الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد
فإن مسألة تكفير الخوارج، بأي فرع من فروعهم، هي مسألة اجتهادية، تتعلق بحكم شرعي يأتي من فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة الصحابة، وحال الخوارج الأُول، وجريان علة التكفير في فرقة من فرقهم أو عدمها.
ونود أولاً أن نبيّن أنّ حديثنا متوجه لمن أقرّ بأن هذه الفرقة العوادية، هم خوارج، لا من أنكر ذلك، ولا نعرف من أنكره إلا عصام البرقاوي، خرقا لإجماع أهل العلم في أيامنا هذه[1]، ومن ثم لا يُلتفتُ إلى قوله فيهم، خاصة وهو متهم بما له من قرابة وصلات رحم بينهم.
وسنسلك مسلكين في هذا الحديث، أولها الحديث عن أقوال "العلماء"، فقهاء وأهل حديث في هذه المسألة، وثانيها، مناقشة قضية إسقاط هذه الأحكام على الخوارج العوادية.
أولا: الحديث عن أقوال "العلماء"، فقهاء وأهل حديث:
من الخطأ البيّن أن يُفَرّق بين الفقهاء وأهل الحديث في مثل هذا الأمر، فيقال أن المجتهدين من الفقهاء هم من لهم كلمة مسموعة! هذا تفريق لم يعرفه ولا قال به أحد من السلف قبلاً، فثقل قول البخاري كثقل قول أحمد وغيره. ومن التحكم البارد أن يفرق أحد هذه التفرقة.
وقد نقل البعض، وأشير هنا إلى أبي الفتح فرغلي، كلاما لبعض الفقهاء نقل إجماعاً على عدم تكفير الخوارج، كما في قول الخطابي الذي نقله ابن حجر في الفتح. فإن ابن حجر قد نقل قول البخاري وغيره كذلك في القول بكفرهم، مما أعرض عنه الناقل! ثم إنّ نقل ابن المنذر للإجماع يُعترض عليه بكثير من أقوال الفقهاء وأهل الحديث ممن قالوا بكفرهم، فلا يصح الإيهام بأن قوله هو الفيصل في المسألة، ففي هذا تدليس واضح.
ثم إنّ من خطأ النظر أن يؤخذ بقول ابن المنذر النيسابورى، وهو لا ينازع في جلالته وقدره أحد، الذي استدل به على ما أسماه "إجماع الفقهاء"، كما حكاه عنه ابن الهمام، حيث قال "وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي نَقْلَ إجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ"، وهو قول فيه نظر ومبالغة على أقل تقدير، تُعرف عن بعض العلماء حين التشدد لرأي معين، فقوله "لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث" خطأ كما سنبيّن. ثم إن الاستدلال بعدم معرفة مخالف في ظن ابن المنذر، والحكم اقتضاءً بأن هذا يتعين منه إجماع البقية، هو مما يُستدرك عليه، غفر الله لنا وله. والغريب أنّ ابن المنذر خالف مذهبه في إثبات الإجماع في هذا الموضوع، إذ إنه يثبت الإجماع مع خلاف رجل أو رجلين، كما هو مذهب الكثير من الفقهاء كمالك والشافعي والطبري، لكنه هنا أثبت إجماع الفقهاء رغم ثبوت أقوال لعدد هائل منهم بعكس ذلك! وقد كان يجدر بمن عرض المسألة، أبو الفتح فرغلي، أن يتحقق من مثل تلك الأمور قبل أن ينقل نقلاً مجرداً.
- أن مذاهب العلماء "محدثين وفقهاء" قد اختلفت في حكم الخوارج على قولين:
- تكفيرهم، وقد قال بهذا جمهور غفير من أهل الحديث ومن الفقهاء.
- تبديعهم، وهو الاختيار عند الجمهور من القولين.
