فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      دراسة مقارنة في الشعر العربي .. القسم الثاني

      القسم الثاني

      الحمد لله والصلاة والسلام والسلام على رسول الله ﷺ وآله وصحبه ومن والاه، وبعد

      1)    العذراء .. في يد محمود شاكر: تقدمة[1]

      انتهينا إلى موضع نهاية قصة القوس مع صاحبها، الشّماخ بن ضرار الغطفاني، وهي تلك النهاية الحزينة التي ذهب صاحبها مولياً ظهره لمصيبته في قوسه، باكيا عليها، قانعا على مضض بما أخذ من متاع.

      لكن قصة القوس الحزينة، قد اتخذت، في يد محمود شاكر، منعطفات جديدة، بيّنت بتفصيل دقائق العلاقة بين القواس وقوسه، ووضحت بما لا مزيد عليه، تلك العوامل النفسية التي تجترها النفس الإنسانية في معاناتها للإبداع، فنا وعملاً، كما أقام ذلك الجسر الذي افتقده الناس طويلا، والذي عمل على هدم بقاياه من زعموا التجديد في مناحي الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية، مثل طه حسين وسعد زغلول وقاسم أمين على الترتيب. كما أنه قدّم لوناً جديدا من ألوان الحبّ والألفة والمودة والقرب، بين الإنسان وبين صنعة يديه، زادت على الحب والألفة بين الإنسان وقرينته في دنيا الناس.

      أحال الشيخ شاكر القوس من حالة الجماد المتصلدة إلى حالة الحياة المتدفقة، فإذا هي بين يديّ صانعها شخص من الشخوص، يحبُ، ويأملُ، ويتودد وينكر، لا ينقصها إلا ما في الإنسان من دواعي الشر الذاتية، تدفعها لأذى غير مبرر!

      انظر اليها وهو يروى ذكرى لقائهما الأول:

      كَيْفَ قَرَّتْ فيِ يديه، واطْمأنَّتْ لِفَتَاهَا؟

      واعتبر استعماله قافية الهاء السهلة المحببة، في وصف ذاك اللقاء وما بعده، في مقابل قافية الزاي الثقيلة الصلبة، التي استعملها الشمّاخ لتناسب بيئته الخشنة الوعرة.

      ثم انظر كيف نسبها لنفسه، الفتي، كما تنتسب المحبوبة، التي قرّت في مستقر حبيبها، اليه، وتفقد ذاتها بين يديه؟

      كَيْفَ نَاجَتْهُ.. وَنَاجَاها.. فَلاَنَتْ.. فَلوَاهَا؟

      كَيْفَ يُرْضِيهِ شَجَاهَا؟ كَيْفَ يُصْغِي لبُكاَهَا؟

      كَيْفَ هَزَّتْهُ فَتَاهَا؟ وَتَعالَى وَتَبَاهى؟

      انظر إلى معاناته الشديدة المتواصلة الدؤوبة في قوله:

      كَيْفَ سَوَّاهَا.. وَسـَوَّاهَا.. وَسَوَّاهَا فَقَامَتْ.. فَقَضَاهَا؟

      ثم إذا به يخرج من صومعة حبه وولهه التي خلا فيها بالحبيبة عامين. عامام كاملان، يرعاها ويحنّ عليها ويعينها ويقومها ويسويها ويعدّلها لتكون خلقا من خلق القوس ىسويا!

      خرج أخا الخضر من تلافيف غابته، حيث لقى حبيبته، إلى السوق بالحج، وما أدراك ما السوق، وزحمته وماديته وتشويشه على العقل الواعي

      كَيْفَ وَاَفى مَوْسَم الَحج بِهَا؟.. مَاذَا دَهَاهَا؟

      فهل تُفلت هذه الفاتنة الكامنة على كتف صاحبها من نظرات الغيرة والرغبة والسيطرة؟

      أيُّ عَيْن ٍلَمَحَتْ سرَّهُمَا المُضْمَرَ؟.. بَلْ كَيْفَ رَآهَا؟

      انبَرَى كَالصَّقْرِ يَنْقَضُّ إلَيهَا.. فَأَتَاهَا!!

