﷽
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
فإن من تشكل قالبه العقلي ودهاليزه النفسية من خلال تحريفات وتأويلات، اصطنعها لنفسه، أو تابع فيها غيره، لن تجد له دواءً شافيا. وهذا ما نراه من محمد مختار (الشنقيطيّ نسبة للبلد لا لعائلة العلماء الشناقطة!)، صنيعة الجزيرة، كل صبيحة أو ضحاها، ينثر سموماً يخيّل للعامة من الجهلاء أنّ فيها علمٌ مُضمر، وما هي إلا سحرٌ يؤثر!
وآخر ما طلع علينا به هذا المختار، من جزيرة قطر أو قطر الجزيرة، هو تعريف جديد للإيمان والعقيدة، فزيف العقائد كلها، وجمعها في كلمة واحدة مجملة، هي لفظ الشهادتين، فكان الأول من نوعه والفريد في جنسه من المخلوقات المخلولات التي عبثت، أو حاول أن تعبث، بعقائد المسلمين، على مر أربعة عشر قرناً ويزيد. ونسأل الله أن يكفينا شر هذا المخلوق، إذ شغلنا بالتافه عن المهم، وبسواقط الفِكَر عن العلم.
قال هذا "المحتار" في عَشْرِيته الجديدة:
- الإيمان المفتوح اختيارٌ شخصي دون اختبار من الآخرين، واتفاقٌ على معنى عام (الشهادتان مثلا) دون خوض في دقائق مدلوله.
- عرف الصحابة والتابعون الإيمان المفتوح ولم يعرفوا العقيدة المغلقة، وانشغلوا بتحقيق مقتضيات الإيمان في عالم الشهادة عن الجدل في دقائقه المنتمية إلى عالم الغيب
- ظهرت العقيدة المسيحية بعد أكثر من ثلاثة قرون من الإيمان المفتوح في (مجْمع نيقية) عام 325 م، وظهرت العقيدة الإسلامية بعد أكثر من أربعة قرون من الإيمان المفتوح في (الاعتقاد القادري) عام 433 هـ.
- العقيدة تفسيرٌ ضيق للإيمان تحميه سلطة سياسية واجتماعية، وتسويرٌ لذلك التفسير -دون غيره من التفسيرات والفهوم التي تظهر في مجتمع المؤمنين- بسور من القمع والزجر.
- الإيمان إجمال والعقيدة تفصيل، الإيمان بساطة والعقيدة تعقيدٌ، الإيمان فطرة والعقيدة تكلُّف، الإيمان باب مفتوح والعقيدة سور منيع، الإيمان يخدم الإنسان، والعقيدة تخدم الدولة.
- الإيمان (لا إله إلا الله محمد رسول الله) دون جدل مفرِّق، أو مراء مولِّد للعداوة.. والعقيدة تفويضٌ، وتأويلٌ، وتعطيلٌ، وتجسيمٌ، وتنزيهٌ.. وفرقةٌ ناجية وفرقٌ هالكة.
- الإيمان يجمع المؤمنين في جسد واحد، ويقرِّب غيرهم إليهم بأخوة الأرحام الإنسانية والقومية والوطنية. والعقيدة تفرِّق المؤمنين شيعاً، وتُبعد عنهم غيرهم من البشر.
- لم يعرف التاريخ الإسلامي الاضطهاد الديني لغير المسلمين، لكنه عرف الاضطهاد الطائفي للمسلمين، وتلك ثمرة من ثمرات طغيان العقيدة على الإيمان.
- أهل الإيمان منشغلون بزيادة عدد المسلمين بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، وأهل العقيدة منشغلون بنقص أعداد المسلمين بالتكفير والتشهير والتنفير.
- إذا رأيت علماء المسلمين منشغلين بـ(الفرْق بين الفرق) و(الفصْل بين الملل والأهواء والنحل) فاعلم أنهم قد (فرَّقوا دينهم وكانوا شِيعا).. وأنهم شغلتْهم العقيدة عن الإيمان
ولا ندرى أي شيطان رَكَب هذا المحتار، لكن هذا الذي قال ضلال فوق ضلال تحت ضلال، والعياذ بالله تعالى.
- فنحن لا نعلم من أين جاء بالتفرقة بين ما أسماه الإيمان "المفتوح" والعقيدة! ولا نعلم ما جعله مفتوحاً؟ أيعنى فتح الإيمان أنه يشمل كل خير وشر، ردئ وحسن، صحيح وباطل؟ ألا يقول الله تعالى "قل لا يستوى الخبيث والطيب"، وقال "أفنجعل المسلمين كالمجرمين"؟ كيف نسوى بين الخير والشر إذن يا "محتار"؟ أنحصر دين الله، الذي أتمّه على محمد ﷺ، في ثلاثة وعشرين عاماً، منها عشرة أعوامٍ في شرح "عقيدة" المسلمين و"مجمل إيمانهم"، ثم فصّل هذا الإيمان وخرّجه إلى أعمال في ثلاثة عشر عاما بعدها؟
- هل هذا التفرقة، التي تختصر دين الله كله، بأسمائه وصفاته وربوبيته على خلقه وألوهيته ووجوب طاعته وحده، في كلمة هي عنوان القبول بالإسلام "لا إله إلا الله"، مع إغفال كلّ ما تحمل من معان، وتتطلب من مشاعر وخشوع وخنوع وضوابط شرعية أتت بها سنة محمد ﷺ؟
- كيف نعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؟ هل يكون من اتبع الرسول هو من قال لا إله إلا الله، ثم أنكر أن أحكام الله واجبة الطاعة، فحاربها وحارب من أراد الخضوع لها؟ هي جهمية بغيضة صفيقة أتيت بها يا "محتار".
