فقهاء الزمان .. ومستقبل الفقه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
تعودنا على أن نلقى بثقل ما يحدث لأمتنا المفتتة المنهارة على أسباب عديدة، مثل تدخل الغرب، فساد الحكام، ضعف الشعوب، قلة الدين، المعاصي والفسوق، ترك الجهاد. وهي كلها أسباب متشابكة يعضد بعضها بعضاً وتتداخل، حتى يضطرب الناظر، أيها السبب وأيها النتيجة! لكنى، ويا أسفاه، لا أرى منها سببا أحسبه لا يقل خطورة عن تلك الأسباب، وهو أحوال المفتين والمشايخ و"علماء الأمة"، بمعنى صلاحيتهم للتصدى لنوائبها ومعضلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، فإن العالم لا يُصلِح حتى يَصلُح.
وأزيد الأمر بياناً.
لا شك أن عصرنا اليوم، خاصة منذ النصف الثاني من القرن الماضي، لا يشبه من قريب أو بعيد، بقية العصور منذ أبينا آدم عليه السلام، إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، التي أتت بطامة القوة النووية، ثم التطور التكنولوجي الهائل في عصر النت، والرحلات الفضائية والأقمار الصناعية، وكافة ما تبدّل في العقود القليلة السابقة، بوتيرة أسرع مما تطور الزمن في عدة القرن التي تسبقها، معا.
وهذا التطور الهائل، يجب أن ينشأ عنه تغيّر في متطلبات وقدرات العالم الفقيه الذي يمكنه، في عالم اليوم، أن يتصدى لنوازل الأمة وبلاءاتها، إلا لدى من أصابه خلل في الرؤية وضعف في البصيرة واضطراب في الفهم.
أيشك عاقل أنّ مفتي أيامنا هذه وعالم زمننا هذا، يجب، بل يتحتم ويلزم، أن يكون من أصحاب الكفايات والكفاءات التي تختلف عن قدرات وكفاءات عالم القرن الخامس أو السابع أو الحادي عشر أو الثالث عشر الهجريّ؟
هذا الذي قررناه، لا يجب أن يكون محل جدل أو نزاع، بل هو مسلمة من مسلمات التطور الإنساني، الذي أكّده كتاب الله العزيز، حين أوكل للإنسان، إنسان كلّ زمان، أن يبحث عن مصادر المعرفة في زمنه، وأن يتعرف على آيات الله، التي يستحدثها البشر بفضله تعالى، لا بمجرد جهدهم ونظرهم "سنريكم آياتنا في الآفاق وفي أنفسكم".
ويلزم مما ذكرنا، أن تكون القاعدة العلمية التي ينبنى عليها مشروع الفقيه أو العالم، تختلف في بعض جوانبها، مع اختلاف المتغيرات في معطيات الزمان، وفهم متغيراته، ومواكبة القدرة العقلية والكفاءة العلمية لما هو مناسبٌ لعلوم الزمن، على مرّ الزمن.
لا أظن أن زمننا هذا يمكن أن يُكتفي فيه بأن يكون العالم الفقيه، متمكنا في علم التوحيد، أو في علم المصطلح، أو أي من علوم الشرع، دون أن يكون على قدر عال من التحصيل في جانب من الجوانب التي ترقت فيها علوم البشرية. هذا لا يكون. بل إنها نتيجة كارثية، أن يكون فقيه اليوم، نسخة من فقيه القرن الرابع الهجريّ. لن يُخرج مثل هذا الفقيه، الذي ما تمرس عقله يوماُ برياضيات أو معادلات أو مركبات ميكانيكية أو كيمائية، أو دراسة متخصصة في تاريخ أو جغرافيا. وبمختصر العبارة، ألا يكون من أصحاب "المؤهلات" التي أصبحت اليوم هي نسيج الحياة اليومية لكافة الخلق، مسلمين وغير مسلمين، شرقا وغرباً. بل إن عدم ذلك يجعل مثل هذا المفتي "نصف أميّ" يصلح أن تعود به ماكينة الزمن التي تصورها هـ.ج. ويلز، قرون عدة، يفتي أهلها!
أن يكون فقيه زماننا طبيباً، أو مهندساً، أو مبرمِجاً، مع كونه دارسا للعلم الشرعيّ، متبحراً في الأصول والفروع، هو ما يجب أن تتوجه اليه همم الجيل القادم ممن يتصدى لإصلاح ما أفسدته الأجيال الماضية، ومنها أجيال المفتين و"العلماء" العلاليم، الذين لا خلفية لديهم في علوم الزمان، ومنهجية العلم.
