فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ردّ على شُبهة تكفير الحرورية للشيخ الجولاني دون جنده

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد

      فإن بعض شبهات في موضوع توصيف جماعة العوادية، تتردد في الساحة الشامية بين بعض الشباب، مما دفعني إلى الردّ على تلك الشبهات، عسى الله أن يرفع هذا الخلاف الذي هو في حقيقته، خاصة بعد مداولة تلك الشبهات ودحضها، فإنها ليست بخلاف معتبر شرعا. والحق أنه لولا تأثر هؤلاء الشباب بتلك الشبهات لما تكلفنا معاناة الرد عليها، من حيث إنها لا ترقى لمستوى الدليل كما سنرى.

      ونبدأ بقول أنّ الدليل الشرعي هو ما يأتي من نصٍ، أو اجتهاد. والنص هو الكتاب والسنة والإجماع، والاجتهاد هو القياس والاستصحاب والاستحسان والمصلحة المرسلة وسد الذرائع والعرف، على أشهر الأقوال. ثم يأتي تحقيق مناط الدليل بتنزيله على واقع معين، أو شخص أو جماعة أو فكرة أو ما شئت من حادث يعرض في دنيا الناس.

      وقد ثارت شبهات من قبل عن الدليل الشرعي المتعلق بتوصيف الغلاة، منها حلق الشعر وبعض الأوصاف الجسدية، ردّ عليها الكثير من الأحباب، فلا داعٍ للإعادة.

      لكنّ الشبهة التي سنركز عليها هنا هي شبهة أن هناك قطاع من أتباع ابن عواد يرون كفر الشيخ الجولاني ولا يرون كفر جنوده! وأنّ لهم تأويل في ذلك من حيث قالوا إن الجولاني حارب الدولة في صفّ بعض فصائل الجيش الحر، فحرّروا مناطق كان الشرع مطبقا فيها، حسب رؤيتهم للشرع، فلم يصبح مطبقاً.

      وليس المقصود هنا الدفاع عن شخص الشيخ الجولاني بالذات، لكن إظهار خطأ نظر فيه قصور فقهيّ في اعتبار الأدلة عامة.

      فنقول وبالله التوفيق:

      أولاً، إن استعمال التعليل بالتأويل هنا هو أصلاً استعمال خاطئ للفظة التأويل، لغة وشرعا. ثم أهناك فرقة بدعية لم تبنى أقوالها على تأويل؟ ألم تأول المعتزلة الصفات؟ ألم يؤول الرافضة آيات الله في القرآن مدحاً لعليّ وقدحاً في أم المؤمنين عائشة؟ ألم يؤول الحرورية الأُول قول الله تعالى "لا حكم إلا لله" فأسقطوه على تحكيم علي وحكموا بكفره وبكفر معاوية؟ هل يقبل هذا التأويل في مذهب أهل السنة؟ ودعونا نأخذ جولة سريعة في معنى التأويل وأصنافه.

      التأويل عند أهل السنة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم عليه دليل من الكتاب والسنة، ومثاله ما ورد في حديث الشفعة "الجار أولى بقصبه"، أوّلوا القصب بالجار الملاصق كما ذكر الأصمعي. وقسمٌ ثانٍ كما ذكر الشنقيطيّ، هو ما يعتقد المجاهد أن عليه دليل وليس بذاك، كما في قول أبي حنيفة عن "أيما امرأة تنكح من غير إذن وليها فنكاحها باطل: إنها في المكاتبة، وهذا لا يستقيم مع الدليل، فامرأة لفظ مطلق، وأيما قول يدل على العموم، فلا تخصيص بمكاتبة، وهو تأويل غير مقبول. وقسم ثالث هو عبث محض، وهو ما لا دليل عليه يستقيم مع ما هو مقبول النظر فيه كتأويل أوشبهة تأويل. وحتى يتضح المعنى، نقول:

