فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      بين الراية النقية والراية العمية .. المناهجة واللامناهجة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد

      اللهم اجعل لحديثنا هذا قبولاً عند أصحاب العقول الذكية والنفوس الرضية والفطر السوية، ثم لا نبغي بعد هؤلاء أحدا!

      تعالت كلمات ومصطلحات في الساحة الشامية، التي هي اليوم محل الأنظار ومحط الأخبار في العالم الإسلامي، بل والعالم أجمع، بعد أن توافدت على سمائها وحل على أرضها قوات من نصف الأمم المتحدة على الإسلام، غير مدعوّة ولا مُرحب بها. وكان لهذه الكلمات أثرٌ كبير في استمرار المشاحنة والبغضاء بل وشق الصفوف المتداعية أصلاً، في الجبهة السنية. فكان هذا مما يثير التساؤل: أيصدق العاقل ما يحدث على الأرض؟ أيمكن أن يكون قادة السنة بهذا المستوى، فيظلوا متفرقين متناحرين وأمم العالم تتكالب عليهم مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

      وأول هذه المصطلحات "المناهجة واللامناهجة" وصار فريقان على الساحة، منهم أصحاب علم وطلبته يتراشقون بهذه المصطلحات، وهي في حقيقة الأمر لا تعنى شيئا كما بيّنا في مقال سابق، من حيث إن المنهج كمصطلح لم يتحدد ولم ينضبط، فالإحالة اليه لا تغني شيئاً، إذ قد يكون معناه مغايراً عند المتجادلين.

      ثم ظهرت قولة بين الفريقين، يقولها "اللامناهجة"، ويعلم الله ماذا يعني هذا!، هذه القولة هي إن "المناهجة" (!) لا يرون القتال إلا تحت راية "نقية"، وإلا إن لم تكن نقية فهي عمية، وهو ممنوع في الشرع، كما في الحديث.

      ومن هذا نفهم أنّ "اللامناهجة" يرون أنه يمكن القتال تحت رايات مختلطة، منها "عمية" ومنها "نقية"، وأن هذا مقتضى السياسة الشرعية ومناسبة الأحداث الحالية!

      فنحن، إذن، أمام قسمة ثلاثية، راية نقية، وراية عمية وراية نقية/عمية!

      وهذا، يا إخوة الإسلام، باطل محضٌ وقسمة ضيزى.

      نسيَ المقتسمون، في هذا الموضع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلها قسمة ثنائية لا ثلاثية، فلا مجال لهذا الهراء السابق.

      فإن قال "اللامناهجة": بل رايتنا "نقية"، قلنا إذن فما صرفكم عن "المناهجة"؟ أم تقولون أن راية "المناهجة" عمية، ورايكم هي النقية؟ فقط رُوا رأيا والتزموا به لعلنا نصل إلى نتيجة.

      والحق أنّ كلا الجانبين، "المناهجة" و"اللامناهجة"، على خطئ في هذا الأمر كله.

      النظر المستقيم يستلزم أن نفرق بين الراية وبين من هم تحت الراية. الراية العامة والرايات الفردية.

      فالراية لابد أن تكون نقية على السنة بلا تسيب ولا انحراف. والراية هنا هي التوجه العام والمنهج بكافة معانيه المحتملة، سواء في التوحيد أو طرق النظر والاستدلال المميزة بين السنة والبدعة، كما تعنى القيادة، والقادة المسؤولين الموجهين للحركة ككل. هذا لا يصح عمل يقف به مسلم سنيّ أمام الله سبحانه إلا به.

      لكن الناس، المندمجين تحت الراية، يمكن أن تكون راياتهم الفردية فيها اعوجاج وفساد وانحراف. كما يمكن أن تكون سليمة مستقيمة على المحجة. وهذا كله مقبول تحت راية الحق العامة النقية. فإن زادت نسبة الخبث والاعوجاج، خرجت الراية العامة عن نقائها، وذلك حسب ما في أصول الفقه من فوائد. ألا ترى أن خلل التحسيني بإطلاق يقدح في صحة الحاجيّ، وخلل الحاجيّ بإطلاق يقدح في صحة الضروريّ، فإن سقط الحاجيّ بالتمام، أي مثالا إن ترك أحدٌ كل الأوامر الشرعية الندبية، حتى أصبحت الصلاة رموزا وحركات، وفعل كافة المكروهات في الشريعة، لكان في ذلك انعكاس على صحة عقيدته وشك في دينه.

      وهنا حدث التداخل والخلط بين "المناهجة" و"اللامناهجة". فحين تحدث "اللامناهجة" عن عدم صفاء الراية، تحدثوا عن إمكان أن ينضم تحت راية الحق النقية رايات فردية، سواء على مستوى الفرد أو الإمارات المنفردة المتناثرة في داخل الحركة. لكنهم، والله تعالى أعلم، لم يقصدوا أن يكون هناك تحت الراية، التي قلنا إنها التوجه العام، عميل مفضوح، أو مرتد متفق على ردته، أو منحرف الفكر انحرافا جالبا لضرر عام. فإن قصدوا ذلك، أو تغافلوا عنه، أو غفلوا عنه، فهم في بلاء كبير.

      ولنضرب مثالاً يكملُ به البيان، قضية تلقى الدعم، اعتبرها "اللامناهجة" أنها مما تزمّت فيه "المناهجة"، وأنهم يرون إنها تفسد المنهج، وتنجس نقاء الراية. وهي بالفعل قضية تتعلق بالتوجه العام لجماعة ما. كما إنها ترسم، في تطبيقاتها، سياسة محددة فيها من أشكال التقارب والتعاون مع العدو، الزاهر والمستبطن، ما يحتاج إلى الكثير من التحليل والحذر في التطبيق.

      ثم قضايا القومية السورية وهوية الثورة، وقضية "الشريعة"، هل نعلن إننا سنرفعها أم نكتفى بألفاظ متميعة مثل الهوية والانتماء وما إلى ذلك، مما هو في القلب من المذهب الإخواني في النظر.

      هذه القضايا هي قضايا محورية تتعلق بالراية العامة والتوجه الأصلي لجماعة ما. وحسمها يوضح ما عليه هذه الجماعة ومذهبها العقدي والعمليّ، بل ويكشف مآلها، كما رأينا من مآلات غيرها عبر التاريخ.

      أما انحراف بعض الأمراء، أو تفشى ظلم معين، أو سرقات هنا وهناك، فهذه رايات فردية، يحويها كل تجمع، ثم يطهر نفسه من خبائثه، إن ظلت الراية العامة صالحة قوية، لم تحمل خبثاً.

      ومن ثمّ فإن الخروج على جماعة ما، والانشقاق عنها بدعوى إنها تحمل خبثاً من أي نوع، وبالتالي فإن راياتها الفردية غير نقية، لا يجوز ولا يصح، قياساً على السنة في القتال خلف كل إمام بر وفاجر، ومندرج تحت القاعدة العامة "لا يُدفع الضرر بضرر أكبر منه". وشق الصف أكبر درجة من تحمل "التهميش" أو "الاستبداد بالرأي" أو وجود فساد، وهذا في حال جهاد الدفع أو دفع الصائل. أما في جهاد الطلب، وهو غير موجود على الأرض اليوم، فهذا ممكن متاح، فوجبت التفرقة.

      فمن استعمل فتاوي البيعة العظمي والصغرى، وحدودهما، دون ربطهما بنوع الجهاد فقد تعثر في فتواه، وأشاع الضرر وطبق فقها لا فقه فيه.

      د طارق عبد الحليم

      10 أكتوبر 2015 – 28 ذي الحجة 1436