      مَسَّهَا ذُو لَهْفَة تَخْفى..، وَإنْ جَازَتْ مَدَاهَا

      قَالَ: سُبْحَانَ الذيِ سَوَّى!! وأَفْدِي مَنْ بَرَاهَا

      أَنْتَ..!! بِعْنِيهَا.. نَعَمْ إن شِئْتَ!! [تَعْسَا وَسَفَاهَا] ([2])

      هناك، بدأت ملحمة نفسية وصراع داخلي له ظاهر وباطن. ظاهره بيع وشراء ومساومة بين صاحب القوس وبين من يبتغي شراءها. وباطنها ذاك الرباط الوثيق والحبل المتين الذي هو أشبه بالحبل السريّ بين أمّ ووليدها، فيه اتصال الحياة بينهما كشريان القلب سواء بسواء.

      المشترى يُساوم ويعرض ما يسيل له لعاب البائس الفقير

      قَالَ : بِالتِّبْرِ.. وَبالفِضَة، بالخزِّ.. وَمَا شِئْتَ سِوَاهَا

      بِثِيَاب الخالِ ([3]).. بِالعَصْبِ المُوَشَّى.. أَتَراهَا؟

      وأدِيِمِ ([4]) الماعزِ المَقْرُوظِ.. أرْبَى مَنْ شَراهَا!

      لكن نفس البائس الفقير لا تزال تحنّ لصنعتها، حبيبتها، رفيقة أنسها عامين كاملين، فتتأبى وتنكر على نفسها أن خطر البيع ببالها

      كَيْفَ قَالَ الشَّيخُ؟!.. كَلاَّ! إنَّهَا بعْضِي وَالمَالُ؟. بَل ِالمالُ فَدَاهَا

      إنّها الفاقةُ والبُؤسُ!!.. نَعَمْ!.. هذا غِنًى!!.. كَلاَّ وشَاهَا ([5])

      بَلْ كَفَاني فَاقَةً.. لاَ!.. كَيْفَ أَنْساهَا؟.. وَأَنَّى؟! وَهَوَاهَا!

      لكن، هل يترك البشر البشر ينعمون بحب أو مودة، إلا أن ينزغوا بين الحبيب وحبيبه، والرفيق ورفيقه؟ جمع من حولهم يرى المسامو، لكنه لا يرى الحب الكامن داخل نفس البائس الفقير. همهم، كهمّ البشر، تحقيق الربح الماديّ، ولو على حساب النفس الحية الشاعرة. فإذا بهم يتصايحون بالبائس الفقير، يدفعونه دفعا لبيع كل ما يملك من تلاد في دنياه .. قوسه العذراء، التي لم يمسّها غيره قبل.

      لَمْ يَكَدْ.. حَتَّى رَأَى نَاسَا، وَهَمْساً، وَشِفَاهَا:

      بَايِع الشَّيْخَ! أَخَاكَ الشَّيْخَ!.. قَدْ نِلتَ رِضَاهَا!!

      إنَّهُ رِبْحٌ..! فَلاَ يُفلتْكَ!.. أَعطَى، واشْتَرَاهَا ([6])!

      وتمت الصفقة .. وكسب الشاري ما أراد، استقرت في يده القوس العذراء .. وخسر البلائس الفقير، رغم ما استقر في يديه من مال .. فإذا به صفر اليدين .. فبكى وناح واشتكى لكن، لات حين مناص

      وَرَأْى كَفَّيِه صفْراً، وَرَأَى المَالَ... فَتَاهَا ([7])

      لَمْحةً...، ثُمَّ تَجَلى الشَكُ عَنْهُ...، فَبَكَاهَا!

      وَرَثَاها بدُمُوع، وَيحَهُ! كَيْفَ رَثَاهَا؟1

      فَتَوَلَّى.. وَسَعِيرَ النَّارِ يُخْفِي وَلظَاهَا!