نقل ابن تيمية خلاف الفقهاء في تكفيرهم، قال "فإن الأمة مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ الْخَوَارِجِ وَتَضْلِيلِهِمْ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي تَكْفِيرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا نِزَاعٌ فِي كُفْرِهِمْ . وَلِهَذَا كَانَ فِيهِمْ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى:أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ بُغَاة، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كُفَّارٌ كَالْمُرْتَدِّينَ، يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ابْتِدَاءً، وَقَتْلُ أَسِيرِهِمْ، وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ اُسْتُتِيبَ كَالْمُرْتَدِّ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ"اهـ الفتاوى 28/518.
فانظر يا رعاك الله:
- قوله: إنّ "الأمة"، فلم يفرق بين أهل حديث وفقهاء.
- قوله "على قولين (مشهورين)"، لا كما ودّ فرغليّ أن يوحى بأن قول "أهل الحديث" ليس بهناك! وهو لون من التدليس.
- أنّ هذا القول بتكفيرهم ثابت في كلام الفقهاء، مالك والشافعي وأحد قولي أحمد. فسبحان الله، أهؤلاء فقهاء أم أهل حديث!ّ؟
ثم ما رأيكم في قول النووي "نقل ابن حجر عن النووي قوله في حديث أبي سعيد الخدريّ "قال النووي وفيه دلالة على فقه الصحابة وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد إلى تكفير الخوارج وأنهم من غير هذه الأمة"الفتح 13/320. وهو ما ينفي إجماع الصحابة على عدم تكفيرهم.
وبالإضافة، فهل البخاريّ ليس فقيها؟ من قال بذلك فليرجع إلى الفصل الأول ابتدائي لمحو الأمية! فإن البخاري، وغالب أصحاب الحديث في ذلك الزمان كانوا فقهاء أجلاء مجتهدين لهم اختياراتهم الفقهية الشهيرة.
ثم، بالإضافة إلى ما هو معروف من أحاديث كلاب أهل النار، ولأقتلنهم قتل عاد، وفي رواية ثمود، فننقل في رواية لمسلم عن عليّ "من أبغض خلق الله اليه" الفتح 13/316. فماذا يكون أبغض خلق الله اليه؟
نقل ابن حجر عن النووي قوله في حديث أبي سعيد الخدريّ "قال النووي وفيه دلالة على فقه الصحابة وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد إلى تكفير الخوارج وأنهم من غير هذه الأمة" الفتح 13/320.
وقد أجمع المسلمون، في كلا الرأيين، على وجوب قتال الخوارج، بل قال ابن تيمية " ... " والحديث نصه "سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ ، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
البخاري ومسلم، واجمع بينه وبين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ". فإن جمعنا بين الدليلين، رأينا أن لمن قتله أجرٌ يوم القيامة، لا يكون لقاتل النفس، من حيث من قد قتل نفسا ارتكب معصية، دينا ومبدأ، ومن قتل هذا القاتل ليس له أجر، إنما هو مُنفِذ قصاص، فالخوارج العوادية لا يكون حالهم إلا أن يكونوا في طبقة التارك لدينه المفارق للجماعة.
وممن قال بتكفير الخوارج الحافظ الفقيه العلامة أبو بكر ابن العربي، قال "الصَّحِيح أَنَّهُمْ كُفَّار لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَام " وَلِقَوْلِهِ : " لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْل عَاد " ، وَفِي لَفْظ " ثَمُود " ، وَكُلّ مِنْهُمَا إِنَّمَا هَلَكَ بِالْكُفْرِ ، وَبِقَوْلِهِ : " هُمْ شَرُّ الْخَلْق " وَلَا يُوصَف بِذَلِكَ إِلَّا الْكُفَّار ، وَلِقَوْلِهِ : " إِنَّهُمْ أَبْغَضُ الْخَلْق إِلَى اللَّه تَعَالَى " ، وَلِحُكْمِهِمْ عَلَى كُلّ مَنْ خَالَفَ مُعْتَقَدهمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّخْلِيد فِي النَّار فَكَانُوا هُمْ أَحَقَّ بِالِاسْمِ مِنْهُمْ".
