فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      أخوة المنهج .. أم منهج الأخوة؟ ... الورع البارد السقيم

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      "أخوة المنهج"، قولة جديدة ظهرت على الساحة الجهادية، بعد أن انقسمت على نفسها مرتين، مرة بين سنة وبدعة، ومرة بين سنة حمائم، وسنة صقور.

      وقد قلنا إنها "قولة" لأننا لا نراه مصطلحا بعد. فالمصطلح، بضرورة التسمية، هو ما اصطلح الناس، أي تصالحوا، على معناه، ولم يختلفوا عليه. فإن اختلفوا عليه، لم يعد مصطلحاً، بل أقرب إلى أن يكون مُختَصَماً، إلا إن وُضع له حدّ جامع مانع، يجمع ما يدخل فيه، ويمنع ما يرد عليه من خارجه.

      فإذا نظرنا إلى قولة "أخوة المنهج" رأينا أنها تتكون من حرفين. أولها "الأخوة". والأخوة في الإسلام، تقوم بين المؤمنين "إنما المؤمنون إخوة"، كما تقوم بين المتخاصمين من المؤمنين، أو حتى بين المتقاتلين فيما بينهم، بغياً "فأصلحوا بين أخويكم". وإلى هذا الحدّ لا أرى أن أحداً يمكن أن يشغب على ما قررنا.

      لكن الأمر هو النظر في الحرف الثاني من القولة، وأقصد بها "المنهج". ما المنهج الذي يتآخي عليه المؤمنون، وتحت أي ظرف يصير المنهج عائقاً أمام الأخوة؟

      والمنهج، كما يعرّفه أصحاب المصطلح، هو الطريق أو السنة "لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً"، فالشرعة هي تفاصيل الأحكام، والمنهاج هو ما ينبني عليها من تطبيقات، سواءً في مناطات الأحكام أو وسائل التعامل.

      فالمنهاج قد يعنى أمرين:

      1. المنهاج بمعناه الخاص: المقصود عن عامة من تحدث في المصطلح، وهو قرين السنة، وضد البدعة.
      2. المنهاج بمعناه العام: والمقصود به الإسلام

      فبينهما عموم وخصوص.

      والمنهاج الخاص، في نظرنا، له مستويان:

      • مستو تتقرر فيه القواعد الكلية وطرق النظر المستنبطة من "الشرعة".
      • مستو معنيٌّ بالوسائل التي يتخذها المسلمون في معالجة أمورهم، في الأمور الاجتهادية التي لا نص فيها ولا إجماع، أو تلك الأمور التي يحتمل فيها النص تأويلاً[1]، ومن ثمّ تتشعب فيها طرق الإفتاء.

      فالمنهج الخاص، مبنيّ بناءً كاملاً على "الشِرعة"، لأنه مستنبط منها. ومن ثمّ، فلا محل لبدعة فيه، أو مكان لخروج ٍعن السنة.  فالمبتدعة لا يمكن أن يشملهم "المنهج" الذي بيّنا معناه. ومن فعل ذلك فقد بسّط المنهج وأخل بمعناه، واختصره إلى عموم قبول التوحيد، وهو تخريج "لمنهج" آخر بالكلية، أعمّ من منهاجنا الذي نقصد بمستوييه، يعنى به الإسلام.

      إذ قد يقال إن "المنهج" هو الذي عليه كلّ من عمل على أن يكون "الحكم لله". أو أنّ من رضي بالحاكمية وأقر بقواعد الولاء والبراء فهو على "المنهج". ذاك المنهج إذن هو قرين التوحيد، لا المنهج الذي نقصده كقرينٍ للشرعة، وكبناء قائم على السنة.

      ولا نرفض هذا التأويل لكلمة المنهج، لكننا نبيّن هنا الاضطراب الذي قد يحدث بسبب عدم ضبط المصطلح بين المتناظرين. كما أننا نسجّل أنّ "المنهج" بمعناه الثاني، ليس إلا التوحيد، ورابطة الإسلام، من حيث أنّ البدعة قد أخرجت صاحبها من المفهوم الأول للمنهج، إلى المفهوم الأوسع، الذي يربطه بالتوحيد.

