الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد
كثيرا ما يلجأ العقل الإنساني إلى أن يتحابل على وعيه بأن يفتعل وهماً مضاداً لما يراه بأم عينه، ماثلاُ أمامه، محدقاً فيه، وكأنه لا يره. وهذا أمر من أمور النفسية البشرية، لتحفظ على نفسها القدرة على الاستمرار، حين تكون أضعف من أن تقابل واقعاً أو أن تواجه حقيقة. فالهروب إلى الوهم، هروب من المقاومة في حقيقة الأمر، إذ أين المواجهة وليس هناك خصمٌ أصلاً، بعد أن ألغاه الوهم، أو صغّر من شأنه.
من تلك الأوهام، مثلاً، ما يدور بين الخلق في مصر عن وجود الشرفاء في الجيش، وكيف أنهم يدبرون أمراً ويتناجون بليل لإنقاذ الأمة من الصهيوني السيسيّ. والوعي الحق يخبر أنه لا شرفاء أصلا في الجيش! الساعة التي يُجند فيها الشاب، أو يضع على كتفيه النجمة (الدبورة كما يقال لها في عامية مصر)، هي اللحظة التي يفقد فيها ضميره ودينه وشرفه وكرامته، ويُعلن فيها استسلامه للأوامر والخضوع للأسياد. سلسلة نحس متراصة متراكمة بعضها فوق بعض.
ومن تلك الأوهام التي عاشها الإخوان ردحا من الزمن، ثقتهم في سلمان الجبان، أنه المنقذ الذي سيأتي بعاضفة الحزم، وسيتصارع مع السيسي ليغرقه ويستبدله ويعود بالرئيس المنتخب! والحق أن سلمان أخون من أخيه، إذ ظلّ يدعم الصهيوني الخائن، ويدعو أذنابه من سارقي أموال الجزيرة لإعانته، بل وصل به الأمر إلى أن يموّل حملة نتنياهو! أيّ والله ..
ثم تلك الأوهام التي يعيشها البعض، منهم بعض أصحاب العلم مع الأسف، من أن العوادية الحرورية يمكن أن يرجعوا إلى وعيهم، وأن يتركوا بدعتهم، وينقضوا بيعتهم، ويعودوا لمظلة أهل السنة والجماعة! وهو وهم خطيرٌ ينقضه أبسط درجات الوعي بمعني الحرورية، وطبيعة البدعة، ومدى تغلغلها في النفس. وهذا الوهم يعكس سذاجة وبعداً عن الواقع فيه خطورة على الأحداث وعلى المجاهدين، وتكتيكاتهم وتحركاتهم. ومن ثم، فإن معركة الوعي بالحقيقة يجب أن تكون منضبطة قوية في مسارها الصحيح، وإن أدى ذلك إلى تصادمات فيها مفاسد مؤكدة. إذ غير ذلك فيه مفاسد أكبر قد تتأخر في الظهور، لكنها حتمية الوقوع. فكأنما يتناول مريض السرطان حبات الأسبرين يخفف به الألم لكن لا يزيل به المرض.
ثم تلك الأوهام التي تتحدث عن وحدة فصائل موالية للغرب، أو موالية للخليج، مدعومة منه، مع فصائل السنة الرافضة للتبعية والدعم المشروط. ولا شك أنّ أمل كلّ مخلص هو وحدة الفصائل في مواجهة الرافضة النصيرية والتدخل الروسي، لكن لا يجب ان ننسى أنّ لكل فصيل استراتيجية تنبع من علاقاته واتجاهات قياداته، وداعميه. وحسابات كلّ فصيل تقوم عل الوعي بتلك العلاقات وأثرها على موقفه المفرد، لا موقف الشام العام. وإملاء تلك الاستراتيجيات أهم عند تلك الفصائل من توحيد القوى، إذ هم يرون، كما يرى تنظيم الحرورية، أنّ الفصائل المخالفة خطر داهم عليه، مثل النصيرية والروافض. ولعله من الصعب أن يعي البعض هذه الحقيقة، إلا إنها هي التفسير الوحيد الذي يبرر تصرفاتهم في بعض الأحيان، حين يستقر الوضع على جبهات الروافض قليلاً، فتراهم يهاجمون الفصائل الأخرى على فورهم .. ! وهذا الموقف محير للغاية لمن يريد أن ينتصر على الرافضة أولاً وقبل كلّ شئ. وتبدأ حسابات المفاسد والمصالح، وتوازنات القوي وترتيب الجنود والعتاد على الجبهات. وهنا مكن الخطورة في اتباع الوهم بدلاً من الوعي. إذ إن قرار الهجوم على الفصائل السنية غير المرتبطة بالخارج ليس بيدها، بل بيد تلك الفصائل. فيبقى الوهم ملحاً ألا يبدؤوا بهجوم، أو أن يثقوا في عهد، أملا في تخفيف حدة التوتر، والحفاظ على اللحمة السنية والجهد المُقاوم. لكن مع الأسف، يخيب أملهم في كلّ مرة، كلّ مرة .. وكأنهم لا يتعلمون درساً مما فات، ويظل الوهم برشام يتناولونه عسى أن يذهب بالألم!
يقول أحد المخلصين منهم: أليس الأفضل توفير الجهد وتوجيه السلاح إلى الروافض؟ نعم، ومجنون من ينكر ذلك.
يقول: أليس الأفضل تهدئة الساحة الداخلية لنتماسك ضد العدو النصيري؟ بلا شك.
لكن هل هذا ما يمليه الوعي بالواقع ومعطياته؟ أرأينا هذا حاصل في الواقع يوماً؟ أم هي أماني وأوهام يقنع بها المخلص نفسه لتحط عن كاهله عبء تصور الحال على حقيقته؟
إن قيادات تلك الفصائل تتحدث إلى المجاهدين بوجه، ثم تتصل بالرياض أو بواشنطن أو بجهة دعمها، فتأمرها بما يجب عليها فعله، فيذهب ما قالته مع قيادات الفصائل الأخرى أدراج الرياح.
ثم يأتيك وهم التحييد. وهو أنه من الممكن نحييد تلك القوى حتى يتوجه الصراع إلى جهة النصيري وحدها. وهذا وهم أكيد، إذ كيف تحيّد لاعباً اساسياً يهمه إفشال مشروعك كما يهمه القضاء على النظام؟!
التوازن الحقيقي هنا ليس في التمسك بالوهم أوفي ترك الواقع على ما هو عليه، فكلاهما خطأ. لكنه في اختيارات مستمرة، لما هو ممكن ومحتمل في مقابل ما هو موهوم ومستحيل. عين على هذا العدو، وعين على ذاك. ذلك هو قدر الشام ...
إن معركة الوعي والوهم معركة تاريخية، قديمة في نفوس البشر. وإدراك أبعادها، واستخلاص النفس من كوارثها هو ما يرفع أقوام ويخفض أقوام، وما درس أوهام الإخوان منا ببعيد.
د طارق عبد الحليم 11 شعبان 1437 – 17 مايو 2016