فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      جيل ولى .. وجيل تخلى

       الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد

      نظرت اليوم فإذا أكثر من عرفت من جيلي قد ذهب وولى، أو كاد، إما لقي ربه، أو تباعدت بيننا الشقة مكانا وزمانا! فاجتاحني حزن مؤلم، كأنه طعنات في القلب ووخزات في العقل. حزنٌ كحزن من حُبس في زنزانة انفرادية، في بلاد غريبة عنه. وإذا بي أنظر حولى فلا أرى إلا أشباحا تسعى، تتحدث بلغة غير لغتي التي نطقت، ويحكي عن أشياء غير ما عرفت، ويتصرف بطرق غير ما ألِفت! وإذا بي أعرف ما بي. الوحدة. الغربة. ثم تبدل الزمن.

      كنا جيلاً مغايراً تاما لما نره اليوم... حين أقارن جيلنا في الثلاثين من أعمارنا، لا أرى حتى ظل أثر منه على من هم في الثلاثين اليوم! ثم أقارن ما كنا عليه في الأربعين، فلا أرى إلا أطفالاً في أجساد رجال، كأنهم خشب مسندة، إلا من شاء الله.

      كنا جيلا نعرف معنى الهمة، ومعنى الرجولة والشهامة والمروءة، والتعاون، والتحاب، والإعانة. كانت الصداقة، وأخوة الإسلام أقوى من صلة الدم والرحم، لنا. فتقارب العقل وتلاقي الروح وتلاقح الفكر هو ما يجعل بني آدم يعلم معنى الحياة، وما بعد الحياة، فلا تغره الدنيا ولا تلعب به الأهواء وتجرده شهوات أو شبهات مما رأه حقا عن يقين، ودعمه فيه إخوانه في الله.

      لكن ماذا أرى اليوم، ويا حسرة على ما أرى! جيلا قد تخلى عن كل ثوابت ما نشأنا عليه، فصار أقواهم ضعيفا، وأعلمهم جاهلا، وأسخاهم بخيلا، وأشجعهم جبانا، بمعايير جيل ولى، إلا من رحم ربك.

      أيكون ما نحن فيه هو سبب ظهور هذا الجيل، أم إنه نتيجة لما عليه هذا الجيل؟ أيكون الجيل سببا أم نتيجة؟ وهو سؤال في غاية الأهمية لا تعتقدن أنه فلسفة رجل حزين في السبعين! بل إن الإجابة عنه ستفسح الطريق لجيل قادم، يتدارك ما حدث من نقص وخلل، وما نشأ من أمراضٍ وعلل. فيأتي على يديه نصر مؤمل.

      والعلاقة بين السبب والنتيجة، علاقة متشابكة متداخلة، فيها نوع من الدوران والخُلْف. ولا يكاد المرء يعرف أيهما البادئ، وأيهما اللاحق!

      فنرى مثلاً أنّ أبناء هذا الجيل، ممن هم بين العشرين والأربعين من العمر، قد عزفوا عن القراءة، تماماً، واستبدوا بها أولا الشرائط المسموعة، التي كانت تباع أمام المساجد في أيامنا، ثم انتقلوا إلى عالم النت، حيث صارت المعلومة تأتي أرخص ما تكون، كالمفروشات أو البيوت الجاهزة الحديثة، قليلة الثمن قصيرة العمر، ضحلة الأثر، شكلٌ بلا موضوع.

      كنا نشقى في أيامنا لنحصل على كلمات للإمان فلان أو العلامة علان، تجرى العيون بين مئات الصفحات، حتى تعثر على مرادها. وهذا الجرى وذاك البحث، ليس بوقت ضائع، كما يظن التافه الرويبضة، بل في هذا يكم العلم الحق، فإنك تقف في الكتاب تبحث عنىمسألة، فتنظر في عشرات غيرها، من أقرانها أمثالها، فينسيك هذا الجديد سبب حملك لذاك الكتاب، زمنا يطول ويقصر. ثم كل مسألة تريدها تتابعها في مطانها بذلط الجهد والصبر والاستقراء، فتحصل لك ملكة النظر، وتُحشد في عقلك براهين وأدلة وروابط ودلالاات ما كنت تسعى لها أصلاً. وبتوالى الأيام وترداد النظر، تتكون لديك صورة متكاملة عن الشريعة، مقاصدها أولاً، ثم التمكن من الاستباك منها في مناكات خاصة تالياَ.

      أما، في الجيل صاحب المرض والعلل، فأنت تريد رأيا في موضوع تستند اليه، فما عليك إلا أن تكتب كلمة من موضوعك على محرك بحث، فتخرج لك في جزء من الثانية عشرات الموضوعات المتشابهة، وإذا بك تتخير بينها بالنظر الماسح السريع، فتأخذ أقربها شبها بما أردت، تضعه في "مقال" أو تتصدر به مجلساً، فيقال "عالم".

      أكانت تطور وسائل البحث هو السبب، أم كراهة القراءة وعدم الثبر عليها هو السبب، فيما نحن فيه اليوم من تصدر الجهالة، وتزعم الرويبضات، وتخلف أهل العلم حتى لم يبق إلا تعساء هذا الجيل، إلا من رحم ربك، وقليل، من قليل ما هم!

      لعلى أطلت في كلمتى، فما قصدت إلا الحديث عن تلك النوبة من الحزن المؤرق، ليخف وطأه ويقل ثقله، لكن، هذا لاما جرى به القلم ...

      د طارق عبد الحليم      24 فبراير 2018 – 9 جمادى الآخرة 1439