كما قال بتكفيرهم الإمام تقي الدين السبكي الفقيه، والإمام القرطبيّ صاحب المُفهم.
فنخلص إلى أن:
- دعوى الإجماع، أو إجماع الفقهاء على عدم تكفير الخوارج خطأ، ومحاولة اصطياد أقوال العلماء الذين قالوا بعدم التكفير ضرب من التدليس.
- أن القول بتكفير الخوارج قول مشهور معتبرٌ عند كثير من الفقهاء وأهل الحديث معا.
- أن لهذا القول أدلة في غاية القوة، تناسب ظاهر الأحاديث، كما قال السبكي.
ثانيا: تنزيل التكفير على العوادية:
أمّا عن الخوارج العوادية، فهم أولاُ وأخيرا، فرقة حرورية بإحماع أهل هذا العصر، كما بيّنا آنفا، لا يخرق هذا الإجماع قول شاذ أو شاذين. فمن قال بتكفير الخوارج، فلا عليه في تكفير العوادية، إذ تابع فيه أئمة أعلام وجمع غفير من علماء الأمة، فقهاء ومحدثين.
في البخاري عن يُسَيْر بن عمرو قال سألت سهل بن حنيف "هل سمعت النبي ﷺ يقول شيئا في الخوارج؟ سمعته يقول وقد أهوى بيده قبل العراق يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الاسلام مروق السهم من الرميّة". وهذا لا يمنع خروج بعضهم من غير العراق، لكنه أثبت العراق فكان منطبقا على البغدادي اللعين.
ثم إن العوادية قد اختصوا بميزات تجعلهم أسوأ فرق الخوارج طرّا، منها استحلال الكذب الواضح في كلام متحدثهم، وغالب أتباعهم وشرعييهم. والاستحلال هنا معناه "ارتكاب الفعل المحرم وعدم التحشي من فعله" حسب تعبير ابن رجب في جامع العلوم والحكم. والمقصود أن من لا يثبت استحلالا إلا بالتلفظ بكلمة "استحل كذا" فهو أقرب للإرجاء، بل دخلت عليه شبهة الإرجاء من أن دلالة العمل منفصلة تماما عن القصد والنية. فإن الإصرار المحض، الذي صورته تكرار العمل، كما بيّنا في كتابنا "حقيقة الإيمان، فصل الإصرار والردّ، يقتصي أن يكون هناك نوع من عمل القلب بإدراك المعصية وإن تكررت منه، فإن تخلف هذا الشعور سقط عقد القلب، والعمل بالمعصية، مع عدم الشعور بما فيها من خطئ، وهو ما عبر عنه ابن رجب بعدم التحشي، أو شعور برغبة في الانخلاع عنها، هو سقوط لعقد القلب. ومن هنا فإننا نرى ممارسة العوادية للكذب من هذا النوع، إذ لا يظهر عليهم إلا ائتلافا مع الكذب، وتكريسا له، بل اعتباره أداة يوظفونها في دعايتهم، وهذا لا يكون إلا مع سقوط عقد القلب في هذا الأمر. والخوارج الأول، إنما عرفوا بصدقهم التام، وشجاعتهم وعفة ألسنتهم، مما يجعل هؤلاء مستحقين للتكفير أكثر من سلفهم مرات ومرات.
فهذ أمرٌ إضافي ينضاف إلى كفر الخوارج بعامة.
