الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه وبعد
(1)
أبدأ بذكر قول عنترة في معلقته
هل غادر الشعراء من متردم ** أم هل عرفت الدار بعد توهم
وهو أبينّ في هذا الموضع وأوضح لما أعنى. إذ لم يترك أحد قولاً في نهج الإصلاح ولا حلاً يرونه ناجعا بمصر، ولا وسائله ولا طرقه إلا خاض فيها، بعلم أو بجهل، كما خاض الشعراء قبل عنترة في وصف كل طلل بكل صفة. فهل بعد هذا الحديث كله، وتلك المقالات والحوارات والمجموعات والمؤتمرات والمجالس الثورية وغير الثورية والقنوات الفضائية، عرفنا الحلّ ووضعنا أيدينا على المفتاح، بله اتخاذ خطوة واحدة حقيقية في سبيل العمل به؟ تماما كما تساءل عنترة عن طلل عبلة، هل عاد معروفاً منشوداً؟
اللهم لا، وعذرا منك يا عنترة!
فكم طرح "المهتمون" بالشأن المصريّ من "رؤية"، وكم أوردوا من أوصاف للوضع القائم، وما خرجوا، بجمعهم عن أن:
- العسكر هم أصل البلية
- زوالهم هو الحل الأوحد
- إعادة د مرسي واجب مفورض، إما لأن له في أعناقهم بيعة شرعية! كما يقول البعض، أو لأنه استمساك بالشرعية كما يقول البعض الآخر، أو لأنه محض الإخلاص والضمير كما يقول آخر ثالث.
ثم حول تلك النقاط الثلاث، تدور كلّ الحوارات والمقالات والتعليقات والمؤتمرات والمجموعات .. إلخ.
لكن، لننظر عن كثب للوضع المصري، لنرى، بعلم، لا بمجرد توهم، كما قال عنترة، ما هو المتوقع الحقيقي لتغيير الوضع في مصر.
(2)
وأنا أزعم، كما قلت في موضع سابق، إن التغيير لن يأتي من داخل مصر، لن يأتي بمعنى الاستحالة لا غلبة الظن. وها هي الأسباب.
إن استقرينا التاريخ المصري، نجد إنه من المعلوم تاريخيا أن مصر، مع الأسف، كانت على الدوام، بلا استثناء ترزح تحت حكم، أو حاكم من خارجها، سواء كان طالحاً، كالروم والفاطميين الروافض، أو صالحا، كالفتح العربي المبين. ثم في العصور الأقرب، عهدا، لم يحكمها، باسم الخلافة العثمانية، إلا ألباني، حتى 1951، حين تولى اللواء محمد نجيب من يونيو 1953 إلى أن أقاله مجلس العسكر الخائن، كالعادة، في نوفمبر 1954. ثم مرة أخرى لنفس فترة العام، هي هي لم تزد ولم تنقص، حكم د محمد مرسي من يونيو 2012 إلى يونيو 2013، حين عزله واعتقله مجلس العسكر بقيادة المرتد السيسي وأصحابه.
والتاريخ لا يكذب، ولا يتعسف، والسنن الكونية لا تتغير بأماني أحد مهما كان، ولو كان من رسل الله عليهم أفضل الصلاة والسلام. والعبر التي أمرنا الله باعتبارها في صفحاته المشهودة واضحة لذي عقل وعينين.
يخبرنا التاريخ، إذن، أن مصر لابد لها من أحد حاكمين، غازٍ فاتحٍ، صالح أو طالح، أو عسكر خائن زنديق، يضعها تحت فوهة السلاح، بينما يضع الشعب أحذية هذا العسكر فوق رأسه! لا ثالث لهما .. ولا نرى ما الذي تغير في وجه التاريخ وسيران السنن، ما يأتي بثالث بديل.
ثم إذا استقرأنا الواقع، فلننظر من الناحية الفعلية ما هو على الأرض، لوجدنا أنّ عناصر التغيير عادة لها صفات محددة، منها:
- الشريحة العمرية: بين الخامسة والعشرين إلى والخامسة والأربعين، إلى الخمسين على أقصى تقدير. ما قل فهو نادر لا حساب له، وما زاد فهو نادر لا أثر له.
- التوجه الفكري: وهو أن تكون تلك الكتلة متوحدة الغرض، في معرفة هدفها. ولا نعنى هنا تلك الأهداف الثلاثة التي يتعلق بها الحالمون حالياً، بل الأهداف تكتيكيا واستراتيجياً، فالعالم لم يصبح فيه احتمال تردد أو اختلاط رؤية أو تلعثم، ما ساحة الشام منا ببعيد، خاصة معركة حلب الكبرى، ومعناها.
- القيادة الحكيمة: وهي القيادة التي تحمل ذاك التوجه، وعمل على بناء لبناته، بصبر وتؤدة وإصرار ووضوح، لا يشغلها شاغل من اعتبارات جانبية عن السير في طريقها، بل لديها مجموعة "إدارة الأزمات" تتناول ما يحدث مما يعكر السير حتى لا تنشغل القيادة عن دورها المرسوم.
