فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مناهج الخائضين في مدارج الاستبدال والتمكين

      • التمكين
      • 1605 قراءة
      • 0 تعليق
      • 10:06 - 26 مارس, 2018

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

      من الأهم الشاغل لعقل الباحث في شؤون أمة من الأمم، النظر إلى مناهج المنتسبين إلى العلم في زمنه، وتقييم مناهجهم التي يضعونها للناس، كتباً ودراسات، والتي تعكس نظراتهم في طرق البناء والتغيير، أو الإصلاح والتعمير، فيما يخص مجتمعات تلك الأمة.

      وتكمن أهمية هذا النظر في أن تلك المناهج ذاتها، تنعكس بلا بد على الظواهر الاجتماعية والحركية التي تتحرك الجموع فيها على هدي من تلك المناهج، دون أن تُدرك ذلك بعقلها الواعي. بل تصبح تلك المناهج "معالماً" تيارات، يحسب الجاهل أنها نشأت دون حاضنة فكرية، أخرجتها للناس في قوالب، تحولت إلى ظواهر وحركات، تسعى للأفضل، من وجهة نظرها، أو فيما يتوافق مع معالمها للطريق.

      وسنحاول حصر تلك المناهج، بشكل عام لا تفصيلي، التي نراها في الساحة الإسلامية، خاصة المؤثرة منها، والتي أفرزت حركات بذاتها أو اختلط نظرها بغيرها في حركات مميَّزة، أوظواهر غير مميَّزة.

      وسيكون نظرنا منقسم إلى ثلاث مجموعات:

      أصحاب المنهج الإصلاحي الترقيعي

      أصحاب المنهج الاستبدالي الاستئصالي

      المترددون بين المنهجين السابقين

      المنهج الإصلاحي الترقيعيّ:

      وهذا المنهج مبنيّ على افتراض أنّ المجتمات الحالية اليوم، مسلمة مؤمنة، إسلامية في طبعها وطباعها، أفرادا ومجتمعات. وإنما الأمر أمر إصلاح بعض المظاهر غير المتوافقة مع الشرع هنا، أو تبديل قانون يضاد الشرع هناك. وهذه المناهج تُعني في المقام الأول بالتربية الفردية والأسرية، والتركيز عليها، والابتعاد عن الإصلاحات الإجتماعية الكبرى أو المعالم العقدية الثابتة.

      لذلك ترى من أصحاب هذا المنهج من يتدرج من علمانية صِرفة كحزب النهضة التونسي بتوجيه الغنوشيّ، حيث لا يبدو أي تخالف بينه وبين الأحزاب السياسية من حوله بأي شكلٍ من الأشكال، إلى الأخف مثل الإخوان المسلمون، الذين يسعون إلى إصلاحات أعمق في البنية الإجتماعية، لكن على أساس نفس الفرضية التي وصفنا في فهم الوضع العقدي للمجتمع، شعباً وحكومة، مثل إقامة المستشفيات ومشروعات الكفالة الإجتماعية وغيرها. ويعتبرون هذه الرتوش الإصلاحية كفيلة بأن تعيد الإسلام قويا في نفوس الناس.

      ومثلهم حركة العدل والإحسان المغربية ذات الطابع الصوفي الأصيل، وإن تبنت نظرة سياسية لفترة من الفترات، خاصة أيام زعيمها الأول. وتجربة الترابي في السودان.

      والجامع بين تلك الحركات الإصلاحية، إلى جانب الفرضية الأصلية التي قامت عليها كما ذكرنا، هو التقبل العقدي لكافة التصورات المنتمية للإسلام المعنون بالشهادتين. فتجد فيها العلماني المسلم، والصوفي والسلفي والمعتزلي، كلها معا تعمل كحاضنة لحركة اجتماعية إصلاحية بمرجعية دينية، دون إعارة اهتمام لأن خلاف عقدي بين تلك المركبات.

      كذلك تجي عاملاً مشتركاً آخر بين تلك الجماعات التي تتبنة منهج الإصلاح والترقيع الإجتماعي، وهو نبذ "الجهاد" تاماً، ووصمه "بالعنف" و"الإرهاب". وفي هذا تناغم كبير بين طرحها لنظرتها في عقائدها السياسية تجاه الحكومة أو الملكية، وبين نبذها لأي تغيير ينبني على مواجهة بين الشعب وحكومته، كما ظهر في موقف العدل والإحسان من حراك 2011، وما كان من توافق الإخوان والمجلس العسكريّ في مصر، والاستسلام التام لحركة النهضة للتوجه الحكومي اللاديني.

      وقد رأينا بعد طرح هذا الأنمودج المنهجيّ من أيام حسن البنا في مصر إلى محمد عبادي في المغرب، على مدى أمثر من ثلاثة أرباع قرن، فشلاً للتطبيق الإصلاحي التربوي الصرف، وعدم جدوى المنهج الإصلاحي الترقيعي في تحريك القوى الإجتماعية، لا لواقع ديني أفضل، ولا لواقع خضاري أعمق.

      المنهج الاستبدالي الاستئصالي

      والفرضية الأساسية لهذا المنهج هو أنّ أمر المجتمعات الإسلامية الحالية قد خرج من حيز الترقيع والإصلاح، إلى حيز الاستبدال والتمكين. وبكلمات أخر، إنه يجب إزالة الأنظمة والمؤسسات الحالية برمتها، لعمق الفساد المستأصل فيها إلى حد الشلل الإصلاحي الإجتماعي، واستبدالها بأنطمة جديدة على رأسها أفراد جدد، بتصورٍ قديم متجدد يقوم على الوحدة الإسلامية السنية والجغرافية، التي تتعدى الحدود والقوميات، وإن احتفظت بها واقعياً.