      التأويل في نصوص الشريعة ينقسم إلى حقيقي وإضافيّ، فالحقيقيّ هو ما لا تفسير له ولا بيان، وهو كما في الأحرف الأولى لبعض السور "ألم، ألر ...". وهذه علمها عند الله، عند من وقف على قوله تعالى في سورة آل عمران "لا يعلم تأويله إلا الله". ولا يجب هنا أن يقال بالتأويل في آيات الصفات كما فعل من وقف على قوله تعالى "والراسخون فيالعلم" فلجأ إلى تأويل الصفات بلا داعٍ، إذ للصفات معنى ظاهر لا داع لتأويله، هو موضوع آخر ليس موضعه ها هنا. ثم الثاني وهو التأويل الإضافي، وهو الغالب في الشريعة، وهو بمعني البيان للمجمل والتخصيص للعموم والتقييد للمطلق والناسخ للمنسوخ. فتعبير السلف أنّ هذه العمومات والمطلقات والمجملات والمنسوخات متشابهات، حسب آية آل عمران، حتى يُعتبر ما يخصصها ويقيدها ويبيّنها وينسخها إن وجد.

      ولفظ التأويل يأتي بثلاثة معان: أولها التفسير والبيان، كما في قول الطبري "تأويل آية كذا"، وثانيها بمعنى وقوع الأمر على ما ورد تحققا، كما في قول يوسف عليه السلام "هذا تأويل رؤياي من قبل، قد جعله ربي حقا"يوسف. وهذان القسمان هما ما عُرف عند السلف في تلفظها بكلمة التأويل. ثم الثالث وهو ما ورد على لسان المتأخرين في أصول الفقه وهو "صرف اللفظ عن ظاهره لقرينة"[1]. وقد أوضح العلماء هناك شرط لصحة هذا التأويل، وهو أن يكون اللفظ قابلاً لما أُوّل به، فلا يصح أن تُأول البقرة بأم المؤمنين، ويكون محتملا المعنى للتأويل بحيث "يجرى على مقتضى العلم" حسب تعبير الشاطبيّ[2]، أي على ما جرى عليه الناس في الفهم المستقيم عادة. ثم أضاف الشاطبي شرطين آخرين، وهو أن يأتي التأويل المُعَارض به ليكون أقوى في معارضة دليل أضعف منه، فيكون راجحاً لا مرجوحاً. ثم أن يكون التأويل على وجه يصلح به أن يكون دليلا على الجملة، لا أين يكون متوهماً، مثل قول بيان ابن سمعان، مدّعى النبوة، في قوله تعالى "هذا بيان للناس" إنه المقصود في الآية!

      فإذا استوعبنا هذا الفهم للتأويل، في هذه الكلمات المختصرات، ثم نظرنا إلى قول الخوارج الأول، وجدنا أنّ "لا حكم إلا لله" هو من قبيل تحقيق مناط وتنزيل حكم على متشابه لم يُعتبر مخصصه أو مبينه أو مقيده، وهو عمل بالمتشابهات، يدل على مرض القلب. فإن هناك مبينات لمجمل "لا حكم إلا لله"، من حيث إن ذلك الحكم، يقع تارة على حكم الله العام، وتارة على حكم البشر القائم على حكم الله، كما في آية "يحكم به ذوا عدل منكم"المائدة، أو فأتوا بحكم من أهله وحكما من أهلها" فهذا بيان للحكم والتحكيم.

      وإذا نظرنا إلا قول من قال إن طائفة من الحرورية يؤولون في تكفير الجولانيّ بأنه حارب مع بعض فصائل الجيش الحرّ، الكفار بنظرهم، إزالة وجود دولتهم من مناطق معينة كانوا يقيمون الشرع فيها بزعمهم، فهذا منع من إقامة الشريعة فهو كفر. فنقول، على أية آية بني العوادية تحقيق مناطهم؟ لا يكفي عند العالم هذا الاطلاق، بل يجب تحديد الآيات التي اعتمدوها، واعتمد أصحاب الشبهة إنهم يؤولونها، للوصول إلى حكم تكفير الجولاني؟ فإن قالوا "فقاتلوا أئمة الكفر" قلنا هو استدلال بموضع الخلاف، وهو هل هم كفار أم لا.

      أهي قول الله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"؟ وهي عمدة ما قد يتعللون به، نقول نعم، على العين والرأس، لكن عليها اعتراضين، أحدهما في الدليل، والآخر في المناط.

