الجزء الثالث
عولمة الجهاد
ثم نعود لنتابع ونؤكد ونفصّل النقطة الأخيرة التي طرحناها في الجمل السابقة عن معنى عولمة الجهاد، وتصوره، فهو، كما أحسب، لبّ هذا البحث وأساسه.
قلنا أنه يمكن أن ينظر المحلل الباحث إلى عولمة الجهاد من مناظير مختلفة، كلا مطبقة على أرض الواقع، بشكل أو بآخر.
المنظور الأول: هو أن يتبنى تنظيم ما، ضرب المصالح الغربية عامة، في كل بلاد الدنيا، شرقاً وغرباً، ما مكنته إمكاناته من ذلك. ويكون هذا المقصد هو حجر الأساس في فكر وعمل التنظيم. وهو ما كان عليه فكر القاعدة حتى ما بعد أحداث سبتمبر 2001. وقد ظهر هذا التوجه كرد فعل على غزو العراق الأول في التسعينيات، واستمر إلى ما بعد سقوط طالبان في أوائل 2002 عقب لغزو الأمريكي لأفغانستان. لكن من الظاهر أنّ هذا التوجه، قد تغير بعد عام 2011، حيث اقتنع الشيخ أسامة رحمه الله بأولوية حرب العدو الداخلي، وكان بداية ذلك ما تم من بيعة أبي مصعب الزرقاويّ للقاعدة، حين أعلن تنظيم التوحيد والجهاد في العراق، التي كان من شروطها حرب النظام الرافضيّ ودفع الصائل الغربيّ داخل العراق، وكانت جلّ عملياته ضد النظام المحليّ. ثم تحول خطاب الشيخ أسامة رحمه الله إلى دعم الحركات الجماهيرية في البلاد العربية، حتى إنه دعى إلى إقامة مجلش شورى يعينهم على إنجاح هذه الحركات.
المنظور الثاني: وهو أن تقوم جماعات محلية، في البلدان المختلفة، قدر الإمكان، تعمل على مواجهة النظم بكل وسيلة ممكنة، والعمل على إسقاطها، إما بمساعدة القوى المحلية، أو بضربات نوعية تهدف لخلخلة النظام وأعوانه، ومنهم ما قد يكون من قوى غربية داعمة، عسكرية أو سياسية "استشارية". وهذا اللون من المواجهة هو عولمة بمعنى آخر، ليس فيه نقل الجهاد إلى أرض الغرب، بل بمعنى أن يكون للتنظيم فروع في كلّ أرض مسلمة ما أمكن. ولا شك أن ما ورد في وثيقة "توجيهات عامة للعمل الجهادي" للشيخ د الظواهري، تلك الوثيقة بالغة الأهمية، في بنديها 8 و 9، عن وجوب التحذير من أية تفجيرات في المساجد أو التجمعات المسلمة، ومن الواضح أن قوى الغرب لا يمكن أن تكون متواجدة بالأصالة في هذه الأماكن، فالتحذير إذا موجه لمن يعمل ضد الأنظمة، وإلا لم يكن له فائدة تُذكر.
ولعل لقائل أن يقول إن هذا التحليل يناقض ما جاء صراحة في تلك الوثيقة، التي تنص في بندها الثالث على تجنب الصدام مع الأنظمة المحلية. فأقول وبالله الوفيق، نعم، لعل هذا هو الموقف الرسميّ للقاعدة، وهو الموقف التاريخي لها، لكنّ ما على الأرض قد يخالف هذا النصّ، بما رأيناه من تبني القاعدة لمنهج الثورات الجماهيرية الشعبية، واعتبار الحاضنات الشعبية كمصدر لوقودها وجنودها.
وما أراه هنا، هو أن القاعدة، قد تحولت، عملياً، من المنظور الأول في العولمة إلى المنظور الثاني تدريجياً منذ 2006، حين وافقت على انضمام الزرقاوي رحمه الله لها، وتمثيله لتنظيمها في العراق، وإلا فأين العمليات التي نفذتها في بلاد أوروبا أو أمريكا، بعد أحداث مدريد عام 2004 ونفق لندن في يوليو 2005؟ كلّ ما حدث بعد هذين الحدثين، كانت تصرفات فردية لا يمكن أن تُحسب على تنظيم ما.
المنظور الثالث: وهو المنظور العبثي الذي يروج له تنظيم الدولة الحروري. وهو ليست عولمة حقيقية تهدف إلى التأثير على أمريكا للخروج من الغرب، أو على أوروبا لتغيير سياساتها. بل هي مجرد هجمات لسببين: أولهما، تحسين منظرها أمام أتباعها، والثاني لمنافسة القاعدة ليس إلا، مثل حادث محل المجوهرات في باريس عقب هجوم تشارلي أبيدو. وهو كما قلنا، ليس عولمة بحال، بل هو مصلحة شخصية لتنظيم يريد التنفّذ في الأرض.
(6)
ما مدى المصلحة في توسيع رقعة المواجهة؟
المقصد الرئيس في أي عمل إسلاميّ، فرديّ أو جماعيّ، شعائري أو شرائعيّ، هو جلب مصالح العباد، على أتم وجه، ودرأ المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة. وحيثما وُجد الحكم الشرعيّ الصحيح، وقعت المصلحة، وتخلفت المفسدة. وهذا هو الوجه الصحيح الموافق للكتاب والسنة، لا كما يروج البعض مما جاء عرضا في نقول بعض الأولين من أنه حيثما وُجدت المصلحة وقع الحكم الشرعيّ. والفارق بينهما دقيق وكبير. فالوصف الثاني يضع المصلحة أولاً، وهذا حقً من جهة مقصد الشارع، بلا شك. ولكن الوصف الأول هو الأحق بالاتباع من جهة تصرّف المُكلّف. إذ يجب علي المكلفين تعيين الحكم الشرعي بأدلته الصحيحة، ومن ثم يمكن التعرف على المصلحة كتابع لا كمتبوع. فيجب الانتباه إلى ذلك، فكم وقع من عدم التفريق بينهما من مخالفات أدت إلى تأخير نصرٍ، أو تضييع حقٍ.
وهناك عدد من القواعد الشرعية والمفاهيم التي تقع تحتها الأحكام المتعلقة بهذا الشأن، شأن توسيع رقعة المواجهة، بعد أن وصلنا إلى نتيجة أن:
- العدو الأول والأصيل هم الحكام العرب ونظمهم وجيوشهم.
- المواجهة تتم أصلاً على أرض المسلمين في عقر دارهم.
من تلك القواعد والمفاهيم أنّ:
- "التكليف منوط بالقدرة"، فالانسان لا يُكّلف بما لا يقدر عليه "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"
- الطلب الشرعي درجات عديدة، إيجابا وندبا وإباحة. والإباحة أنواع منها التخيير متساو الطرفين ومنها العفو ورفع الجناح، وتتغير صفة الطلب بين الفرد والجماعة.
- دفع المضرة مقدم على جلب المصلحة، ودفع القريبة منها أولى من دفع البعيدة.
- أن مفهوم العام منه ما هو عام بإطلاق، وعام مخصوص، وعام يدخله الخصوص. وكل منّ هذه الأنواع قد تختلف في خطاب الفرد عنها في خطاب الجماعة
فإذا نظرنا في آيات الجهاد، خاصة في سورة التوبة، لوضح ما نقصد اليه في الفقرات التالية إن شاء الله.
يتبع الجزء الرابع
د طارق عبد الحليم