فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ما أعظمها من إمرأة .. !

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ  وعلى آله وصحبه بعد

      إمرأة، ليست ككل النساء. إمرأة امتحنها الله بما امتحن به إبراهيم عليه السلام، إلا إنها أمّ، حملت وليدها وهنا على وهن، فقاومت فطرة الأمومة وخلعت عنها قلبها بيدها، واجتازت الإمتحان بتفوق وامتياز. لكننا قليلاً ما نذكرها، ونردد كنيتها مع ما أولاها الله من فضل، هي المرأة العظيمة الجليلة المبهرة أم موسى عليه السلام.

      وقصة أم موسي عجب من العجب، وآية من آيات الله سبحانه. فبعد أن قرر فرعون أن يقتل كلّ صبيّ يولد في بني إسرائيل، ولد موسى عليه السلام، وبدأت قصة من آيات الله العظمى. ولنسمع لها من كلام الله سبحانه، في سورة القصص.

      "وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ﴿٧﴾".

      الصورة هنا آية في الحنان والرقة، مشوب بالخوف والقسوة! أمٌ ترضع وليدها، تنظر إليه فكأنها تحفظه في عيونها وتحمله في جفونها. لكنها تشفق عليه أن يصل اليه جند فرعون فيقتلوه. فإذ بوحي من الله يأتيها، أن ارضعيه، فإن انتابك الخوف عليه، فارميه في البحر .. سبحان الله! أمّ يُطلب منها أن ترمي ابنها الرضيع في البحر!

      هل تعاند أمّ موسى وحي ربها، أم تكذب الفطرة التي تجعل من المستحيل عليها أن تصيب رضيعها بسوء، وهو الكائن الضئيل الضعيف على كفيها؟ موقف عصيب ثقيل على الأم. فكان أن أعانها الله على أن ترى طريق الحق وتتبعه، فأوحى لها بنهيين وخبرين وبشارتين ..!

      أولاً، طمأنها قلبها بأن نهاها عن الخوف والحزن على رضيعها، والخوف يسبق الحزن إلى النفس عادة. ثم أتبع الله النهيين بأسبابهما، خبرين يحملان بشارتين، أن يجعله نبيا رسولاً يهدى البشرية جمعاء! ذاك الرضيع الضئيل الهزيل! سبحان ربي، عالم الغيب والشهادة. فكان أن القته تلك السيدة العظيمة الجليلة في اليم، اتباعا لأمر الله، وتصديقا بما أوحى لها .. أي قوة، وأي شجاعة وأي إيمان!

      "فَٱلۡتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرۡعَوۡنَ لِيَكُونَ لَهُمۡ عَدُوّٗا وَحَزَنًاۗ إِنَّ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِ‍ِٔينَ ﴿٨﴾ وَقَالَتِ ٱمۡرَأَتُ فِرۡعَوۡنَ قُرَّتُ عَيۡنٖ لِّي وَلَكَۖ لَا تَقۡتُلُوهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ﴿٩﴾".

      ثم تمضي القصة، مع الرضيع في مسراه، في اليم. ويأتي تدبير الله سبحانه، إذ يجد الرضيع طريقه إلى شاطئ فرعون ذاته. فالتقطته امرأة فرعون، آسية بنت مزاحم، تلك المرأة المجاهدة الصابرة التي رفضت ملك فرعون ما أن تبين لها الحق، فعلم الله ما في صدرها من استعداد وتقبل للحق، فأكرما الله بأن جعلها، ومريم ابنة عمران مثالاً للإيمان في القرآن، بعد أن شرّفها رعاية موسى الرضيع. ولا يعلم فرعون أنه قد رضي بما فيه قدره المحتوم، حين قبل طلب امرأته، فلم يقتل من سيكون له يوما عدوا مبينا يزيله من حكم مصر.

      "وَأَصۡبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًاۖ إِن كَادَتۡ لَتُبۡدِي بِهِۦ لَوۡلَآ أَن رَّبَطۡنَا عَلَىٰ قَلۡبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴿١٠﴾ وَقَالَتۡ لِأُخۡتِهِۦ قُصِّيهِۖ فَبَصُرَتۡ بِهِۦ عَن جُنُبٖ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ﴿١١﴾۞"

      وتعود الصورة إلى أمّ موسى عليه السلام، الرضيع التائه، هل نسيته؟ هل استقر قلبها مطمئنا؟ كيف بالله وهو رضيعها قد القته بيدها في اليم. فإن كان إبراهيم عليه السلام قد تلّ السكين للجبين، فهو لم يأرق بعد أن استجاب لأمر ربه لحظة، بل رأى ابنه سليما صحيحاً أمامه قد استبدله الله بذبح عظيم. لكن هذه الصابرة المحتسبة المؤمنة قد ألقت ضناها في اليم، ثم لم تعرف ما حلّ به، رغم إيمانها بوعد ربها، إلا أنّ قلب الأم هو قلب الأم! هكذا خلقه الله سبحانه.

      إذن أصبح قلبها فارغاً. هكذا وصفه الله سبحانه بالفراغ. وهذا الوصف يحمل دلالة زائدة على مجرد الحزن عليه، إذ يعنى أنه بجانب حبها لابنها، ليس هناك شئ في الدنيا يملأ ولو جزءاً من ذلك القلب .. أصبح فارغاً.. فيالله من هذا التعبير العجيب. أصبحت في أرقٍ وهمٍ وفراغ قلب حتى إنها كادت أن تخرّب الأمر كلّه بأن تبيح السر وتطلب من الناس أن يقصّوه لها .. لكن، الله سبحانه كان قد أعد لها جرعة إيمانية خاصة، تليق بتلك التضحية العزيزة، فربط على قلبها .. ربط عليه كيلا ينفجر حزنا، ربط عليه كي لا تنطلق منه صرخة تنبئ عما فيه. واستمرت أمّ موسى صامدة قوية .. تنتظر وعد ربها .. لكنها لم تسكن حتى أرسلت أخته لتتعرف على ما قد جرى، وتبحث عن أخيها خفية دون أن تبدي أي علامة اهتمام خاص بما قد تراى أو تسمع، حتى عرفت أنه في بيت فرعون ذاته!

      "وَحَرَّمۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَرَاضِعَ مِن قَبۡلُ فَقَالَتۡ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰٓ أَهۡلِ بَيۡتٖ يَكۡفُلُونَهُۥ لَكُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ نَٰصِحُونَ ﴿١٢﴾ فَرَدَدۡنَٰهُ إِلَىٰٓ أُمِّهِۦ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَ وَلِتَعۡلَمَ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ﴿١٣﴾".

      وجاء قدر الله بحسب الأسباب التي يسير عليها كونه، فجعله أولاً لا يقبل صدر أية مرضعة تأتيه، وصار أمر هذا الرضيع الذي سيموت إن لم يجدوا له مرضعة يقبلها. ثم جعل اخته تذهب لبيت فرعون، فتشير ليهم بأن هناك أهل بيتٍ، إمرأة، مرضعة لعلهم يجربونها مع موسى الرضيع. وما أن يلتقم موسى ثدي أمه حتى يرضى ويشرب ما شاء الله له، إذ هو صدر أمه الحنون، لا غيرها. فتم وعد الله لأم موسى كاملاً، بأن أرجعه اليها، كي تقر عينها ولا تحزن، كما وعدها سابقا ألا تخاف ولا تحزن. إلا إن وعد الله لصادق، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، من حيث لا يعلمون.

      فسبحان الله ربّ العالمين.

      د طارق عبد الحليم

      12 رمضان 1437 – 17 يونيو 2016