      فأما الذي في المناط، فهل حكموا بما أنزل الله حقاً؟ هل كانت الحرورية تطبق شرع الله حين تلاقي مسلماً فتقتله بالشبهة وتترك الكتابي من حيث أمر الله بإبلاغه مأمنه "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان"؟ هل طبق هؤلاء لعوادية حكم الله، الذي هو حكم الله حقاً، في مناطقهم، ليكون محاربهم عليها كافراً؟ هل قتلهم للمسلمين بالشبهة يومياً بأبشع صور القتل البعثيّ، هو شرع الله الذي يكفر من أبطله في أرضهم؟

      وأما الذي في الدليل، فالآية مخصصة بشروط في تطبيق حكم الله، منها قول الله تعالى "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، فلمَ لم يعتبروا هذه الآية مبينة لقوله "ومن لم يحكم ...". أليس حكم الله هو العدل، وأي عدلٍ في قتل فتاة لحديثها مع أخيها؟ وما الذي جعل أخاها مرتداً أصلاً؟ ومنها قول الله تعالى "ولا تعتدوا"، وهؤلاء معتدون في كل تصرف.

      ولا يصح التعلل هنا بأن البغاة معتدون، كما في أهل الجمل وصفين، فهؤلاء لم يكفروا عليا وصحبه، فلا وجه لمقارنة. كما لا يمكن التعلل بأنهم فساق يجب اتباعهم إن أقاموا الشريعة، لأننا نقول ليس هذا بفسق عند من ادعى السنة، فقد كفّروا بلا برهان، وقتلوا علي ما رأوه هم كفراً، فهذا ليس بفسق اصطلاحي، وليس بغلو اصطلاحي لا يصاحبه قتل، بل هي حرورية محضة.

      فأيّ شريعة هذه التي يطبقون، حتى يكفر مبطلها؟ إن إبطال حكمهم في مناطقهم واجب شرعيّ، إذ فيه دفع ضرر مؤكد من استحلال دماء مسلمة، لا يوازيها قطع يد سارق أو جلد زانية. تلك دماء تراق بلا حق، وإن ما أنزل الله يأبي إراقة تلك الدماء بغير حق. فتنزيل آية المائدة "ومن لم يحكم ..." باطلٌ أصلا، وليس بتأويلٍ أصلاً، فلا يصح الاستدلال بها حتى يثبت أن حكمَهم هو حكم الله سبحانه. كما لا يصح أن يكون من الصنف الثاني من التأويل، الذي هو توهم مجتهد شبهة دليل، إذ ليس في هؤلاء جميعا، فقيه واحد معتبر، بله مجتهد، ورأسهم تركي البنعلي (المعتدل عند بعضهم) كان تلميذا للشيخ المقدسي وللشيخ السباعي ولكل شيخ في الأرض يعطيه ورقة إجازة، أو يأخذ معه صورة فوتوغرافية! أعلى هذا يعوّل في تكفير الجولاني وغيره، ويقال هذا حكم بما أنزل الله؟ فهو إذن من باب ما ذكر الشاطبي، مبنيّ على وهم وتصورات لا يشهد لها دليل إلا من شبهة مجردة، لعب ووهم! أفيقوا رحمكم الله.

      ثم إن نظرنا في الجزء الثاني في مقولتهم الباطلة، إن من حرر تلك المناطق لم يُقم فيها شرع الله، قلنا، هذا أمرٌ يرجع إلا خلاف فقهي، في تطبيق الحدود في دار الحرب، من الناس من يؤيده ومنهم من يعارضه، فهو من ثم ليس مناط تكفيرٍ أصلاً لوقوع الخلاف فيه بين المعتبرين.

      وإن فرضنا صحة معلومة أنّ هناك من يقول بكفر الجولانيّ وعدم كفر جنوده، فما دلالة ذلك؟ لقد كفر هؤلاء الشيوخ د الظواهري، ود السباعي والشيخ المقدسي والعبد الفقير، وغيرهم كثير من أصحاب العلم، ورؤوس الجهاد في العالم، وقتلوا المسلمين ردة، فهل يُغني ادعاء تأويل في ذلك؟

      د طارق عبد الحليم

      22 سبتمبر 2015 – 8 ذو الحجة 1436

      [1]  ارجع لكتاب ابن تيمية "الإكليل في المتشابه والتأويل"

      [2]  الموافقات للشاطبي، كتاب الأدلة، ج3 ص 98 وما بعدها، طبعة دار المعرفة