فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      إن في حلب لعبرة ...

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه

      "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" العنكبوت

      لم يكن في الحسبان أن تتحول حلب إلى عبرة يعتبر بها المتفرقون، بل كان الأمل أن تكون عبرة يعتصم بها المخلصون ويرنو إلى مثالها الصادقون .. لكن قدّر الله وما شاء فعل، والعبرة هي نتاج التجربة والخبرة. ومن لم يعتبر، فهوأعمى البصيرة، أغلف القلب، ميت الضمير.

       قبل كل شئ، يجب أن يكون المسلم على علمٍ يقيني بأنّ ما يحدث على الأرض في دنيا الناس لا علاقة له بدين الله، تخطيئا أو تصويباً. فإن دين الله حق، مهما حدث على الأرض، ومهما جرى بين الخلق، ومهما علا من علا أوسقط من سقط، نجا من نجا أو هلك من هلك. فسنن الله، في خلقه وأمره، جارية في مسارها المرسوم، وقدره نافذٌ إلى منتهاه المعلوم، لا تبدله قوى بشرية، ولا تغيره خطط في سر أو علانية. وحسن الظن بالله هو مفتلح الإيمان "وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين " فصّلت

      ومع التسليم بالقصور في الحصول على بعض المعلومات من الساحة، الذي سببه عدم وضوح البيانات، وتسييس المعلومات المنشورة، وتكييفها حسب هوى مُصدريها، وإخفاء الكثير منها بدعوى الأمنيات (وهي دعوى الدول العلمانية سواء بسواء حين تكذب على شعوبها!)، وليس بسبب وجودنا، فيزيقيا جسديا، خارج أرض الشام، كما يشوّش بعض عديمي العقل والحجة، فإن هذا لم يعد عائقاً عن الحصول على أية معلومات آنية، بل أسرع ممن هم في بعض جهات الساحة بالفعل، أقول رغم هذا القصور، فإنّ كم المعلومات المتاحة، والقرائن المرصودة، يُمكّننا من رسم صورة لما يجرى، أقرب ما تكون إلى الحقيقة، التي يعزّ معرفتها كاملة على أية حال.

      وقعت معركة فكّ حصار حلب الأولى، بمجاهدي الخارج، وتجمعت فيها القوى، ولم يكن ينتظر العدو هذا التقدم السريع الرهيب، رغم كلّ العقبات التي أتى بها النظام وروسيا الحمراء معه. وكانت صدمة على العدو، وبشرى للمؤمنين. ثم توقف التقدم فجأة، بلا مبرر ظاهر. بل بدأ النظام يستعيد ما حرره الأبطال بدمهم وتضحياتهم.

      ثم جاء دور "درع الفرات"، هجوم على الراعي، ثم جرابلس، لتحقيق أهداف تركيا في طرد الأكراد والمُسمى محاربة داعش. وانضم لهذه العملية كثير من الفصائل، منها ما كان لدنيا يصيبها، ومنها ما كان لتحرير قراه من داعش والكرد، وكان منهم بعض الأحرار الذين أتوا من إدلب. وانشغل الناس بجرابلس. وتوقفت عملية فك الحصار الأولى.

      ثم ثارت فتنة القتال بين الأحرار وجند الأقصى، فشغلت حيزاً كبيراً من الوقت والجهد وصرف الاهتام عن حلب المحاصرة، وعن غيرها، حتى تقدمت فتح الشام بالحلّ على قدر ما هو متاح من خيارات.

      ثم بدأت حرب فكّ الحصار الثانية، بعد جولات عديدة فاشلة لعمل ما أسموه بالإندماج، ومحاولة رأب الصدع في الصف السنيّ، إن صح أن يقال إنه سنيّ خالص ابتداء.