      حَسْرَةٌ تُطْوَى عَلَى أَخْرَى..، فأَغْضْى... وَطَوَاهَا!

      وكان الفراق ...

      2)    وماذا قبل اللقاء ..

      لم يكن خروج أخا الخضر في طلب قوس أول أمرِه. بل خرج الرجل يطارد صيدا يقيم أوده، ويبيع منه ما يزيد عن حاجته، لتسير به الحياة كما تسير، بائسة لكنها قائمة، تحبو به، لا تكاد تسير.

      وما كان لشاعرنا العملاق أن يتجاوز ذلك المشهد الذي إن دلّ على شئ فإنما يدل على مهارة ذلك الصائد ومعرفته بالطراد، ومواضعها وطبائعها معرفة وثيقة. فالفقر لا يمنع الموهبة، والعَوَز لا ينفي المهارة.

      وها هي أبيات الشماخ تصف مراقبة ذلك القواس الماهر لحمار وحشي وأتنه، يريدان ورود الماء، لكن تمنعهما عوامل الخوف والتوجس من سهام الصائد، الذي ما يبغي إلا أن يضرج سهامه بدمائها

      طوى ظِمْأها في بَيْضة ِالقيْظِ بَعْدَما          جرتْ في عنانِ الشعريين الأماعزُ[8]
      فظلتْ بيمؤودٍ كأنَّ عيونهــــــــــــا         إلى الشمس ـ هل تدنو ـ رُكيٌّ نَواكِزُ[9]
      لَهُنَّ صَليلٌ ينتظـرنَ قضــــــــــاءَهُ         بضاحي عذاة ٍ أمرهُ وَ هوَ ضامـــزُ[10]
      فلما رأينَ الوردَ منهُ صريمــــــة           مضينَ ولاقاهـــنَّ خلٌّ مجــــــــاوزُ[11]
      ولمّا رأى الإظلامَ بادرَهُ بها كمــا           بادرَ الخَصْـــــمُ اللجوجُ المُحـــافِزُ[12]
      ويمَّمها من بطـنِ ذَرْوةٍ رُمَّـــــــة          ومنْ دونها من رحرحانَ مفــــاوزُ[13]
      عليْها الدُّجى مُسْتَنْشَآتٍ كأنّهـــــا           هَوادِجُ مشدودٌ عليْهــــا الجَـزاجِزُ[14]
      تفادى إِذا استذْكـى عليها وتتّقــي           كما تتقي الفحلَ المخاضُ الجوامزُ[15]
      ومرتْ بأعلـى ذي الأراكِ عشية ً       فصدتْ وقد كادتْ بشرجٍ تجاوزُ[16]
      وهمتْ بوردِ القنتينِ فصدهـــــــــا         حوامي الكُراعِ والقُنــــــــانُ اللواهِزُ[17]
      وصدتْ صدوداً عن ذريعة ِعثلبٍ          ولا بَنيْ غِمـارٍ في الصّدورِ حزائزُ[18]
      ولوْ ثَقِفاهــــا ضُرَّجَتْ منْ دمائِها          كمــــــــا جُلّلت فيها القِرامَ الرجائزُ[19]

      هذا ما وصف به الشمّاخ حال الطريدة التي تسعى لتحصل على شربة ماءٍ تقيم بها حياتها، وتُسكت بها صليل مِعاها، لكن الصائد والمعتدي من الوحش يصدانها عن ذلك، فتعيش حياة ضائقة مريرة متوجسة، لا ترى فيها راحة من كلل، ولا براءة من علل، حياة خوف مستمر مقيم، لا ينحسر عنها.

