للشيخ الحسن الكتاني
﷽
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وآله وصحبه ومن والاه، وبعد
لفت نظري أحد الشباب من الأحبة إلى فقرة من كتاب الإبن الشيخ الحسن الكتاني المذكور، تحدث فيها عن مسألة العذر بالجهل في إبان عرضه لما زلت فيه أئمة الدعوة النجدية من تضييق شديد في الإعذار بالجهل.
وليس هدفي هنا مناقشة الشيخ في موقفه من الدعوة النجدية، ولا رأيه في موضوع العذر بالجهل، ولا نعيه على من قال أن في الدين أصول وفروع، فقد أجبت بالتفصيل على بعض تلك النقاط من قبل، وسيكون لي بحث قريب إن شاء الله تعالى في موضوع الدعوة النجدية.
فقد ذكر الشيخ في ص 18 من ذلك البحث "وعند المخالفين شبهة ذكرها بعض المصريين المعاصرين وضمها العبدلي لمجموعته المسماة "عقيدة الموحدين" وفيها "الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد" ومؤلفها رجل مجهول غير معروف عند العلماء ولا ممن يُرجع اليه في هذه المسائل العظيمة" اهـ !
ثم عرج الشيخ الكتاني، على كتاب الأخ مدحت فراج، ثم بدأ في نقد الكتاب (لا أدرى أيهما!) لكن الواضح أنه لم يطلع على "الجواب المفيد" بالمرة، إحساناً للظن به، من حيث كاتبه مجهول!
وأود أن أشير هنا إلى أن هذا الكتاب من وضع العبد الفقير كاتب هذه الكلمات، كتبته وطبعته في مطبعة المدني بالعباسية تحت اسم مستعار، عام 1978، لأسباب تتعلق بالأمن وبنشاطنا الدعوى في مصر في تلك الأيام. وقد طبع هذاالكتاب مرات لا تُحصى، وترجم للغات أخرى، وشهد لي أحد المشايخ الكبار، يقيم في مهلكة أل سعود حاليا، إنه وصحبه كانوا يتدارسونه في الثمانينيات. كما طُبع هذا الكتاب في مجموعة "عقيدة الموحدين" كما أشار لذلك الحسن. ولم يصح لي وقت وفرصة أن أطبعه طبعة خاصة جديدة إلا عام 2004، وعرّفت فيها بنسبة الكتاب، والظروف التي حملتني على استخدام اسم مستعار له ولكتابي الأخر الذي أصدرته عام 1979 بعنوان "فتح المنان في شرح حقيقة الإيمان" ثم اختُزل إلى اسم :حقيقة الإيمان" في الطبعات التالية، التي يعلم الله عددها.
ولا يعرف الإبن الكتاني الظروف التي كانت تحيط بنا في مصر في تلك الأيام منذ نهاية الستينيات، وحتى غادرت أرضها مجبراً في فبراير 1982، من حيث أن الشيخ الحسن لم يعاصر هذه الفترة، بل تفصله عنها عقود حتى بلغ رشده. ولا أقصد الظروف السياسية فقط، بل الحالة العلمية المتردية والأثر الإخواني الرهيب الذي كان يضرب في المجتمع وقتها. هذا إلى جانب صراعنا أيامها مع الجانب الآخر، وهم حرورية مصطفى شكري، وسجالاتنا التي كانت تطول في بعض الأحيان لمدة ثمانية عشر ساعة متتاليات في جلسة واحدة.
على كلّ حال، فهذه نقطة جانبية شكلية نصحح بها معلومة خاطئة في تلك الطبعة، وردت في بحثه لعله يستدركها فيما يقتبل من طبعات. وإن كنا نود لو قرأ الكتاب، مع جهالة صاحبه، بالنسبة اليه، فمن جمع تلك المجموعة "عقيدة الموحدين" هو رجل ممن عُرف بالعلم والتقوى، لا يعبث عبثا فيما يقدم إلى فقيه الجزيرة يومها ابن باز رحمه الله ليكتب له مقدمة على مجموعته.
وأنا أجزم بأن الشيخ الحسن لم يقرأ الكتاب لسبب بسيط، وهو أنه ذكر بعد تلك الكلمات عاليه، أن مدار الشبهة – وكأننا أثرنا في الكتاب شبهة واحدة، أو اعتراض واحد لا غير! – يقع تحت مسألة "التحسين والتقبيح العقلي" وهي تلك المسألة الكلامية التي أشرنا لها، وبيّنا الحق فيها في كتابنا المنشور في الكويت عام 1983، باسمنا الحقيقي، بعنوان "المعتزلة: بين القديم والحديث" وأدعو الشيخ الحسن لقراءته ليعرف حقيقة ما نرى في تلك المسألة.
