فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      عن البغي والبغاة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

      لست من أولئك الكتاب أو المشايخ، أو من شئت ممن اصطنع الكتابة، الذين يبدؤون كلّ موضوع من ألِف بائه، كأن احدا لم يطرقه من قبل! فمثلا يقرر هنا معنى البغي وما ذكره العلماء عنه، ومثل ذلك من الأمور، فيحشد الآيات والأحاديث والأقوال كأنه ينشأ الموضوع إنشاءً! لكن الأمر قد قُتل بحثاً، فسأقرر ما يخدم الغرض هنا لا أكثر.

      الفقه معناه "الفهم"، لا "النقل"، فإن كان للناقل فضل فهو توجيه نظر الفقيه اليه "فرب حامل فقه ليس بفقيه". والفقه يُعنى الاستدلال، والاستدلال يعني سعة النظر واستيعاب المتغيرات والملابسات والقرائن والدلالات، في حدود الإطار العام للنص الوارد، لا يخرج عنه إلا بطرق التخصيص أو الاستثناء الثابتة في الشرع.

      وقد قررنا، من قبل، الفَرْق بين أصناف ثلاثة[1]: البغاة والغلاة والخوارج. وفرقنا بينهم (في الغالب الأعم إلا النادر) بما أسميته "القاعدة الذهبية" وهي أنّ:

      البغاة يقاتلون ولا يكفّرون

      الغلاة يكفرون ولا يقاتلون

      الخوارج يكفرون ويقاتلون

      وقد ذكرت حينها، في مايو 2014، الأدلة على ذلك، وكرّرتها مرات في مواضع[2]، في المجلد الأول من كتاب "أحداث الشام كما عايشتها"[3].

      ولست هنا معنيّ بالحديث عن الخوارج، فقد كتبت في منهجهم وحركتهم قرابة ستمائة صفحة. ولست كذلك بمعنيّ بالغلاة، رغم إنهم موجودون على الساحة الشامية، يمثلهم عاصم البرقاوي، ومن سار مساره، ممن يعرفهم المطّلع على شؤون الشام. وقد دونت فيهم صفحات تكشف أصل ما تخفى من مذهبهم، غلواً وبعداً عن محص السنة.

      أمّا البغاة، فسنقوم بالحديث عنهم في إطار الحركة الشامية الإسلامية، لا في الإطار الأكاديميّ البحت.

      وأصل البغي في هذا الإطار، قد ورد في القرآن الكريم "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" الحجرات 9. وقد ورد في التفاسير أربعة أسباب لنزول الآية، صحح منها الإمام أبو بكر بن العربي "ما روى سعيد، عن قتادة أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما ملاحاة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر: لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعاه إلى المحاكمة إلى النبي ﷺ فأبى أن يتبعه، ولم يزل بهم الأمر حتى تدافعوا، وتناول بعضهم بالأيدي والنعال، فنزلت هذه الآية فيهم"[4].

      وما يهمنا هنا هو تحقيق مناط البغي في الآية، ودراسة ما حولها من الظروف، وربطها بما كان بعد ذلك من قتال علي ومعاوية رضي الله عنهما.

      يرى الناظر في أصل مسألة سبب النزول، أن طائفتان من المسلمين اختلفتا في أمر من الأمور العادية، أي المتعلقة بالدنيا، حول حق أحدهما عند الآخر. ثم إن كلا الطائفتين، كانتا من الأنصار، من عشائر مختلفة، بعضها أقوى من بعض. وكان الحكم في المدينة لرسول الله ﷺ، أي أأ

      أي بشرع الله سبحانه. وكان رسول الله ﷺ هو المسيطر في دولة المدينة المُمَكّن له ﷺ فيها.

      وقد حدثت هذه "الفتنة"، بين الطائفتين، ونشب الشِجار، فنزل أمر الله سبحانه، بالوقوف في صف الفئة المستضعفة قليلة العدد، المبغيّ عليها، ضد الباغية.

      ثم إذا نظرنا في حال "الفتنة الكبرى" بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وعرفنا أنّ الإئمة الهداة من أهل السنة والجماعة قد عينوا طائفة معاوية رضي الله عنه الباغية. وكانت أرض الشام والعراق والجزيرة ومصر وغيرها، وكانت السطوة فيها لدولة الإسلام التي بدأت تشكل أكبر امبراطورية في تاريخ العالم إلى يومنا هذا. كذلك فقد ورد في حكم قتال الفئة الباغية من المسلمين أنه فرض كفاية أولاً، ىوأنها ليست واجبة عينا ثانية، بدليل تخلف عددا من كبار الصحابة منهم سعد ابن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة.

      فإن قفزنا إلى الوضع الحاضر، لنرى ما يدور على أرض الشام اليوم، وجدنا أن المتعلِق بأحكام قتال البغاة، كما وردت فيما أسلفنا من ملابسات، متعلق بريشة في مهب الريح، لا بدليل واضح صريح.