      وإن عدنا في الزمن قليلاً، وجدنا أنّ أول مسمار في نعش الإندماج، كان ما أصدرته حركة "أحرار" الشام، من مباركة فكّ الارتباط بين النصرة والقاعدة، على أنها خطوة أولى، يجب أن يتلوها فكّ الارتباط الفكريّ! ويشهد الله ما رأيت مثل هذا من خبث وتميع وتلون ونفاق. فإنّ هؤلاء الذين طلبوا فك الارتباط أولاً، لم يقولوا إنها خطوة أولى! ثم لا يعرف أحد، إلى اليوم معنى الخطوة الثانية، أهي فك الارتباط عقديا، بمعنى ترك العقيدة التي عليها القاعدة، أم ترك فكرة جهاد الدفع أصلاً، والاستسلام للداعم الغربي؟ وكان هذا كله من عمل جبهة لبيب النحاس، الخائن لبلاده، اللاعب دور الوسيط بين الغرب الذي هو بيبه، وبين القوى التي وقعت في شباكه من قيادات "الأحرار"، مع الدعم الفكري التافه الذي قدّمه له أمثال أيمن هاروش وشريفة الفاضل وعلى العرجاني، ومن تبعهم من شلة صبيان العلم التويتري، مع تصفيق وتطبيل من بعض "شخصيات الساحة" ممن لا ثقل لهم على وجه الحقيقة، بل ومن هم من أعضاء شورى جبهة الفتح (وإن قيل إنه معزول). وأصبح العسكريّ تابع للسياسي في تلك الحركة، ومشى الشرعيّ في ظلّ السياسيّ، كما هو في كافة حكومات العرب. على كلّ حال، فإن حقائق انهيار موضوع التوحد والاندماج، يجسّد أولا العقلية العربية، سواء إسلامية أو علمانية أو ماسونية أو ماشئت، فكلهم نشأ في نفس البيئة ورضع نفس العُقد النفسية والتورمات الذاتية. ثم إن الحقائق عمّا حدث بالضبط، ستخرج للناس قريبا ولا شك، فالأمر أكبر من أن يُدفن بليلٍ بدعوى الحرص على "التوحّد"! وقد بدأت ظواهرها تتضح في عتاب الشيخ أبو عبد الله الشامي للدكتور المحيسني أمس.

      على كل حال، هذا موضع يحتاج كثير بيان وتحليل يخرج بنا عن صلب هذا المقال. لكنه ضروريّ لفهم دوافع ما حدث في كواليس الساحة مما أدى لكارثة حلب اليوم.

      ثم، اجتمعت قوى المجاهدين، مرة أخرى، تحت الضغط الشعبي والإسلاميّ داخل الشام وخارجها، لعملية فك الحصار الثانية. لكنها لم تلق نصيبا أفضل من سابقتها، بل توقفت بعد فترة قليلة، بسبب غير معروف، ثم تدهورت الأحوال بشكل سريع، ولم يستجب أحد لنداءات فتح الشام بطلب دعمها، وسارع أبو بدر الفاروق أحرار، لواء كتيبة في أحرار الشام، بتفويض عمر رحمون، أخزاه الله، لعمل اتفاقية التسليم.

      ووصل الأمر إلى أن بدأ الانسحاب والتخلي عن حلب، يوم الإثنين الماضى، بعدما رسم عمر رحمون أخزاه الله الخارطة، بناء على توجيهات لواء أحرار الشام، رغم توسلات جبهة الفتح بطلب دعمها حتى لا تُخلى الساحة للرافضة والنصيرية والروس، ومع استمرار فتح الشام في قصف النصيرية. لكن، كما قال مجاهد من أرض الشام "لا حياة لمن تنادي". ولا يعرف أحد ما جرى داخل مجلس قيادة حلب، لكن الغالب أن فتح الشام قد استُبعِدت من الاقتراع.

      وخلت حلب من السنة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

      ما أراه، على قدر ما وصلني من معلومات، وما رأيته من توجهات وأطروحات متميعة منذ فترة على الساحة، أن الداعم، الذي اخترق صفّ أحرار الشام، من خلال لبيب النحاس وشلته، كان له دور أساسي في إنجاز عملية التسليم، وعدم دعم فتح الشام في فكّ الحصار، كما كان لهم دور رئيس في منع عملية الاندماج والتوحد من قبل.

      ثم لا ننسى ما نشأ داخل حلب المحاصرة من ملوك مناطق، بالمئات، يسيطر كلّ منهم على حيّ أو منطقة ولا يقبل بعمل غيره فيها، فهي حكرٌ عليه. فهؤلاء كانوا حصان طروادة، أو الطابور الخامس في الداخل، جزاهم الله شرّ ما يجزي به الخائنون.

      ولا شك عندى أن هناك في الأحرار من الجند من هم على إخلاص وتفانٍ، لكن هؤلاء الجنود لا يتصوروا ما يمكن أن يحاك خلف الكواليس من كوابيس. فإن رجالا مثل النحاس وشلته، قد تدربوا على لغة الخداع وبيع الماء في البحيرات العظمى! لكنّ التعصب ووهم الطاعة مرضٌ عضال.