أصبح من الضروري أن نرفض، بكل حسم، من زعم أنه دارس للشرع، وأميّ في غير علومه، فإن زمان هذا الصنف قد فات، ولم يعد له مكان في دنيانا.
وقد أشرت في مقال سابق، إلى عديد من علماء عصرنا، ممن حملوا شهادات جامعية، في هندسة أو طب أو صيدلة أو غير ذلك من العلوم التي تنمي العقل وتطور أساليب الفكر، وتفتح مجالات الفهم وطبقات الوعي ومدارج التصور. وليس من انكبّ على العلم الشرعي، فأحسن في فرع أو في فروع منه، كمن انكب على نفس العلوم ذاتها، مع خلفية قوية مما أخرجته عقول البشر في زماننا، لا نسبة بينهما على الإطلاق. فالأول يصلح أن يكون مدرساً في معهد دينيّ أو إمام لمسجد، أما الثاني، فهو من تنعقد به الآراء القيمة التي مازجت علم الشرع بما هو من صلب التكوين البشريّ في هذا الزمن. وليس من أعمل دائرة عقله العلمي حتى الدراسة الثانوية، كمن تمرس بطرق البحث العلمي وسبل المنطق التحليليّ أو الرياضيّ، سنوات عدة بعدها. لا يستويان مثلا، ولا تتساوى أنظارهما إلا عند قوم أراد لهم إحباطهم في الحاضر المريض أن يحيوا في ظل الماضي المجيد، أشباحاً تفتي لأشباح .. وياللأسف.
ويقول قائل: لكن هل تغيرت عدة المطلقة، أو ميراث الجدة، أو نصاب الزكاة، أو أي من أصول العلم الشرعيّ، نتيجة ما ذكرت من اختلاف الزمان؟ قلنا: لا، لم تختلف أصول العلم الشرعيّ ولم تتغير أحكامه، ولم تتبدل ثوابته، لكن، إي وربي، تغير تركيب "الإنسان" الذي يخاطبه الفقيه المعاصر، ونظرته واحتياجاته، وتعقدت مشكلاته، بما جعل مستوى المفتي العقلي يستلزم مواكبة هذا التطور في احتياجات الزمن. فإن الخلفية العلمية من العلوم الزمنية، إن وسمناها بذلك، ترتقي بالقدرة الذهنية من أساس بنائها. وإن كان أهل القرن الرابع يحتاجون إلى مفتٍ يحفظ مائة ألف حديث، فإن مسلمي اليوم، يحتاجون لمثل هذا الحافظ، مع دراية عميقة بعلوم الزمان، فتحديات اليوم أكبر وأعمق. ولو نظرنا لعلماء السلف ومفتييّهم، لوجدنا أنهم كانوا موسوعة في غالب علوم زمنهم، من طب ومنطق ورياضيات، ودونك السيوطي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم كالمؤرخين، أي علماء التاريخ. وهو ما كان أعلى ما لديهم في زمنهم ذاك، فلم يتخطوه، أو يتجاهلوه، ويوكلوا أمر فتاواهم إلى من درس علم التوحيد وقرأ مختصرات في المصطلح، وتجول بين صفحات التفاسير!
علينا اليوم، أن نوجّه أبناءنا من المؤهلين لأن يصبحوا من علماء الأمة، أو من نتوسم فيهم ذلك، أن يقبلوا على دراسة فرع على الأقل من فروع العلم الزمانيّ، ويتعمقوا فيه، فهي دربة للعقل أولاً، ونفع عام ثانيا، ومواكبة للزمن ثالثاً، ولله درّ الشيخ أسامة متخصص الاقتصاد، والشيخ الظواهري الطبيب والشيخ الشاذلي الكيميائي، وهم أقطاب هذا الزمن بلا شك.
ولا أشك أنّ هذا البعد، في التربية العقلية التمهيدية، له أثر بالغٌ في قوة الاستدلال وبراعة الاستنباط وعمق التحليل، وهي كلها أدوات المفتي الذي تصلح الأمة بفتاواه، لا مجرد "مفت" تهش لكلماته الدهماء.
د طارق عبد الحليم
14 صفر 1438 – 15 نوفمبر 2016