فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الردّ الثمين على اضطرابات القول المبين

       

      الردّ الثمين على اضطرابات القول المبين

      في ترتيب مقاصد الشريعة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله صحبه وبعد

      فقد أخرج ما يسمى المنبر الفكري التابع لحركة أحرارالشام صفحات أسماها "القول المبين في ترتيب مقاصد الشريعة ومصلحة النفس والدين"، روّج فيها، كمقصد خاص للورقة، لموضوع التفاوض مع الأتراك والروس، والهدنة أحادية الطرف، وتلقي الدعم المشروط من يد العدو الغادر. واتكأ كاتب الورقة على أصول ومبادئ، التوى بها، كعادة المنحرفين فكريا، واستخدمها في تسويغ ما قرره أصلاً، كأنما دلّ عليه الدليل، فعاد الدليل خادما لما في عقله لا مخدوما له، وهو ما نسميه "الهوى"!

      فما كان لنا أن نترك هذه الوريقات تزيف أفكار المسلمين، وتضطرب بفهمهم للشريعة أولاً وللواقع ثانيا وللواجب عمله ثالثاً. فكانت هذه الجمل، بتوفيق الله سبحانه، وهو أمر لم يعسر أبدا من حيث أن ذلك "القول المبين" حديث مبتدئ في العلم أصلاً، إنما استعمال المصطلات الأصولية وجشدها، مما امتلأت به كتب الأصول، دون دلالتها على المطلوب، كما سنبين، هو لمجرد الإيحاء للعاميّ بأن الكاتب على علمٍ بما يقول!

      وقد اعتمد ذاك المنبر على عدة أمور:

      1. فقد أسمى ما يقرره الخصم تشويشاً وأسمى أصحابه غلاة ابتداءً، قبل أن يصل إلى ما يقرر ذلك ليحمله الناس على محمل الجدّ.
      2. وضع على لسان الخصم ما لم يقله، دون أن يورد نص الخصم، وفي هذا تخرّص على الخصم وتدليس على القارئ. ومثال ذلك ما قرره على لسان الخصم بأن الأخذ بالرخص في مواضعها هدم لحفظ الدين، ومن ثمّ مدعاة للتكفير! وهذا، إن لم يكن يقصد به أصحاب داعش، لم يقل به أحدٌ ممن يُنسب لعلم، إلا إن كان من فقهاء تويتر!
      3. مناقشة ترتيب المقاصد الشرعية، محاولاً جهده أن يثبت أن حفظ الدين يأتي قبل حفظ النفس.
      4. مناقشة باب الرخص وتوجه النظر فيها، بما يجعلها مستقلة عن المقاصد حينا، ومرتبطة بها حينا آخر.

      ثم ننتقل إلى بيان الخلط والتدليس الذي جاء به الكاتب، عالما أو جاهلاً.

      1. أمّا عن الحديث عن مقاصد الشريعة عامة، فإن الكاتب قد فشل في التفرقة بين "المقاصد"، و"المصالح" في باب التطبيق، وهو ما أشرنا اليه في بحثنا المفصّل عن كناب "مقاصد الشريعة" للشيخ الطاهر بن عاشور[1].

      قلنا "وقد ذكر الإمام قول من فرّقوا بين المقاصد والمَصالح، ونبّه إلى إنه إذا ثَبُتَ أنّ إدراك المَقاصد قد جُعل لتحقيق المصالح معاشاً ومعاداً، فليس من المُجدى التفرقة بينهما، إذ إعتبر أنّ المصالح هي التي ترجع اليها الأحكام الشرعية "وكان ذلك هو الأصل والأساس من وضع كتاب المقاصد، وهو إعتبار المَصالح مناطاً للأحكام الشرعية" الشيخ محمد بن الحبيب بن الخوجة، كتاب "بن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة ج2 ص171. إلا إني قد نحيت مَنحى التفريق بينهما، في مقالي عن التجديد السّنيّ المعاصر، حيث ذكرت "ضَرورة الفصلِ بين ما هو من مقاصد الشرع، وما هو من حِسابات المصالح والمفاسد، ومن ثمّ بين ما هو من المقاصد العامة والكليات الشرعية التي تثبت بجزئياتٍ متناثرة في الشريعة، نستلهمها من الأحكام الشرعية الثابتة، وبين حسابات المصالح والمفاسد التي تتخذ مجالها أساساً في تلك الحوادث التي ليس فيها حُكمٌ شرعيّ خَاصٌ، وإن امكن إدراجها تحتَ قاعِدة كليةٍ أو مقصدٍ شَرعي عامٍ ثابتٍ، وهي ما أطلقَ عليها العلماء "المَصالح المرسلة"، فأقمت التفريق على أساس عمليّ لا نظرىّ، وذلك لمّا رأيت من أهمية ذلك في عَصرِنا، إذ إعتمد كثيرٌ ممن هم محسوبون على التيار الإسلاميّ وعلى الفِكر الإسلاميّ، على تقصى حسابات المصالح والمفاسد من حيث هي هي مقاصد الشرع الحنيف، فصحّحوا الزائف، وزيّفوا الصحيح.."