      فإن الوضع السوري اليوم ليس فيه دولةٌ مُمَكّنة، على الإطلاق، بل إن إطلاق دعوى البغي اليوم هو على أرض يحكم أكثر من نصفها النصيرية، ويسيطر التحالف على بعضها، والخوارج على بعضها، والأتراك على بعضها، وأهل السنة، بشتاتهم وتشتتهم، على بعضها، وليس فيها موضع للشرع حقيقة إلا ما هو من قبيل التزينات عند بعض الجماعات. وفي ظلّ هذا الوضع، تجد أن الساحة منقسمة إلى جماعات، بعضها أكبر من بعض، وبعضها له اتصالات وخطط مغايرة لما يراه الآخر، رغم أن الكلّ يدعى الرغبة في "الإسلام" أما بحق وصدق عاجلاً، وإما آجلا، عن طريق التوسل بالدولة العلمانية الحليفة للغرب، كوسيلة اليه، لظروف كذا وكذا.

      فنحن نرى إذن، أن واجب الوقت هو قتال الصائل الحقيقيّ الذي يدك المنازل ويقتل الأنفس ويفني الأخضر واليابس، وهو النظام، بمعاونة الشرق والغرب جميعا، تحت مسميات مختلفة وهدف واحد، وهو عدم إقامة دولة للإسلام، بأي ثمن كان، وإقامة دولة علمانية حليفة للغرب، ومتواطئة مع الصهاينة.

      فأين في هذا الحال، وقد بسطنا فيه المقال، يقع قتال الباغي، مقدّما على واجب قتال الكافر الصائل؟ حال البغي ليس بقائم أساساً في هذه الظروف، فلا يصح إجراء أحكامه، من حيث أن من ادعى على الآخر البغي، وجب أن يرجِع إلى المؤمنين الذين فيهم من هو أهل للحكم بالبغيّ، كما رجعت عشيرتي الأنصار إلى رسول الله ﷺ بعد أن نزل قتال الباغية المستضعفة قرآنا يُتلى، وكما أجمع أئمة الهدي على أنّ علياً رضي الله عنه كان هو الإمام بحق، فتبعه من أراد إلى قتال الطائفة الباغية.

      أين هذا يا أصحاب الألباب والعقول مما فيه الشام اليوم، أو مما تدعيه الأحرار ضد الهيئة أو غيرها؟! من الذي حكم بأن هناك كائفة باغية أصلاً، ومن هم المخاطبون بقول "فقاتلوا التي تبغي"؟ أهم الأحرار؟ لا يصح لكونهم طرف في النزاع، وليس لهم إمامة كإمامة علي رضي الله عنه.

      هذا، والبلاد اليوم في قبضة الكفار، لا سيطرة للمسلمين عليها، فيكون قتالهم مقدماً على قتال أي مسلمٍ باغ، حتى يكون هناك أرض مسلمة يمكن أن يكون فيها إمام يحكم بالبغي ويعين المستضعف. وأي صرف للجهد في خلاف هذا، هو إهدار للمصالح العامة، واستجلاب المفاسد المتمثلة في استمرار قضة الكفر على البلاد، فما بالك إن كان المُدّعي ممن يرى أن من الكفار من يجب التحالف معه للتخلص من بشار بزعمهم، بل يرى أن التحالف مع الكفار لقتال "الفئة الباغية" مباح شرعا؟ هذا من أضل الأقوال، يشهد الله.

      أين في تاريخ الإسلام، أو في سيرة رسول الله تحاربت طائفتان من المسلمين، مهما كان الخلاف بينهما، وأعان رسول الله ﷺ أحدهما على الأخرى، في وقت حرب، أو في قتال للكفار داخل المدينة؟ هذا والله تنطع من أبرد ما يكون التنطع، بل هو سفاهة واستهانة بالشرع والدين.

      فإن قيل، طلبنا محكمة شرعية لتحكم من الباغي، ليقوم عليه المسلمون فيقاتلوه ويوقفوا بغيه، قلنا، فإن هذا أمرٌ يجب أن يؤجل حتى ينتهي صراع الكفر أصلاً، ومن أراد بعدها أن يأخذ حقه في ظل عدل الإسلام فليتقدم، لن الواجب اليوم هو الاصطفاف معا، باغيا أو غير باغٍ، لحرب النصيرية والصائلين كلهم. وهذا نظر درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فمفسدة بشار أشد من مفسدة دعوى سلب معدات أو مقرات، من مجاهد لمجاهد، حتى إن صحّت. ومصلحة جلب حق من استلب منه سلاح أو مقرٌ، ليست عشر معشار جلب مصلحة دحر النظام وإيقاف بحر الدم السائل، بالطريق الشرعيّ والمنطقي والواقعي الوحيد، وهو القتال، لا الجلوس على حجر الصائل، يوجه "المفاوض" كيف يشاء.

      د طارق عبد الحليم   21 أبريل 2017 – 25 رجب 1438  


      [1]  http://tariq-abdelhaleem.net/new/Artical-73030 راجع كتابنا "أحداث الشام كما عايشتها" المجلد الأول ص 238 وقبلها

      [2]  وقد حاول بعدها صالح الحمويّ، أن يصطنعها لنفسه، بأن وضعها في مربع ملوّن باسمه! لكن عينت بعدها أين وردت وتاريخ كتابة مقالها، فتراجع عن ذلك! والرجل، يعلم الله، قد عاملته، وأحببته ونصرته، كابن لي، لكن، مع الأسف الحقد يُعمي.

      [3]  وقد أخرجت بعده المجلد الثاني http://tariq-abdelhaleem.net/new/Artical-73065 بفضل الله تعالى.

      [4]  "أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي" الجزء 4، مسألة قتال الفئة الباغية، ص 148 وبعدها، طبعة دار الكتب العلمية 2003.