الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه وبعد
لا أشك أن الفترة التي تمر بها الساحة الشامية اليوم، هي حالة مخاض عسير، بُذلت فيها أنفس كثيرة، وراحت فيها أرواح عديدة، لا يحصيها إلى الله، كلها عزيز وكلها غال.
وقد مرت الساحة الشامية بمثل هذا المخاض في الربع الأول من عام 2014، إلا أن الوليد كان سقطاً بشعاً تعيساً، فخرج من رحمها تنظيم حروري لعين، أفسد الساحة وشق الصف وزيف العقيدة وقتل الأنفس البريئة بغير حق.
لكن ذاك الباطل كان ضعيفا، هشا، سريع الزوال. فما مرّ عام ونصف على هذا الكيان الخرب، إلا وبدأ في الانكماش والخسران والتقوقع والاندحار، وبدأت شمس أفوله تنحدر للمغيب، لا أرجعها الله، كما غابت من قبل جماعة الزوابري وشكري مصطفى، وسائر أهل التكفير، مع فارق بين العوادية ومن قبلهم، هو علو العوادية في الحرورية، بما لم يسبقهم اليه أحد.
ولأننا نعلم أن الباطل طرف والحق وسط، فإننا نعلم أن الطرف الآخر من الباطل كان لا بد وأن يظهر، ويعلو له صوت. ألا وهو صوت الإرجاء والانبطاح والخيبة والتميع والعمالة.
وهذا الطرف من الباطل لم يكن يوماً غائبا عن الساحة الإسلامية كلها، في أي بلد من بلاد المسلمين. فإنك واجد على خريطة العمل الإسلاميّ، في النصف الثاني من القرن السابق، إلي يومنا هذا، أمثلة تتراوح بين الشذوذ العقديّ، والانحراف الفكريّ والعمليّ، والعمالة الصرفة للغرب الصهيو-صليبي، ومن بين هاذين الطرفين أطياف تتقابل وتتقاطع دوائرها، يجمعها مركز تدور كلها حوله، دوران الأرض حول الشمس، وهو اتخذا المصلحة لباساً تسوّغ به انحرافها وشذوذها أو عمالتها.
والأمر، بالنسبة لبعض هؤلاء، حين نحسن الظن، إحسان بالظن في النظام العالمي النجس، وفي نواياه وتصرفاه، وطريقة تعامله. ورغم وضوح كل تلك الأمور، إلا أنها لا تزال تغيب عن أذهان تلك القلة التي لا تنتمي إلى عمالة، لسبب ما.
فنحن إذا، في ذاك الطرف الانبطاحيّ الاستسلاميّ، ننظر إلى عدد من الأطياف، لا واحدا لا غير.
منهم من هم في عمالة حقيقية، يتلقون الدعم السلولي والأمريكي والقطري، من أي طريق جاء المال. وهم معروفون على الساحة، بل لا ينكرون ذلك هم أنفسهم، ويدّعون أن الكلّ يفعل ذلك أمام الستار أو خلفه. وهذا من باب "رمتني بدائها وانسلت"! وهؤلاء يتحدثون ويوقعون على خراج مؤتمرات الخيبة كالرياض وجنيف، التي تنص على دولة مدنية علمانية صريحة.
ومنهم من يتخذ موقفا وسطاً، يعتبره سياسة شرعية وحكمة وبعد نظر، لا عمالة ولا غيرها. فتراهم يتعاملون مع الغرب على وجه، فيقدمون أنفسهم على أنهم الطرف المتعاون القابل للتفاوض والتحاور، المتفهم لضرورة أن تكون الدولة القادمة دولة "مدنية" في حقيقتها، وإن كانت لها من المظاهر ما يجعلها أقرب للإسلام من العلمانية البحتة. ثم يقدمون أنفسهم للشباب على أنهم حريصون على الشعار الإسلاميّ والدولة الإسلامية. فتراهم يوقعون على مقررات مؤتمر الرياض، ثم ينسحبون، ثم ينكرون جنيف! ويشاركون في حملة جرابلس وينكرون وجودهم هناك. يتحدثون عن التوحد، ثم يضعون العقبات واحدة تلو الأخرى، إلا أن تكون على مذهبهم الملتوى هذا. ثم تراهم يصطنعون الانفصال بين المكتب السياسي والعسكريّ، ليتحير الجند إلى من يستمعون؟ ويتحير المراقب أيهم يمثل ذلك الاتجاه، وهم اتجاه واحد بالداخل لا تيارات متعددة حقيقة.
وما لا يفهمه هؤلاء، ممن يدعى الحكمة وفصل الخطاب، أن العدو أذكى وأشد حنكة ودربة في تلك المحادثات وتوجيهها. ألم ينجح في شق صفهم بالفعل، مع من وعوا خساسته ورفضوا وصايته؟ العدو الصليبيّ يعرف تماما من أين تؤكل الكتف، لا مثل فردين أو ثلاثة دخلوا مجال السياسة منذ شهور، لم يُعرف لهم تاريخ في محاورات ولا مداورات! هذه بديهية لا أدرى كيف يغفل عنها أصحاب العقول السوية المنتمين لهذا الطرف.
أمريكا لن تسمح بقيام دولة إسلامية بطريق التحاور، ولا بعد ألف سنة. الطريق الوحيد لذلك هو مواصلة الجهاد بعد الاتحاد، لا طريق آخر، إلا الاستغناء عن هذا الهدف "بالكلية" والركون اليهم خطوة خطوة كما فعل الإخوان، على مرّ ثلاثة أرباع قرن من الفشل، فكان النتاج السيسي!
أي حديث خلاف هذا، هو وهمٌ وأماني وأحلام يقظة، تدور بين غاية الإرجاء والعمالة التي تتمثل فيما يسمى بالإئتلاف في جنيف، وبين أولئك الذين يريدون أن يتخذوا طريقا وسطا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ..
هذا هو المخاض التي تمر به الساحة في الشام الحبيبة. وهو ما ستفرز الأيام القادمة نتاجه وليداً يعلم الله كيف هو؟ أصراع بين الفصائل التي تنتمي لتلك الاتجاهات الثلاثة، غلاة الإرجاء السلوليون، وأصحاب الأعراف من مدعى الحكمة والحنكة القابلين للمخطط الغربي باطنا ورافضيه ظاهرا، وبين أولئك الذين يرفضون ذلك المخطط برمته، بلا قيد ولا شرط، أم توحد مبني على القناعة بأنه لا خير يأتي من الصليبيين، مهما اتسعت ابتساماتهم وتناثرت وعودهم.
وما حديثنا هذا كله إلا توجيه لما نرى فيه الخير للجهاد القائم، وهو اجتهاد مبني على عبر التاريخ وهداية القرآن وتوجيه السّنة وقراءة الواقع.
وكما قال طرفة ابن العبد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود
د طارق عبد الحليم
25 ذو القعدة 1437 – 29 أغسطس 2016