الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه لا تقتصر علاقة الأب بابنه على طور النطفة فالعلقة فالمضغة، فالطفل الرضيع، فالشاب اليافع القادر على القيام بشأن نفسه، في بعض الأحيان! بل تتجاوز تلك العلاقة هذه الأكوار كلها، والتي يشترك في غالبها الإنسان والحيوان، إلى علاقة فكرية وأخلاقية وأيويولوجية، يرتفع بها الأبناء تارة عن آبائهم تارة، وينخفضوا عنهم تارات، أو يساووهم في أكثر الأحيان.
فالطفل الصغير، لا يرى أمامه، في مَهْدِ عمره ومَطْلَع حياته، إلا أمّا تحنّ عليه وتجود له بلبن صدرها ليأكل منه ويدفأ به. ولا يكون الأب في ذاك الوقت، إلا عاملاً من وراء الستار، راعياً للأم وللأبن معا، مؤمنا كلّ ما يحتاجونه، كالجندي المجهول. فهو، للرضيع، ليس إلا وجهاً مألوفاً، وصوتاً معروفاً، وإن تحدثت بعض النظريات عن مدى تلقى الرضيع أو الطفل الصغير المعلومات البنّاءة في تلك الفترة، إلا إنها غالباً معلومات كليّة عامة، عن الأشياء الحسيّة لا أكثر.
ثم يبدأ الطفل في النمو، ويبدأ العقل في التكوين، وتصبح المعلومات الأساسية مخزونة بنسبة كبيرة بالفعل، كأسماء الأشياء، وصفاتها، وطبيعتها، وبعض علاقتها، فالنار مع الحريق أو الأكل مع الشبع، وبكلمة أخرى، يبدأ في الوعي بالأسباب ومسبباتها، بطريقة بدائية فطرية. ومع تطور العقل، تتعقد شبكة العلاقات بين الأشياء وقيمتها وغرضها، وبين حقيقة الأسباب ومسبَبَاتها (أي نتائجها). وهذا الطور هو طور الصبا المتأخر والشباب اليافع. هنا، في هذه المرحلة، تظهر شخصية الأب ويلوح وجهه واضحاً وأثره مكينا للولد، ويتوارى دور الأم شيئا فشيئا، إلى دور توفير الخدمات الحياتية اللازمة، أو التوجيه الحنون، القاصد إلى أمن الولد قبل أن يقصد إلى نجاحه.
والوالد، شخص في ذاته، له كيان عقليّ وتكوين سيكلوجيّ نفسيّ، وقدرة علمية، سواء متخصصة منحصرة في عمله، أو عامة شاملة تغطي مساحة أكبر في مسرح الحياة العامة، ماضيها وحاضرها، واستشرافا لمستقبلها. يتفاوت الولد الناشئ في أسرة ما، من هذه الزاوية تفاوتا شديداً، يوازي تفاوت الناس في الرزق! وسبحان الله، الوالد جزء من رزق ولده بلا شك. يرى الولد في صباه، تصرفات أبيه ومواطن ضعفه ومصادر قوته، ويلاحط رد فعله عند الأحداث صغيرها وكبيرها، حتى درجة ارتفاع صوته وانخفاضه، ومدى تأثره بما هو حاضر أو غائب.
يلحظ الطفل الناشئ والشاب اليافع كلّ هذا بعين الفطرة، وبصورة الصحيفة البيضاء، تنتظر المادة التي تملؤها. فيكون الأب، لفترة زمنية طويلة، قد تمتد إلى ست أو سبع سنوات، مثالاً للأبن، وتكون تصرفاته مرجعاً له، في عقله الباطن، والذي سيقبله بعدُ كمصدرٍ له أو سيرفضه، حسب شخصيته الذاتية، التي تتكون بشكل غاية في التعقيد، خلال تلك المرحلة، والتي تليها من شباب مجادل متسائل، ثم التي تليها من رجولة قادرة أو عاجزة. وخلال فترة التكوين الثانية تلك، في السنوات الست أو السبع، لا يكون حديث الأب لأبنه كثير الجدوى، بل هو التصرف والعمل. ثم تبدأ مرحلة الشباب الثالثة، فيكون التساؤل فالجدل فالصراع، فالقبول أو الرفض. وهذه أدق تلك المراحل وأصعبها، وأحوجها لخبرة الآباء وصبرهم وعلمهم، إن كانوا من أصحاب العلم، وقليل نادرٌ ما هم! وقد رأينا من الأبناء من تفوق على أبيه، علمياً وشهرة، وهم غالب من نرى من المشاهير، الذين يندر أن تعرف آباؤهم. ومنهم من تساوى في الرفعة، حيث استقرت تصرفات الأب وأعماله ومعالم شخصيته، ثم موضوعات حديثه وتوجيهه للأبن، في عقله الباطن، وتواطأت تلك التصرفات والأفعال، ثم الأحاديث والمناقشات، مع فطرة الإبن، فكُتب لها القبول، وتشكلت الشخصية الجدية متأثرة بشخصية الأب، وعملت، مع همة الإبن وعزمه على أن يكون مثل أباه، علماً أو فقهاً أو شهرة أو ثروة. وتجد مثل تلك الشخصيات حاضرة، وإن ندرت في الحضارات الغربية، من حيث أنّ الليبرالية والفردية التي يتبنونها، عملت على تحطيم أثر تلك الفترة الحاسمة، فترة الشباب المارق المجادل المُخاصم المُتسائل، وأعطت مساعدة للولد، كي يستغني عن خبرة أبيه، وعلمه وفكره وتوجيهه، فأوهمته أنه قادرٌ بذاته على إنماء شخصيته، وتكوينها دون الاستفادة من تجارب أقرب البشر إليه وأحنهم عليه! لكنك واجدٌ مثل هذه الأمثلة، من نبوغ الإبن كالأب، أكثر حضوراً في تاريخنا الإسلاميّ، لعكس الأسباب التي ذكرناها في منطق حضارة الغرب. ونظرة في كتب الرجال تريك كم من الآبناء من ساؤ على درب أبيه، وساواه، أو قربَ منه، في مستواه العلميّ، وهي أكثر من أن تُحصى.
لكن، في بعض الأحيان، تكون شخصية الأب جانية على الأبناء، سواء قوة أو ضعفاً. فالأب الذي لا شخصية له، قد يؤثر تأثيراً سلبياً على ابنه، من حيث يعطيه مثال التسليم والإحباط، يكون له معْلَماً، أو في قليل من الأحيان، يدفعه حسّ المغالبة والرفض، ليصير عكس ما عليه ألأب من خسران وخيبة، وهي القليل من الحالات. أو قد تكون شخصية الأب طاغية قوية رفيعة الشأن، فلا يستطيع الإين مجاراتها، فإما أن يقنع بالقليل، أو أن يندفع نحو العكس والخسران، وهي حالات رأينا مثالها في حياتنا رأي العين.
الحاصل، أن مسؤولية الأب خطيرة الشأن، عميقة الأثر، دائمة الأثر، سواء شئنا أم أبينا. والموضوع أوسع من أن يُحاط به في وريقات قليلة، لكنه جهد المقلّ، إلى حين رجعة إن شاء الله تعالى.
د طارق عبد الحليم
6 شوال 1441 – 30 مايو 2020