      فإذا طبقنا هذا التفصيل على الوضع في الشام، برزت الينا مناح مختلفة، يمجها العقل وتأباها الفطرة السليمة، مع صحته في مناطات معينة. فإنه حسب "المنهج" بالمعنى الثاني، فإننا يجب أن نقف مع الرافضة الإثني عشرية إن هاجمتهم أمريكا! فإنهم، عند غالب أهل السنة، أصحاب بدعة، ليسوا كفاراً كفراً عينياً. وإنما هم قوم "يقتلون السنة وهم على بدعة عقدية"، كما أنهم يدعون إلى تطبيق الشريعة، ولهم فيها مذهب معتبر في الفقه. فإذا ما الذي يجعل الحرورية تختلف في حكمها عن أولئك، إذ هم "قوم يقتلون السنة، وهم على بدعة عقدية"، وهم كذلك يدعون إلى تطبيق الشريعة! فهل هناك ما يميّز الفرقتان عن بعضهما؟ ومن ثم نعينا على من توقف في تسمية الحروية باسمهم، إذ هذا خلل منهجي واضح يبين بجلاء اضطراب فهم الفرق بين الفرق، والفرق بين المناهج على حدّ سواء.

      هذا بالنظر إلى الحرورية في مقابل السنة. لا أخوة منهج بينهم وبين السنة بالمعنى الأول. وهو المعنى الذي يميز السنيّ من البدعيّ.

      لكن الأمر لم يتوقف عند هذا، بل إن من داخل أهل السنة، من تبنى فكر الغلاة، وأصبح من الغلاة، لكنه لم يصل إلى درجة أن يقاتل إخوانه علي ذلك، فإن فعل، فهو باغ، وإن كفّرهم فهو حروري.

      ثم، ما انقسم اليه أهل السنة أنفسهم، في التعامل مع هؤلاء، إلى ثلاث وجهات، وجهة هي مصدر غلو تقرب ما يمكن من الحرورية، ثم وجهتين تفترقان في التعامل معها، أولهما من يقول "هم "إخوة المنهج"، لأنهم لم يخرجوا إلى الحرورية، وأسميناهم بالحمائم. والوجهة الثانية من يقول: بل هم غلاة يجب تصحيح مذاهبهم وأفعالهم والأخذ على أيديهم قبل أن يستفحل أمرهم، ويصيروا دواعش السنة! بل يلتقون مع الحرورية على الحد الفاصل بين السنة والبدعة، يوشكوا أن يقعوا فيها، وأسميناهم بالصقور.

      فالحمائم، يرون "منهج الأخوة" أصل في الإسلام، "إنما المؤمنون إخوة"، فالأخوة هي التي ترسم الطريق ليسيروا عليه كمنهج. هؤلاء هم أقرب إلى ما يمكن أن يكون "التيار الإخوانيّ" الجهاديّ، وفيهم الكثير من الورع البارد وتكلف التقوى، إما حبا في مذهب الحرورية دون الوصول إلى تبنيه، أو جهلاً بمذهب السنة فلا يعرفون متنه من حواشيه! وإنك لتكاد تشعر بالبرودة بمجرد مصافحة أحد هؤلاء من كثرة الورع البارد!

      والصقور، يرون أنّ "أخوة المنهج" لا تصح مع مبتدع أو غالٍ، إنما منهج الإخوة يقوم بين أصحاب السنة، لا مع الغلاة ولا مع المبتدعين.

      والحق، أنّ الحّكّم في هذا هو اعتبار المآل. فإنّ ظهور السنة، واندحار البدعة أو الغلو أصلٌ مقصود لذاته.وهو مصدر النصر ووسيلته التي لا وسيلة غيرها، وإن ظهر لصاحب النظر القصير غير ذلك. فإن وُجد ما يهدد السنة، لدرجة يُخشى معها أن تنهزم أمام الغلو والبدعة، فلا أخوة منهج، ولا منهج أخوة. بل يجب التصدي لها بالحكمة والبيان، وبالتوجيه والإرشاد، طالما لا يزال أصحابها لم يحملوا السلاح، ينتصرون لغلوهم. كما لا يصح السكوت عليها بحال، إذ من طبيعة الغلو التعاظم والتورم، فيبدأ صغيراً ثم يجتاح الجسد السنيّ، كما رأينا الصوفية على مدى القرون، وما نراه اليوم في الحرورية البغدادية.