      وقد اختلف أصحاب هذا المنهج، بين توجهين، أحدهما نحى منحى الوصول إلى هذا الهدف عن طريق التربية والبناء لكوادر قادرة على حمل تلك الأمانة، في عملية الاستبدال والتمكين الجديد، وعلى تحمل مسؤوليات المرحلة، مثل ما طرحه فكر الشيخ عبد المجيد الشاذلي ورفاعي سرور في مصر وبعض فروع الإخوان القديمة في سوريا بقيادة د مصطفي السباعي ثم عصام العطار. إبان الستينيات والسبعينيات.

      والاتجاه الآخر تبنته بعض شباب انتسب للإخوان فترة، لكنه رفض فكرة المشاركة الديموقراطية بتاتا، ورأي ما حلّ بالإسلاميين على يد عبد الناصر في مصر، وحافظ الأسد في سوريا بعد انفلاب 1963، فاعتمد منهج الإنقلاب الاستبدالي للنظم، مثل مروان حديد في سوريا، وصالح سرية الفلسطيني في مصر، وجماعة الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر قبل تراجعاتها. وقد أسفر هذا المنهج عن نشأة الاتجاه المعروف بالتيار الجهادي، والذي كانت له زموزه سواء على المستوى الفكري أو الحركي، منذ أيام السبعينيات، مثل الشيخ أسامة ابن لادن الجزراوي، ود أيمن الظواهري وسيد إمام المصريين، وشخصيات أخرى لا محل لذكرها هنا لحساسية موقفها. وكانت قاعدة الجهاد هي المُنتج الأصلي والأصيل لهذا الفكر، منذ منتصف الثمانينيات في أفغانستان، ثم السودان، والمغرب العربي وشبه القارة الهندية، ومُلهما للحركة التركستانية والشيشانية الجهادية الحديثة.

      وقد كان لهذا الإتجاه المنهجيّ الأخير، الذي اعتمد فكر سيد قطب والمودودي وابن تيمية وابن القيم ومحمد ابن عبد الوهاب مرجعية أصيلة في توجهه السلفي العقدي، الخالي من التعددية العقدية التي امتاز بها المنهج الأول، أكبر الأثر في تشكيل الجبهة الأكثر فعالية على الساحة اإسلامية في العقود الثلاثة الأخيرة. لكن اتحاد المصدر والمرجعية الفكرية لمْ يمنع التشتت الحركيّ كما وضح جلياً في تجربة الشام الحزينة. والتي نشأ منها انحرافات في كلا طرفي المنظومة العقدية التي تتوسطها أهل السنة. فظهرت الحرورية العوادية من جهة بقيادة البغدادي، التي خلت من قبلها تجربتي مصطفى شكري في مصر والزوابري في الجزائر، وظهر الغموض السياسي والعقدي المتلبس بالفكر السلفي "التجديدي" من جهة أخرى، تحت عنوان التجديد والإحلال وغير ذلك من مصطلحات غير محددة إلى وقتنا هذا، بقيادة أبي قتادة الفلسطيني كمرجع أوحد لم يشاركه فيه أحد.

      وقد كان هذا التوجه الأخير مسماراً في نعش المنهج الأصيل للإستبدال والتمكين، حيث فتّت الوحدة الفكرية والحركية لفصائل السنة في الشام، بل وأوجد بينها وبين تنظيم القاعدة الأصيل جرح لا يندمل، إلا بتغيير قادة تلك الفصائل ومرجعياتها.

      المترددون بين المنهجين السابقين:

      وهذه الطائفة يمكن أن نسميها اللامنهجية بحق. إذ يقوم عليها عدد من أصحاب الفكر المختلط، أفراداً لا جماعات، من مجالات فكرية إسلامية متعددة، على رأسها أصحاب حديث، أو أصوليون مثل الريسوني ومصطفى حمزة ومحمد عمارة وطبقتهم، أو فقهاء كالقرضاوي. وهؤلاء، بالذات من أصحاب الحديث، لا تعرف لهم مذهبا واضحاً يتبعونه في كلّ آرائهم، فهم يترددون بين السلفية الحديثية والصوفية، حسب بيئتهم الحياتية، وإن لم يمارسونها. كما تجدهم يتعاطفون مع المنهجين السابقين، بدرجات متفاوتة، لكن دون التزام منهم بأيهما. وترى الأصوليون منهم أهل اجتهادات خارجة عن سياق الاجتهاد التشريعي، ولهم فتاوى شاذة كعدم قتل المرتد، وموقفهم من المرأة، ومن الجهاد عامة، لكنهم أقرب إلى المنهج الأول في نهاية الأمر. وهذه الطبقة كلها لا يمكن تحديد معالمها الفكرية الأصيلة الراسخة التي تتخذها مرجعية، بطريقة متسقة مع نفسها. وهذا لا يعني انحراف أصحاب هذا التوجه التردديّ، بل يعنى الإفادة منه في مجاله المتخصص مع الحذر من الأقوال العامة والتقريظات التي يطلقونها في كل المناسبات.

      ولم نتعرض هنا لصنفين، علماء السلطان، فهؤلاء منافقون في الأصل، أو حركات خرجت عن الملة وتبعت الطاغوت مثل السلفية البرهامية، وتلحق بها بعض توجهات المداخلة.

      ولعل هذا النظر معينا للشباب على أن يميّز التوجهات والمناهج والأشخاص القائمة عليها، فيكون على بينة من أمره. إذ الجهل عدو للحق والنصر والاستقامة على الطريق.

      د طارق عبد الحليم   26 مارس 2018 – 10 رجب 1439