- وقد عرف الصحابة دقائق تفاصيل عقائدهم، بحذافيرها، إذ من أين أتيت بأنهم لم يعرفوها، بل جهلوها؟ ألأنهم لم يتحدثوا بها كما تحدث بها المتأخرون عنهم؟ سبب ذلك يا "محتار"، أنهم أهل اللغة والبيان ومن أرسل إليهم الرسول بالقرآن، فعرفوا تفاصيل العقيدة، ولم يكن بينهم من تحير حيرتك، والتوى التواءك، حتى جاء عصر البدع، عصر التفلسف البارد والكلام الغامض، وضعفت لغة الناس بالفتوحات، فصار ضروريا أن تُكتب العقيدة، وأن يُفصّل ما فيها، ليميز الخبيث – من أمثالك – من الطيب. هذا ما كان، لا مجرد أنهم سمعوا كلمة لا تحمل معنى فأقاموا بها دولة ملأت الأرض عدلاً، إلى حين جاءت البدع. فلم الافتراء على صحابة المصطفى بالجهل يا "محتار".
- ثم، أتمثل دين الله، الذي تكلف بحفظ دينه فقال "وإنّا له لحافظون" بصيغة الجزم، بدين النصارى الذين بدلوا دينهم وألّهوا نبيهم؟ أتزعم أن دين الله اليوم قد شابه دين النصارى تحريفا وتبديلاً؟ ثم لماذا اخترت يا محتار نقطة الفصل عند العقيدة القادرية؟ ألم يكن قبلها كتاب التوحيد لابن خزيمة؟ وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وكتاب الصفات للدارقطني، ومثله لابن منده، وغيرها كثير في المائة الرابعة، قرن قبل الجيلاني؟ فما غرضك من إرسال العقيدة وشروحها قرنا بعد ذلك؟
- ولأن عرفت ما في هذه الكتب، يا "محتار"، لوجدت إنها كلها تعتمد على أحاديث رسول الله ﷺ، فهل معنى التحريف الذي تقول أن نترك ما جاء عن نبينا ﷺ لنستمع إلى خرافاتك وجهالاتك وجهميتك، اليوم؟ أين نذهب بتراث نبينا ﷺ؟ نعم.. أعلم ما تقول أنت والغنوشي والترابي وعمارة وأمثالكم من المبطلين: أن السنة ليست بحجة وأنها لا يصح الرجوع اليها، وأفضلكم من يستثني المتواتر لا غير!
- نعم كان الإيمان بسيطا، كاملا في عقول الصحابة، كما أسلفنا، لكن كما ظهر علم الحديث لمكافحة الوضّاعين، ظهرت كتب العقيدة تخلّصها مما شابها من مُفتريات على الله. فإن عجز عقلك عن استيعابها، فلا تقرأها، واكتف بالتسليم. لكنك لا تقف عند هذا، بل تمرر في كلامك السفيه أن العقيدة تخدم الدولة!! سبحان الله.. هنا مربط الفرس. اللؤم والخبث والتدسس بالشرّ، كما سأبين بعد ..
- فهذا التسلسل الذي أراد المحتار أن يمرره على الخلق:
- ربط المحتار العقيدة بقول لا إله إلا الله مطلقا بلا فهم ولا حدود ولا شروط، فخالف كل من سبق من الإئمة.
- لم يذكر أولاً إن كانت العقيدة التي يقصدها تشمل إقامة أحكام الله وطاعته، أم لا.
- ثم ذكر تعقيد العقيدة وبساطة الإيمان، ومرر في عباراته (رقم 5، وما بعدها) أنها "تخدم الدولة"! إذن هي شرّ ولا يجب أن تتدخل في الدولة، إذ خدمة الدولة يتبعه التعقيد الملازم للعقيدة .. !
انظر كيف يأخذ المحتار بيد العامي، ليوصله إلى أن الأحكام الشرعية لا لزوم لاتباعها، فهي تكلف يخدم الحكام لا الأفراد! ألا ما أخبثك، لكن قيّد الله من يفضح سريرة أمثالك.
- ثم نسأل المحتار: هل الإيمان الذي "يقرّب المسلمين من غيرهم بأخوة القومية والوطنية .."، مقيّد بما ورد في الكتاب والسنة عن التعامل مع أهل الكتاب، والمحاربين والمعاهدين، أم إنه الإيمان "المفتوح" الذي جردته لك وساوس شيطانك، فخرج عن كلّ هديّ للنبوة؟
10. ثم قد رأينا علماء المسلمين قد انشغلوا بالذب عن السنة وبيان الفرق الضالة على مدار تاريخنا، أفنترك ميراثهم النقي لنتبع حديث لهوٍ من جاهل متعجرف في القرن الواحد والعشرين؟
وقد اكتفيت بعشرية تحرق ما أتى به من سحر، ونحن متربصون بما يخرج من سمومه ..
د طارق عبد الحليم
1 يناير 2017 – 3 ربيع ثان 1438