      فكيف عالج شاعرنا العملاق هذا المشهد الملئ بالأحاسيس، النابع من قلب الطبيعة القاسية، التى لا ترحم إلا الأقوى والأقدر؟

      د طارق عبد الحليم

       2 يناير 2018 - 15 ربيع ثان 1439

      يتبع إن شاء الله


      [1] نود هنا أن نلمح إلى ما كتب الشاعر الفنان المبدع محمود حسن إسماعيل، في مقدمة كتاب القوس العذراء لشاعرنا العملاق، في أبيات كأنه عارض فيها أبيات القوس العذراء، بنفس قافيتها وجرسها، فأبدع إبداع الشاعر نفسه، وجاء بأبيات كأروع ما تكون الأبيات، نكتفي بما ختم به قصيدته القصيرة التي أسماها "ذكرى" حيث قال:

      ما هي قوْسٌ في يدِىْ نابلٍ .. إنما هي ألواحُ سِحرٍ نزَلْ

      ([2])  سفاها: دعاء عليه بخسران نفسه.

      ([3])  ثياب الخال: ثياب رقيقة تصنع ببلدة الخال. العصب: برود كانت تصنع باليمن، يعصب غزلها ويجمع ثم يصبغ فيأتي موشىً لبقاء ماعصب منه أبيض لم يأخذه صبغ. والموشى: المختلط الألوان.

      ([4])  الأديم: الجلد المدبوغ. المقروظ: المدبوغ بالقرظ. أربى: زاد ماله وارتفع على مايستحقه. شراها: باعها.

      ([5])  شاه الوجه: صار قبيحاً مشوهاً تكرهه النفس.

      ([6])  اشتراها: باعها.

      ([7])  تاه: من التيه، وهو العجب والفرح.

      [8] بيضة القيظ: عز الحرّ، اعترضت طريقها أسراب الماعز

      [9] يمؤود: مكان فيه ظل اختبأت فيه الطرائد، ركيّ نواكز: أي ضعيفة غائرة لا ماء فيها، فعيونها ترقب الشمس في غروبها بتلك العيون تخشى ما سيأتي به الليل.

      [10] الصليل: صوت الأمعاء تتقلص من العطش، بضاحي عذاة: أي مكان أمين بعيد عن العداة، وهو ضامزُ: أي هو يترقب أن يروى عطشه في مثل ذلك المكان وهو يتقرب ممسكا نفسه عن الشرب توجساً.

      [11] صريمة: عزيمة قوية، الخلُ: الطريق الصعب الوعر بين الرمال، أي تجاوزا (الوحشي وأتنه) من ذلك الطريق الصعب، ليردا الماء

      [12] فلما رأي الظلام خيم بسدوله، يبادرهما، كما يبادر الخصم اللجوج المتحفز بخصمه

      [13] بطن ذروة: واد في ذروة بالقصيم، رحرحان، بلدة قريبة من ذروة، المفاوز: الصحارى

      [14] ووصف تلك المفاوز التي نشاأ عليها الليل بخيامه بأنها تشبه الهوادج القائمة على صوف النوق.

      [15] استُذكى عليها: اعتُدي عليها، المخاضُ الجوامز: أي تتقي المعتدى كما تتقي المتألمات من الحمل المسرعات بالفرار من الفحلِ، يريد أن ينزو عليها

      [16] ذو الأراك وشرج: مواضع مر بها الحمار الوحشي وأتنه

      [17] القنّة: أعلى الجبل أو التل، الكراع: الخيل والسلاح: واللواهز: المصوبة المعدّة للطعان ومغردها لهز والمعني أنّ الوحش أراد أن يرد الماء فصده ما رأي من ترصد الصيادين بكراعهم المعدة لصيدهم

      [18] يقول: فاضطرت إلى الصدود عن ذاك المورد الذي هو حوض منكسرٌ وقد حزت في نفسها حزائز من الغيظ والألم

      [19] يقول: واو أن الصيدين أصابوها بسهامهم، لضرّجت بدمائها، الرجائز: مفردها رجيزة وهي ما يزين به الهودج من صوف وشعر، القرام: فراش الهودج، فهو يقول أن الوجش المتضرج في دمه كأنه هودج في زينته من الشعر والصوف الأحمر.