      والتفرقة في هذا الموضع يتضح بها فهم مجال كلا من المقاصد وحسابات المصالح والمفاسد، دون خلط بينهما، يؤدى إلى استخدام أحدهما محل الآخر، فيطبق كليا في محل جزئي أو جزئيا في محل كليّ.

      1. أمّا عن سبب إيراد الضرورات في كتب المقاصد، فليت شعري، ماذا يريد الكاتب أن يثبت هنا؟ أنه لا لزوم للضرورات بالذات، ويُكتفى بالحاجيات والتحسينيات؟ ثم، أين الخلاف الذي رأيناه على مرّ العصور في ترتيبها وتصنيفها؟ دعوى بلا دليل ولا بيّنة، ينقضها ما أتى به في الفقرة التالية.

      وصحيح أنّ المقاصد هي قواعد كلية توضح منظومة الأحكام الشرعية ككلّ، لكن إدعاء أنها لا يؤخذ منها حكم مستقل عار عن الصحة، فإنها مصدر ترتيب المصالح، أفقيا (الخمسة مقاصد) ورأسيا (الثلاثة مراتب)، فينتظم منها منظومة من خمسة عشر درجة متوالية للتشريع، حين لا يثبت نصّ جزئي في المسألة، وهي ما يسمى، إن نسي الكاتب، المصالح المرسلة، وهي دليل قائم بذاته، لولا تلك المنظومة ما أمكن إعماله.

      1. أمّا عن ترتيب المقاصد العامة للشريعة، فقد حالفت الخيبة الكاتب في إثبات ما قرر، إذ حكي أقوال فطاحل الأصول كالآمدي والغزاليّ والشاطبيّ، وأنهم وضعوا حفظ الدين كأعلى مقصد للشريعة، ثم يستدل بكلام أورده عن مؤلف محدث، د يوسف الجديع، في أنّ ترتيب الضرورات، بينها وبين بعضها ليس فيه قانون يُرجع اليه! وهذا أمر ليس بصحيح ولا بدقيق. فإن الأمثلة التي أوردها في الفقرة التالية من ترخصات. كما سنرى

      والأسخف من هذا إدعاؤه، بل افتراؤه، على الشاطبيّ أن له نصان اختلف فيهما في ترتيب المقاصد، والناظر يرى أن الشاطبيّ في كلا النصين، قد وضع حفظ الدين في الرتبة الأولى في كليهما، وهو موطن النزاع، فاستدل بما هو دليل ينقض قوله!

      1. أمّا عن موضوع الترخص، فقد أساء الاستدلال، وخلط غثا بثمين. فإن الرخص، كالعزائم، جاءت ثابتة بنصوص في الشرع، كإباحة أكل الميتة وشرب الخمر للمضطر، أو النطق بكلمة الكفر ظاهرا لحفظ النفس، أو التيمم. فليس له أن يدّعى الترخص دون نص واضح. وإنما الأمر هنا يتعلق بوضعين، الأول عدم وجود نص جزئي يثبت رخصة أو عزيمة، أو حكم يقع على مناط معين، فيُفتى فيه بما يناسبه، ولو ظهر للعيان إنه ترخص فيه. والحكم في الحالين هو "عدم العدول عن النصّ". فإن الكاتب، قد أدرك هذا، فقال متدسساً "الهدن والمفاضات عند تحقق شروطها وضوابطها"، وهنا محل المسألة ومحل النزاع الحقيقيّ، "شروطها وضوابطها". ثم إذا بالكاتب يجعلها من "الرخص"! هذا نوع من الجعل بمعنى الرخص وبتحقيق مناطات الحكم بشروطه وضوابطه معا. ومن هذا الموضع يأتي ضلال وتدليس ما أتى به الكاتب من استعمال رخص ثابتة بالنصّ، على أمر لا يمت للترخص بصلة، وهو "القبول بمفاوضات مع العدو، والدخول تحت وصايته وقبول هدنة من جانب واحد" ويسميها رخصة!