      يقول البعض: إن انعدام الثقة بين جبهة الفتح والأحرار هو سبب الفشل في الأمرين، الاندماج وحلب. فمن ناحية، ترى الأحرار أن الفتح أهل غلوٍ وتكفير، وأنهم في ذلك من أتباع البرقاوي "سيف التكفير" المُسلط، إلا على الدواعش، ومن ناحية أخرى ترى الجبهة أنّ الأحرار أسرى للداعم، من خلال شلّة النحاس و"مفكّريه". فالسؤال هنا هو: هل طلب التخلى عن الداعم وتجريد القرار داخليا هو غلو؟ ثم إننا رأينا كيف أنّ جبهة الفتح قد اتُهِمت بأعراض التميّع صراحة، كما صدر من البرقاوي، وهو ما يبرره البعض بانفصال مخلصي القاعدة مثل أبا جليبيب وأبا خديجة، اللذان هما من تلامذة ومقلدي البرقاوي. لكن، وبنفس المعيار، فإننا رأينا أنّ بعض من أصابتهم جرثومة التميع لاختلاطهم بشلة شريفة وهاروش، مثل د مظهر الويس، قد استقلوا عن الجبهة.

      لكني، حسب ما استنبطت مما بين يديّ من معلومات، أنّ موضوع فك الارتباط بالداعم، هو أمرٌ مرفوض تماما في حركة الأحرار، ليس كما حدث في ارتباط النصرة مع القاعدة، والتي أظهرت فيه النصرة مرونة تامة، رغم اعتراض البعض، وبينهم العبد الفقير وقتها، على هذا الأمر.

      ثمّ إن موقف بقية الفصائل كجيش العلاليش فإن الدور السلبيّ الذي قام به أشدّ نكراً من أن يتدخلوا بالفعل، وقد رأينا بعض فصائل كالجيش الحر يضنّ بأسلحته على غيره، ويغلق عليها مخازنها، كأنها درّ مكنون لا يصح استعماله!

      هذا غاية ما يمكن استنباطه مما هو بين أيدي الناس من معلومات. والباقي أن نتساءل، ما هي العبر، وما هو الحلّ؟

      أما العبر فمنها أن الاعتماد على قوى الغرب ووعوده وأمنياته إنما هو وسوسة شيطان زأوهام منهزم جبان. فإنه لم يحدث من قبل، ولا مرة واحدة، أن قدّم الغرب ما فيه مصلحة للمسلمين، على وجه الحقيقة، حتى ولو استغنوا عن ثوابت دينهم كلها، ولكم في الإخوان مثال حيّ قائمٌ شاهد.

      كذلك من العبر أنّ الإفراط في الثقة وحسن الظن بالغير، بعد أن تظهر منهم خيانة أو تأرجح بين حقٍ وباطل، لا يصلح في قيادة المسلمين اليوم، بأي معيار من المعايير.

      كذلك أن الاعتماد على القوى الإقليمية الكافرة، مثل حكومات السعودية والامارات وتركيا، لا يُقدّم للمسلمين حلا ولا شبه حلّ، بل يوقع البلبلة بينهم ويستقطب منهم من يسيل لعابه للدراهم، بعد أن يجد له "الشرعيون" و"المنظّرون" الأشاوس ما يتكئ عليه في قبول الدعم.

      أمّا عن الحل فهو يتلخّص في أمور ثلاثة،

      أولها توفيق الله سبحانه وإعانته، والدعاء بأن يرفع عن المسلمين والمجاهدين غضبه بفرقتهم وتشتت أغراضهم.

      والثاني تصحيح النية بأن يجعل المجاهدين نيتهم إعلاء كلمة الله وإسقاط الطاغوت، لا منصباً في حكومات تلفيقية أو مال مُدّخر من دعم مُفترض!

      والثالث تصحيح القيادة، واستبدال من انحرف منها، بالتراضي أو بالقوة، ولا فرق. وهم ثلة قليلة بحمد الله، حدث أن تحكّمت بمفاصل أساسية. فإن ما يحدث في بعض الفصائل هو صورة مصغّرة لما يحاربه المجاهدون حول العالم من فشل إداريّ وسياسيّ ومطامع دنيوية مستترة حينا وظاهرة أحيانا أخرى.

      إن من الواضح أن توحد المجاهدين كلهم، وأعنى الجنود المقاتلين، لا القيادات، هو الحلّ الأوحد، لا حلّ سواه. وهذا لا يتم إلا بأن يستيقظ المجاهد المحارب في سبيل الله، فينظر بعين الله، لا بعين فصيله، ولا قيادته، ولا كم يتقاضى هنا أو هناك. ذلك هو الجهاد في سبيل الله.

      ونحن، مهما جهدنا في القول، فلن نكون أحنّ ولا أقرب لأهلكم منكم يا مجاهدي الشام المخلصين، فانبذوا من دعا لفُرقة، ومن تخلى عن استقلالية القرار، فإن فعل هؤلاء هو عين ما ننكر على حكام العرب، إلا قليلاً.

      اللهم اغفر لي إن أخطأت واجعل كلماتي مصدر عون إن أحسنت.

      د طارق عبد الحليم

      16 ذو القعدة 1438 – 16 ديسمبر 2016