- الوجود في الداخل: وهو عامل أساس في نجاح أي عملية تغيير، فإن التغيير الاجتماعي لا يدار بالروبوت، كما يظن البعض، اعتباطا. فالخارج هام لحماية المركز، لكنه ليس ببديل عن المركز الداخليّ بحال.
(3)
فإن نظرنا إلى الشريحة التي بيدها التغيير الحقيقيّ، وجدنا أن غالب الشباب، الذي هم على إخلاص ومحبة لله ورسوله ﷺ، بغض النظر عن توجههم، إخواني أو سنيّ أو حروريّ، معتقلون في سجون السيسي، الصف الأول والثاني والثالث، وكل من تسوّل له نفسه أن يكون في الصف الرابع! ثم نرى البقية في الخارج، غالبها من متابعي المسلسلات الرمضانية، وبقية البقية في خوف واستتار. وهنا نأتي لحكمة رسول الله ﷺ وفقه السنة، في حديث عائشة قالت، قال رسول الله صلى الله عليه سلم "لَيَكُونَنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ, قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : " نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ ".وهذا الأمر، أمر كثرة الخبث، لا يمارى فيه مصريان، بل هو حق واقع مشاهد، لا يغفل عنه، سبباً أو نتيجة إلا مختل أو صاحب هوى.
فكيف بالله عليكم، نرى مصداق حديث رسول الله في مصر؟ أألخير في مصر أقل من الخبث، أهما متساويين؟ أألخبث أكثر قليلاً؟ لا والله بل هعو غالب منتشر، وارجع إلى عائلتك يا من تقرأ هذه الكلمات، وقل لي كم منها يقف في صف السيسي ويناصره! فإن قلت جهلة قلنا هذا عارض وسبب، لا دخل له بالنتيجة، كما تأتي لشخص مصاب بفيروس سي، فتقول هذا لأنه أخذ حقنة ملوثة! فيضحك عليك الكبيب ويقول: وإذن؟ هل يغيّر هذا من أمره شيئاً؟
(4)
ثم إذا نظرنا في التوجه الفكريّ للكتلة المخلصة التي تحدثنا عنها، وجدناها مفتتة لا اتجاه لها أصلاً. منها من يريد حكم الله في مصر، لكنه لا يعي تفاصيل ذلك ومستلزماته وما يترتب عليه. ومنها من يريد حكم الله اسماً وترقيعاً، تطمينا للضمير وراحة للنفس، ثم تكون الحكومة وضعية مختلطة، ومنها من يريد الثورة على السيسي .. لا غير، من أجل بشاعة ما يفعل، دون أي توجه لمستقبل ولا رؤية لقادم. ومنها من يريد القضاء على السيسي لصالح حكومة ديموقراطية "عادلة" تقف في الصف الغربي، وتهادنه، لترفع مصر اقتصاديا واجتماعيا!!كما يظنون. ومنها من يريدها حرية مطلقة من السيسي ومن كل شئ آخر فيه شبه قيد، ديني أو دنيوي، كالليبراليين! ومنها من يريد حكم الله سبحانه بشروطه ووسائله من خلال الكتاب والسنة ..
أين التوحد المطلوب، أي راية تُرفع؟ قالوا: نرفع الراية التي نشترك فيها: سرّحوا العسكر وأزيلوا السيسي! قلت: ما أسذجكم ووما أقصر نظركم؟ ألا ترون ألا يكون هناك راية مثل هذه، ينشأ عت=نها تغيير أبدا؟ أتناطحون سنن الله تعالى:
كناطحِ صخرةٍ يوما ليوهنها ** فلم يُضِرها وأوهى قرنَه الوعلُ
لا فائدة من هذه الرايات، ولا هذه التوجهات .. بل ستتنازع فيما بينها، وسيضرب بعضها بعضاً .. ثم لا ننسى قول الله تعالى، وما يتبعه من فهم وتصرف "إن الله لا يُصلح عمل المفسدين". الراية واحدة، والدين واحد، والوسيلة واحدة .. وغير ذلك، ظلوا في أوهامكم تعمهون.
(5)
ثم إذا نظرنا إلى القيادة الحكيمة. ووالله كادت الضحكة أن تخرج من شفتيّ، لكني سارعت باستبدالها بابتسامة، حتى لا نخرج هنا عن حيز الجدّ. القيادة الحكيمة.. ومن أوصافها أدراك ما سبق، ومعرفة كيف تتعامل معه، والاستفادة من سقطاته وعوراته .. وهذا والله أعلم عزيز نادر، إن وُجد في الأصل.
