفيرٌ وبيوت كبيرة من طابقين وثلاثة طوابق، وأولاد في مدارس خاصة، وزوجات اثنين وثلاث ورباع، ومحطات تلفاز خاصّة، وحياة رافهة ناعمة، لا يحظى بها طبيب أو مهندس أو ما شئت من مهن!

      فمن أين لكم هذا؟! هذا المال الوفير وهذه الحياة الراغدة؟ ما هي مصادركم؟

      أَذَهَبَ أحدهم لسوق اسطنبول صباح يومٍ فباع واشترى، وعاد لأهله برزق من ربّه؟ أم هي تبرعات المسلمين وصدقات المحسنين، التي غالباً ما تكون لصالح عائلات المجاهدين، تُصرف في غير مصارفها، أعاذنا الله من مالٍ حرامٍ وإن تأولوا وتأولوا.

      ثم هم ضيوف دائمون على قنوات ليبرالية بنكهة إسلامية، مثل مكملين والشرق والوطن والحوار والجزيرة، يدفعون لهم آلاف مؤلفة مقابل ترويج أجندة تلك القنوات، التي هي تقتات على ما لا يعلم إلا الله!

      أهي من هيئاتٍ تريد ترويج الإسلام الوسطيّ؟ قطر؟ الحكومة التركية؟ وهو ما يتبناه هؤلاء المشايخ قاطبة، ويعادون من يرى استئصال السرطان بالطريق الربانيّ، وهو القوة أو إعدادها، أو حتى الحديث عنها، أو حتى ترك من يدعو لسبيلها في إزالة حكم الطواغيت العرب، في حال سبيلهم، ولا يسبونهم ويرمونهم بالتهم والتشنيع أو يبلغون عنهم "السلطات"!

      أليس من هؤلاء من يحمل شهادة علمية محترمة، يمكن أن يتقدم بها ليعمل عملاً يتكسب منه، ويؤدي حق الدعوة من بعد ذلك، لوجه الله لا يريد جزاءَ ولا شكورا؟

      لماذا لم نر مشايخاً أُخر يعيشون بهذه الرفاهية، رغم تمكنهم من ذلك لو أرادوا، لتفوقهم في الغلم عن أولئك الأراجوزات من المشايخ؟ أأذكر حال الشيخ السباعيّ، الذي هو ممنوع بقرار  مجلس الأمن من أن يحمل أكثر من خمسة جنيهات، ولا حساب بنكي، بل حوكم مرتين لمّا سجلوا أنه دفع في محطة بنزين عشرة جنيهات دفعة واحدة!!! لمَ لمْ نر الشيخ المقدسيّ يعيش في قصور في تركيا أو قطر؟ بل الشيخ أبي قتادة، على خلاف واسع بيني وبينه، تراه لم يفرّ من الأردن، ليحيا حياة راغدة هنيئة، بمال المسلمين، ولا أزكي على الله أحدا. ولا أحكي هنا عمن سلك طريق الحقّ والتضحية المخلصة مثل مشايخ أفغانستان أو اليمن أو غيرهما. بل أين هؤلاء من الشيخ الشهيد الذي أعطاه الله بلايين الدولارات، فعاش حافيا، في خيمة مُتْرِبَة، آكلاً للكفاف، حتى اختاره الله لجواره، ومثله من خَلَفَهُ، صاحب المهنة العالية، والذي ينحدر من أعرق الأسر المصرية وأغناها. وغيرهما ممن أعرف مثل الشيخ العلم العالم الحقّ عبد المجيد الشاذليّ، الذي عاشرته معاشرة الأخوّة والعلم في السبعينيات، وعرفت بيته في الإسكندرية وحاله. لم يتوقف عن عمله الهندسي لحظة واحدة، حتى عجز عن الحركة، رحمه الله تعالى. ولا أنسى حبيبي وأخي وجاري في السكن، ورفيق الشيخ الشاذلي، الشيخ الفاضل مجدي عبد العزيز رحمه الله، الذي لم أر أرفق ولا أطهر ولا أحنّ ولا أدمث منه خُلُقاً، على طول تعارفنا، والذي لا زلت أشعر بغصّة في حلقي حين يرد على بالي اسمه أو تطرأ على عيني صورة وجهه، رحمهم الله جميعا، وهما غيض من فيض مثل المشايخ الأحبة محمد المأمون وأحمد عبد المجيد وعبد الهادي المصري والشيخ رفاعي سرور، رحم الله من انتقل لجواره منهم، ومدّ في عمر من بقي بيننا لا يزال. إنها طهارة النفس ورفعة الأصل وعراقة النسب وقوة الإيمان وصحة التوجّه، ثم توفيق الله سبحانه من قبل ومن بعد.

      أولئك صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وهؤلاء التعساء من مشايخ تركيا وقطر، إلا الحفنة التي رحمها الله تعالى، قد قدّموا الدنيا واشتروا عرضها بثواب الآخرة ونعيمها. ولا أدرى كيف سيقفون بين يديّ الله بهذا السجل!

      د طارق عبد الحليم

      10 يونيو 2020 – 18 شوال 1441