أفهم من طبيعة الناس، كلّ الناس، عرب وعجم، أنه من أسهل الأمور أن يُفتنوا عن مبادئهم الأصلية، وأن تنحرف تصوراتهم وتتبدل آراؤهم، ويصير الحسن سيئا، والسئ حسنا، حين تأخذ المظاهر، والعوامل الفرعية الجانبية في التكاثف والتكاتف، حتى تُخفي الأصل الأصيل، فإذا هم يذهلون عنه، ويعيدون تقييم آرائهم ورؤياهم بناءً على تلك الفرعيات والمظاهر، وينسون الأصل، ويشيحون بأوجههم عمن يذكرهم به.
أقرر هذا بين يديّ حديث قصير عن الرئيس أردوغان.
فالرجل، وُلد على دين الإسلام، نعم. لكنه، اختار طواعية أن يكون علمانياً، يؤمن بفصل الدين عن السياسة، كما أعلن بلسانه ما لا يُحصى من المرات، ومنا أجرى في قوانين بلاده، التي شجّع فيها الشعائر الظاهرة، وفصل بينها وبين الشرائع فصلاً تاماً، بديموقراطية غربية، تنبني على أن الحكم للأغلبية، وافق شرع الله أم خالفه، وبهذا أبيحت في بلاده محرمات يقينية، بلا أيّ حرجٍ!
وقد درسنا، وتحققنا، ودوّنا، متابعين لآلاف من علماء السلف، والصادقين القليل من الخلف، أنّ التوحيد، وثبوت الإسلام لا يجتمع مع علمانية، شاء من شاء وأبى من أبى، لأيّ سبب وتحت أيّ ذريعة وبأي نية أو مقصد. ومن ظنّ غير ذلك، فهو على شفا جرف هار من الكفر.
لكنها فتنة المظاهر، وغلبة الفروع المتكاثفة، وضعف النفس المهزومة حضارياً، والفطرة المنتكسة التي تقدم الفرع على الأصل، عمية العينين، مغلفة القلب.
الرئيس أردوغان زعيم، في حدود قدرته البسيطة أمام الغرب، الذي رفض علمانيته، لأنه وُلد مسلماً، ولم يتح له فرصة الدخول في الاتحاد الأوروبي، ورغم إنه تماشي مع كلّ، أقول كلّ، قانون اشترطوه، مخالفاً للشريعة، هو زعيم قوي نسبياً، خاصة إن قورن بخنازير البشر وأنعامها الضالة التي تحكم بلاد العرب، فتدمر الهوية الإسلامية شعائراً وشرائعاً. وهو لون من الكفر لم يسبق أن رآه تاريخنا الإسلامي قط من قبل.
الرئيس أردوغان، يتحدث بقوة عن الإسلام، وحقوق المسلمين، ويعين الليبيين حالياً ضد عدوان خنازير العرب بيد حفتر العميل. وهي كلها أمور في صالح المسلمين، بشكلٍ عام.
لكن الرئيس أردوغان، يضع يده في يد بوتين، وينفذ أجندات أمريكية بحتة، ويعين من السوريين من يتبنى العلمانية صراحة، لا مواربة كبعض الفصائل التي خانت وبدّلت. مصلحة تركيا تأتي أولاً وفوق كلّ شئ، بما في ذلك الشرع والمسلمين الآخرين.
لكنها المظاهر، وقلة الوعي الفكريّ، وضعف تصور الأصل، وبعض النفاق، وانحراف الفطرة، عمى القلوب، يجعل عدد من المسلمين "الغافلين" يعظّم الرجل تعظيماً كأنه واحداً من الصحابة، فوصفوه بأوصاف عجيبة، وتحدثوا في مقامه كأنه عمر رضي الله عنه، بل منهم من يجعله في مقام خلفاء المسلمين من قدامى العثمانيين، لأن بلاده أنتجت مسلسلاً تليفزيونياً عن عظماء العثمانيين الأوائل! نعم، مسلسلاً تليفزيونياً! ولآن تلفازات خنازير حكام العرب لا تنتج إلا خبثاً معادياً للإسلام، صار المسلسل من أدلة الشريعة وبراهينها التي يُحكم بها على إسلام حاكم أو كفره!
وعداء خنازير حكام العرب للرئيس أردوغان، ليس لأنه مسلم وهم كفار، بل لأنه يريد الحفاظ على الشعائر والمظاهر الإسلامية، وهم لا يريدون أي شئ ينتسب للإسلام من قريبٍ أو بعيد. لكنهم يشتركون معه في التحاكم لشرائع الجاهلية. فلا فرق في إباحة الخمور والربا والعهر بين دبيّ واسطنبول!
وإني لأحترم في الرئيس أردوغان، "لهجته القوية"، وحبه لقومه من الترك، ورغبته في تقوية بلاده في وجه الرفض الصليبي لها، كما أحترم مواقف بعض زعماء دول الغرب من محن المسلمين.
لكن هذا لا ولن يكون مانعاً من الإبقاء على مبدأ التوحيد عاملاً مهما اختلفت المظاهر وتشابهت الفروع. ولن نكيل بكيلين فنهاجم الإخوان مثلاً على علمانيتهم المستترة، وهم حقيقة أفضل من علمانية الرئيس أردوغان الواضحة الصريحة الجلية، التي لم ينكرها، بل قررها مرات تلو مرات. فالحق لا يتلون، وإن أعطينا للناس أقدارهم وشكرنا لهم جميل فعلهم. بل ندعو الله سبحانه أن يعينه على صدّ بعض من يتعرض له المسلمين، وإن تآمر مع الروس بشأن إنقاذ النظام النصيري اقتصاديا بفتح الطريق الدولي والمعابر، فقد علمنا الله ذلك في سورة الروم، لمن قرأها!
د طارق عبد الحليم
3 شوال 1441 – 26 مايو 2020
https://www.facebook.com/tabdelhaleem/posts/10156802008365938