      ولو نظرنا للأمثلة ذاتها، لعرفنا معنى التدليس. فإن التيمم استبدال للوضوء، الذي هو مكمل للصلاة، التي هي ضرورة في حفظ الدين. فالتيمم لم يحل محل الصلاة، لكن حل محل الوضوء. ومكملات الضرورات لا تأخذ حكمها عند العارفين. كذلك فإن رخصة أكل الميتة وشرب الخمر للمضطر، هي من باب تقديم الضرورة على التحسين، فإن التعفف عن أكل الميتة وشرب الخمر من باب الواجبات التحسينية التي يُقصد بها إتمام الأخلاق. ثم مثال نطق كلمة الكفر، فإن الله لم يجيز "الكفر" لحفظ النفس، بل "النطق الظاهر"، فلو كانت هناك شبهة الكفر الحقيقي ما أبيح نطقها بلا خلاف، ومن ثم أبيح النطق بالكلمة لا العمل المكفّر. ثم، استعمال كلمة "تعطيل الحد" في موضوع عام الرمادة، وهو تعبير بارد لا يفى بالفرض، فإن عمر رضي الله عنه لم يعطّل حداً، وما له أو لغيره أن يعطل حداً، إنما مال إلى تقوية شبهة الجوع في مثل تلك الظروف، وهو من المعقول الواضح في عام مجاعة، ولمّا كانت الحدود تدرأ بالشبهات "درأ الحد"، ولم يعطّله. لكن من أين نأتي بعقول لهؤلاء تعي عن الشرع ...!

      1. والمسألة الأصلية هنا، وموضع النزاع، ليس في ترخص أو ضرورة أو ما ساقه الكاتب تشغيبا وتشويشاً، جاهلا معنى ما يقول. لكنه يتعلق بمناط تلك الهدن، وظروف المفاوضات، وتحقيق الشروط التي عقدت فيها الهدن في السنة، وأصول التفاوض المشروع مع العدو، ورجحان المصلحة والمفسدة فيها.
      2. كيف تكون هدنة مرخّص فيها إن كانت من جانب واحد، يراعيها المجاهدون، ويخرقها الروس والنظام كلّ ساعة في كلّ ناحية بالبلاد؟ أي شرع في هذا وأي تخفيف على الشعب؟
      3. كيف تكون مفاوضة على طاولة نصبها العدو، وهو الأقوى والأكثر تمكناً، بعد أن قبلتم وقف القتال، وانتظار الحلّ السلميّ؟ أين الورقة التي تضغطون بها على عدوكم؟ إن مجرد القبول بالتفاوض، في ظل هذا الوضع المفتت داخليا والتشطي الحاصل بين الفصائل، لهو صكّ فشل وتسليم لما يريده العدو من دولة علمانية وإعادة ضخ الحياة في النظام.
      4.  متى جاءت مفاوضات، تحت تلك الظروف بما فيه صالح الشعب، أبداً، من قبل؟ هذا لون من عمى البصر والبصيرة، وتغاضي عن السنن، لا استخدام رخص وترتيب ضرورات.
      5. أي عقل وأي مصلحة تقول بأن هذا التفاوض المزري الضعيف، المصحوب بالمال الملوّ من الداعن، الذي هو العدو، وقبول عدم التصنيف خوفا وطمعا، أفضل وأكبر مصلحة "للشعب وليس لقادتكم" من التوحد مع الفصيل الأكبر في الساحة، واستمرار القتال، حتى يدرك العدو أنه في ورطة حقيقية، فيسعى لحلّ مرض.

      والكاتب قد شرّق وعرّب في تناول أمور لا علاقة لها بالمسألة، يصارع طواحين هواء، أسماها الغلاة والمتنطعين، ليصل لتحليل هدنة البغاة، وتفاوض الضعفاء على أنه رخصة مشروعة مقبولة، وهيهات هيهات، فما جاء إلا بحشو فارغ ليس فيه أثارة من علم ولا فقه.

      د طارق عبد الحليم

      12 فبراير 2017 – 14 جماد أول 1438


      [1]  "الإمام ابن عاشور ومقاصد الشريعة" http://tariq-abdelhaleem.net/new/Artical-19036