وأفاض الشيخ الكتاني في شرح معضلة تلك المسألة، وبين حالاتها الثلاث، وكأننا لم نبينها في كتابنا قبل أن يخط كتابه بأكثر من ثلاثين عاماً، إلا إننا طرحنا الموضوع برمته من زاوية جديدة، لم يتناولها أحد من قبل، وهي تأثير عارض الجهل على ما يقع عليه ذاك الجهل، لا بالتوحيد لزوماً. كما يدرك من قرأ الكتاب بعناية، إننا ذكرنا الثلاث درجات التي رتّب عليها الشارع الحكيم الكفر، فذكرنا ميثاق الفطرة، ثم ذكرنا العقل ونسبنا القول به إلى المعتزلة ص20، ثم ذكرنا إرسال الرسل الذي أوضحنا أنه مناط التكفير في الدنيا، بعد بلوغ الحجة، على تفصيل في بلوغها، كما إننا قد ناقشنا الآراء المطروحة في كل تلك المسائل ولم نُخلّ بأي رأي ولم ننصر رأيا دون حجة، وأننا انتهينا إلى ما قال الإمام العلامة بحق ابن القيم
"والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل ، فهذا مقطوع به في جملة الخلق ، أما كون زيد بعينه أو عمرو قامت عليه الحجة أم لا ، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه ، بل الواجب على العبد أن يعتقد :
ـ أن كل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر .
ـ وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول . هذا في الجملة والتعيين موكول إلى الله ، وهذا في أحكام الثواب والعقاب ، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر) اهـ من كلاما ابن القيم
قلت: فهذا النص للإمام ابن القيم هو فصل الخطاب في موضوعنا ، فنحن كمسلمين أولاً، وكدعاة إلى دين الله ثانيًا ، لا نتكلم عن أحكام الثواب والعقاب فهذا أمر موكول إلى الله سبحانه وتعالى وحده أولاً وآخراً ، ولكننا نتحدث عن الإسلام والكفر باعتبارهما حكمين شرعيين تعبدنا الله بهما في أحكام الدنيا . فيجب التمييز جيدًا بين المقامين : مقام الظاهر ، ومقام الحقيقة ، مقام أحكام الدنيا ، ومقام أحكام الآخرة من ثواب وعقاب" الجواب المفيد ص29.
ومن قرأ الكتاب يرى إننا حشدنا أدلة كثيرة جداً، ورددنا على شبهات واعتراضات عدة، واعتمدنا على كتب الأقدمين، ولم ننقل لمحدثٍ أبداً، وكان العمل البارز في هذا الكتاب بفضل الله هو ترتيبه وتغطيته لموضع عارض الجهل من كافة زواياه، على قدر ما يسع كتاب محدود أن يفصّل، وإلا فإن التفصيل والبيان والتخصيص، واردّ على كل كتاب في الأرض.
وخلاصة عقيدة الكاتب في هذا الأمر، أنه
- أن الله سبحانه أنعم على البشر بثلاثة نِعم، الإشهاد، كما شرحه أئمة إعلام أوردنا أقوالهم، ثم العقل، وهو ما تبناه المعتزلة وبعض الأحناف كمناط للتكليف، ثم مناط التكليف وهو إرسال الرسل وإنزال الكتب، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
- أن بلوغ الحجة اليوم وارد وواقع على كلّ حيّ، إلا في بعض المجاهل الإفريقية أو أمريكا الجنوبية أو القبائل الإسترالية.
- أن الحجة قامت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بلوغ الحجة هو ما يجب فيه التفصيل، في كفر من كفر بجهل. جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَسْمَعُ بِي أحد من هذه الأمة لا يَهُودِيٌّ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كانَ مِنْ أَصْحَابِ النار. وأن إفهام الحجة هو أمر بيد الله سبحانه، وأما عن التحرى في بلوغها أن تكون واضحة شارحة، فقد ذهب شيخ الإسلام وابن حزم وغيرهما إلى أن مجرد السماع ببعثته صلى الله عليه وسلم هو بلوغ الحجة، ولكن بعض المحدثين من العلماء كالألباني أنكر ذلك، والأفضلية للمتقدمين كما ذكر الشيخ الكتاني.
وسنتبع هذا الحديث القصير إن شاء الله ببحث في مسألة الدعوة النجدية التي خاض فيها الخائضون، بعلم وبجهل.
والله تعالى الموفق لما فيه الخير والسداد
د طارق عبد الحليم
18 فبراير 2018 – 3 جمادى الآخرة 1439
- مرفق 1 - تحميل