فأين تلك القيادة الحكيمة المحتملة؟
أهي في تلك القيادات الإخوانية، وغير الإخوانية، السجينة، التي لا تملك من أمر نفسها شيئاً؟ بل والتي تسقط بسجنها أية حقوق في أعناق الناس لها، ومنها الولاية العظمي والبيعة التي يتمسك بها الدعاة في حق د مرسي؟ ولا نريد أن نشير إلى "سلمية" المنهجية التي يتحلى بها الإخوان ما شاء الله إلى أن يفنيهم السيسي.
أهي في تلك الأسماء التي تنادى بعودة د مرسي وسقوط السيسي، ليل نهار على قنوات فضائية (محمد ناصر، معتز مطر .. إلخ) أو تلك الأسماء الإعلامية التي تنشر ما شاء الله أن تنشر في نفس الاتجاه؟ سبحان الله! قال تعالى "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" النحل وقال "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم"النساء "قال قتادة علماؤهم"الطبريّ، أي "أصحاب العلم الشرعي"، لا المستشار فلان، والدكتور علان، والصحافي المشهور ترتان. وهؤلاء لا علم لديهم من الناحية الشرعية إلا قدر علم العاميّ البسيط، وما حصلون من بعض شرائط مسموعة لدعاة يحبونهم، والاطلاع على كتاب أو أمثر في موضوعات عامة تمس الشرع في بعض جوانبه. والمبرّز فيهم من حفط القرآن وقرأ التفسير، وهو أمر جليل عظيم، لكنه يختلف عن تكوين الحس الفقهي والمقدرة على الفتوى بأي حال من الأحوال. ومن هنا نرى التخبط سائداً في تلك الأوساط من حيث هم أصحاب إخلاص من ناحية، ولكن لا يعرف أحدهم قدر نفسه في العلم الشرعيّ، بل يحتج بعضهم بأن ما نتحدث فيه ليس من العلم الشرعي أصلاً، فهو ليس حديث في طهارة أو زكاة أو حيض أو نفاس! بل في إزاحة السيسي! سبحان الله العظيم، الحيض والنفاس يحتاجا للعلم الشرعيّ أكثر ما تحتاج نازلة النوازل بالأمة اليه وإلى أهله!
فالردّ إلى أصحاب العلم الشرعيّ أمرٌ لا يجادل فيه مسلم صحيح العقل والدين. فأين هم هؤلاء؟ وهل هم أصحاب كلمة بين الناس ليكون التوجيه الأصح، والتوفيق الأمثل للمسيرة؟
لا قيادة في هذا الوسط المصريّ القائم اليوم، لا شرعية ولا وضعية ولا عسكرية.
(5)
فما النتيجة إذن؟ شعب هذا حاله، بلا قيادة، أو برؤوس هذا حالهم.
الأمل كما أرى في أن يبدأ من لهم صوت مسموع في الناس بأن يدركوا أبعاد المسألة حقاً، وأن يصدقوا مع أنفسهم، وألا تأخذهم العزة بالإثم، ويستصحبهم الغرور والعُجْب بالنفس وحب الظهور إلى أن يستمروا فيما هم عليه من عبث لا طائل تحته "كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه" الرعد. وبدلا من المؤتمرات والمجموعات والمقالات والصحفيات والتطييب والطبطة .. إلخ:
- أن يبدؤوا هم أنفسهم في دورات شرعية مركزة ينتقلون بها من مستوى العامي إلى طالب العلم.
- أن يتلو ذلك نشر العلم الشرعيّ والتذكير بالله وبأحكامه وبتوحيده، ليساعدوا في إنشاء جمع من الشعب على وعي بدينه.
- ألا ينسوا أنه في الوقت الذي يعملوا فيه هم على البناء، فعدوهم يعمل على الهدم بأضعاف القوة. وأنّ الشاب الذي يتحول إلى دين الله أمامه شباب ضائع في الكرة والملاهي والفسق والعهر.
ولكن هل يجدي هذا في تحويل مسار الأمة؟ لا، لا يجدي، من حيث أن الخبث غالب منتشر، وإنما الأمر أن ننشأ ذراعا يعين الفاتح الصالح القادم من الخارج، الذي ظلت مصر تحيا في ظله حياتها الصالحة كلها، من أمثال عمرو ابن العاص رضي الله عنه، صلاح الدين، ومحمد الفاتح وسليمان القانوني، أو أي من القادة والخلفاء العظام الذين حكموا مصر كولاية من ولاياتهم، لا ولاية البغدادي المسخ الحروري المجرم الموهومة، بل الولاية السنية الحقة، التي يقوم بها العدل وتحل بها الرحمة ..ساعتها تكون تلك الذراع عون من الداخل لا بد منه لاستتباب الأمور. وليكن شعارهم واحداً:
فلنعن الصالحين، ولننتظر الفاتحين
وغير ذلك عبث أطفال، وأحلام يقظة ...
د طارق عبد الحليم
4 ذو القعدة 1437 - 8 أغسطس 2016