      وهذا عين الذي يحدث على الساحة السنية، بين غلوٍ وتسيب، أو إفراط وتفريط.

      أخوة المنهج، إذن، تعتمد على المنهج الذي نعتمده، وحدوده وضوابطه. فمنهج الصحابة في النظر واعتبار الأمور، لا يمكن أن يكون بين أصحابه وبين الحرورية أخوة. كيف وقد قال صلى الله عليه سلم "لأقتلنهم قتل عاد"؟ ولذلك ترى من يقول اليوم بأخوة المنهج هم من وقفوا في تسمية الحرورية باسمها ووسمها بصفتها، إذ لا يجتمعان، حرورية وأخوة منهج.

      كما أنّ من شَدّ على الغلاة، داخل الصف السنيّ، واعتبر مآلات التقصير في مواجهته،هو أقرب إلى الصواب من غيره ممن اعتبر "منهج الأخوة" في هذا المقام، لكن بشرط التزام الدعوة والنصح والتوجيه والترشيد، حتى لا ندفعهم إلى الإباق إلى حظيرة الحرورية.

      النتيجة:

      إذن يتحصل لنا هذه الصورة من داخل الصف السنيّ:

      1. فريق اختلف على توصيف العوادية، بين قائل هم حرورية، وهم الأغلبية المطلقة، وبين من قال هم غلاة، وتوقف عن الحرورية، وهم اصحاب الشذوذ في الرأي. وهؤلاء لابد أن يختلفوا في مفهوميّ الإخوة والمنهج جميعاً.
      2. فريق اختلف في التعامل مع الغلاة داخل التيار السنيّ ذاته (النصرة والأحرار وغيرهما)، بين قائل هم إخوة في المنهج طالما لم يقاتلوا، كبعض المنتسبين للنصرة والأحرار، وبين من يقول يجب الضرب على أيديهم لا الرفق بهم، باعتبار مآلات ما سيصلون اليه، وداعش أكبر مثال حيّ على نتيجة التسيب في هذا. وقد رأينا مثالاً في فصائل "صقور الشام" وبعض منتسبي السنة في فلسطين، تقف بين داعش وبين السنة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومصيرهم إلى داعش.

      وهذا، مع الأسف قريب من الانشقاق الذي حدث داخل الصف الحروريّ، بين غلاة الجرورية ممن يكفّر العاذر، ومن لا يكفره، أو من لا يكفر من لا يكفره!. وكلهم داخل الصف الحروريّ.

      وما نرى إلا أنّ منهج الأخوة صحيح معتبر، كفرع من فروع "المنهج الخاص" الذي يتآخي فيه المؤمنون. فهناك غيره منهج الصبر ومنهج التقوى وغيرهم كثير من مناهج فرعية تدخل تحت "المنهج" الأصليّ الذي عرّفنا كلياته.

      وهذه المناهج الفرعية، تُعتبر ما لم تؤثر على أصلها، وتعود عليه بالإبطال. فإن كان منهج الأخوة سيهدم اتّباع "منهج" السنة ونفي البدعة، فلا يعتبر في هذا المناط، وهو غالباً يتحقق في أوقات الجهاد وضرورة المفاصلات.

      كذلك إن أدى منهج التقوى، إلى الورع البارد، المقصود به، التورع عن ذكر الحق، خشية الوقوع في باطل، فهذا منهج يجب تجاوزه، إذ هو إما غير مطلوب في ذاك المناط، أو إنّه فهم مغلوط للتقوى من حيث اتباع الحق، اتقاءً لغضب الله.

      والله وليّ التوفيق

      د طارق عبد الحليم

      22 ذو القعدة 1435 – 17 سبتمبر 2014


      [1]  ولا نقصد بالتأويل هنا ما اصطلح عليه الأصوليون "صرف اللفظ عن ظاهره لقرينة"، بل نعنى به ما هو ضد الإحكام، كالمخصصات والمقيدات المبينات وأمثال ذلك من أوجه التفسير والبيان.