أمّا ما جاء به فرغليّ، من أن علة تكفير الخوارج هي ما أثبته ابن تيمية، دون غيره، حيث قال "تكفيرهم المسلمين بغير مكفر وقتالهم مستحلين دماءهم و أموالهم"؛ وهو المفهوم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية"، وهو ما لم ينص عليه ابن تيمية في حقيقة الأمر، بل هي علة يدل عليها قول كلّ من كتب من العلماء في أمر الخوارج بلا استثناء، فنسبة هذه العلة إلى ابن تيمية ونفيها عن الآخرين تنطع وتدليس على شيخ الإسلام وعلى غيره. وإنما صياغتها كعلة بهذه الألفاظ كانت مما وضعه العبد الفقير مع الشيخ الحبيب د السباعي، في بيان إثبات حرورية هؤلاء القتلة المجرمين. فإفراد ابن تيمية بهذه العلة، التي هي ضابط الفرقة عند من تفقه في علم الفرق، هو عمل مقيت مجانب للصواب. فإن هذه العلة هي مُدركة بظاهر الأحاديث، وكلام كافة العلماء والفقهاء في هذا الأمر، وإنما هذه الصياغة بذاتها، كما بيّنا، هي من وضعنا، وليس فيها إلا إظهار لما هو بيّن واضح، بعد أن رأينا ارتباك من في الساحة في تعيين علة أنهم خوارج، واستناد بعض طلبة العلم إلى شروط ظاهرة، سواءً إثباتا أو نفياً. وقد فرقنا بين الأصناف الثلاثة بما أسميناه "القاعدة الذهبية" وهي "من قاتل المسلمين ولم يكفرهم فهو باغٍ، ومن كفّر المسلمين ولم يقاتلهم فهو غالٍ، ومن كفرهم وقاتلهم واستحل دمهم فهو الخارجي". وقد أثبتناها في عدة مقالات لنا منذ [2] 2014.
ثم استدلال فرغلي بأن غالب أهل الفرق يكفرون المسلمين كذلك، فهذا استدلال ساقط، من حيث إن بقية الفرق لم يأت فيها مثل أحاديث الخوارج الثابتة، فكيف تكون مقارنة مع بقية الفرق، يا أصحاب العقول.
ومن المضحك المبكي هو قوله "أنا لا نعرف هل هؤلاء العلماء – على قلتهم- الذين كفروا الخوارج، سيحكمون بأن تنظيم الدولة خوارج كفار أم مبتدعة فقط؟"، أمّا كلمة "على قلتهم" فقد بيّنا بهتانها وخطأها. أمّ قوله "لا نعرف ..." فمن يعرف ماذا قد يكون قول عالم توفي منذ قرون في نازلة اليوم، أيّا كانت؟ وما يعني هذا الكلام إلا إننا لا نعرف عن علة وصف هؤلاء العلماء للخوارج بالكفر، بل لا نعرف إن كان لديهم علة أصلاً في ذلك من حيث هم "صغار وقلة، وغير معتبرين من الفقهاء"ّ هذا القول هو أكثر ما ورد في المقال سقوطا، والحق يقال!
والخلاصة، إننا لا نأخذ شيئا على من رأي الخوارج العوادية مبتدعة ضالون، فهو قول مشهور من القولين، ولا تثريب على من أخذ به. لكننا نتبنى الرأي القائل بكفرهم، لما وجدناه أقرب لظاهر الأحاديث عامة، ولما رأينا من حال العوادية خاصة.
د طارق عبد الحليم
22 ذو الحجة 1437 – 24 سبتمبر 2016
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] ويبقى إجماع البقية إجماعا صحيحا كما أخذ بذلك الطبري وابن المنذر في مفهوم الإجماع، ألا يعتبر فيه خلاف رجل أو رجلين، لكن لا يعتبر إجماعا إن زاد.
[2] قلت "إنّ الأصل الجامع لفرقة الحرورية، كما تقرر في أول منشئها، قبل أن تضيف اليها فروعها شتى العقائد، هو "تكفير المسلمين بأمر ليس كفراً عند أهل السنة والجماعة، ثم استحلال دمهم على ذلك، والخروج لقتالهم"، وهو مشتقٌ من أصل الفرقة التي خرجت على عليّ رضى الله عنه، وكفرته ومعاوية رضى الله عنه، وقاتلهم عليّ رضى الله عنه النهروان وحروراء"، "بيان حقيقة "تنظيم الدولة"بقيادة إبراهيم بن عواد " توصيف التنظيم وحقيقة عقائده الشيخ د طارق عبد الحليم، الشيخ د هاني السباعي أغسطس 2014