الأخطاء التي يجب الحذر والتحذير منها في فكر الحرورية
إن الحمد لله نستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد
من الصعب، في حقيقة الأمر، أن نطلق مصطلح "فكر الحرورية"، دون أن نشير إلى حقيقة أنه لا "فكر" بشكلٍ محدد يمكن نسبته إلى الحرورية. ذلك أنّ المنطلق الحروري في التفكير يعتمد النظر إلى الشريعة من خلال أحكام جزئياتها، لا من خلال اعتبار كلياتها. فهي في هذا المذهب، ليست كلَّا عضوياً واحدا كالجسد الواحد، بل هي أعضاء متناثرة يتركب منها مخلوق مشوّه ليس بآدميّ سويّ كما خلقه الله سبحانه، وهو ما سنبيّنه بصورة أوسع فيما يأتي إن شاء الله. وهذا المنطلق ليس فكراً، بل هو إلى التطبيق المباشر، ومن ثم الظاهرية، أقرب مأخذا من أيّ شيء آخر.
والمنطلق الحروريّ في تناول الأمور، أو إن أردت الاختصار، الفكر الحروريّ، فيه الكثير من الأخطاء المنهجية، وإن اعتمد أساساً على نفس المصدر التشريعيّ الذي يعتمد عليه علماء السنة، ألا وهو القرآن والحديث. لكنّهم بعد ذلك يختلفون عن علماء السنة في منهج النظر إلى تلك النصوص التشريعية، تأصيلاً وتحليلاً، ومن ثمّ، مأخذا وتطبيقاً.
والحرورية على مدى التاريخ، لم يكن لهم دور في إنشاء منهج نظريّ متكامل، يجمع شتات مذهبهم، كما فعلت الأشاعرة على سبيل المثال. ومن ثم، فإن الأشاعرة، أقرب إلى أهل السنة، كمذهب، من غيرهم. ومن الجدير أن نشير إلى أنّ عددا من أكابر علماء السنة قد تبنوا قولا من أقوال الأشاعرة، مما لا يجعلهم في عداد "فرقة" الأشاعرة بالكلية. لكنّ هذا أمر يخرج ببحثنا عن مساره المعتمد.
وسنحاول في هذا العرض أن نبيّن مناحي الانحراف في الفكر الحروريّ عامة، والعواديّ خاصة، في أصول نظرهم وفي التفريعات التي بنيت عليه. والحق إننا سنحاول أن نبني لهم أصولاً نجمعها من شتات تصرفاتهم وأقوالهم، إذ ليس لديهم من يقدر على ذلك، لفقرهم الطَبعي في الناحية العلمية الشرعية.
(1)
لعل الأصل الذي يخرج بالحرورية من دائرة السنة إلى البدعة هو ذلك النمط من "النظر الجزئي"، والذي أشرنا اليه آنفا. ذلك أن هذا المنحى هو أصل مشتركٌ بين كافة الفرق البدعية. يقول الشاطبيّ في تمثيله الرائع عن منهج أهل السنة في النظر والاستدلال بالدليل الشرعي"وما مثلها – أي الشريعة - إلا مثل الإنسان الصحيح السوي. فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا حتى يستنطق فلا ينطق باليد وحدها ولا بالرجل وحدها ولا بالرأس وحده ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمى بها إنسانا، كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها لا من دليل منها أي دليل كان وإن ظهر لبادى الرأي نطق ذلك الدليل فإنما هو توهمي لا حقيقي، كاليد إذا استنطقت فإنما تنطق توهما لا حقيقة من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان لأنه محال. فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما، أي دليل كان، عفوا وأخذا أوليا، وإن كان ثم ما يعارضه من كلى أو جزئي. فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا فمتبعه متبع متشابه ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ ما شهد الله به (ومن أصدق من الله قيلا)"[1]. وخلاصة ذلك أن التوجه الحروريّ ينظر إلى الشريعة مقطعة مجزأة، تارة يعتبر الجزئيات والنصوص المحددة، بلا نظر إلى الكليات التي يجب أن تقع تلك الجزئيات تحتها. وتارة يعتبر الكليات دون النظر إلى ما تحتها من جزئيات تضبط صحة تطبيقها. وسنعطي أمثلة على كلٍّ من تطبيقات العوادية في هذا العصر.
هذا المَنحى من النظر هو أصل البلاء عند أهل الأهواء، بلا اختلاف بينهم في ذلك. وعليه يتركب سائر بلائهم في المناحي الشرعية الأخرى.
وينشأ هذا المنحى من طريقين، إما شدة الجهل بالشريعة من حيث عدم العلم بها أو صرف الوقت في دراستها ابتداء. وهو ما نراه في تعليقات الأتباع من جهل وتخبط. والطريق الآخر هو النظر في بعض الأدلة مع انحراف في فهم مآخذها، كما يحدث مع بعض من ينسبونهم لعلم. والمثير في الأمر أن كلا الطريقين يصل بسالكه إلى نفس النتيجة الخاطئة! والجهل صفة قد تقع على عدم العلم أو على انحراف العلم[2].
وفي هذا المنحى، منحى الزائغين، ما فيه من افتئات على الشريعة وواضعها سبحانه، ومبيّنها للأمة صلى الله عليه سلم. فإن واضع الشريعة واحد صمد لا شريك له، فما كان لها أن تتعدد في توجيه النظر، بل هي تسير على مهيع التوحيد، عقيدة وشريعة. فمن اضطرب في إرجاع بعضها لبعض وجمع أطرافها وترتيب مداركها لتلتقي على طريق واحد، فقد أخل بالمفهوم الواسع للتوحيد، وسقط في جناية رمي الله سبحانه بالتخبط في دلالات أحكامه، من حيث لا يدري.
ولهذا فإن منحى أهل السنة، أو منحى الراسخين، هو اعتبار جزئيات الشريعة مع كلياتها، فلا يتضاربا. والكليات هي القواعد العامة، سواءً التي جاء بها النص أو استنبطت بالاستقراء التام أو التغليبيّ أو الناقص، حسب الحال. والجزيئات هي تلك الآيات والأحاديث التي تحمل حكماً شرعي في ذاتها، أو يُستنبط[3] منها حكم شرعيّ بطرق اجتهاد.
ويرى الناظر إلى أحوال الحرورية يرى تطبيق هذا المنحى، منحى الزائغين، بحرفية محترفة، كأنهم تلقوه كابراً عن كابر، أو في هذه الحال، صاغراً عن صاغر. وليس ذاك. إنما هو طريق يسلكه كلّ زائغٍ منذ أن نزل البيان الخاتم على نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو سبب اختلاف الأمة "ولذلك خلقهم"، وهو سبب سعادة السعيد وشقاء البدعي البليد.
فمثلاً، تراهم يطبقون حادثة من السيرة أو نصّ آية أو منطوق حديث صحيح، دون اعتبار أسباب النزول أو مناط التطبيق. أو علة الحكم، هل هي قاصرة أم متعدية، أو عمومه، وما أشبه ذلك مما ليسوا أهلا للنظر فيه ابتداءً.
(2)
اعتبار الجزئيات دون كلياتها:
فمثلا ما جاء عن أحد عوامهم المتعالمين من كلام في جواز، بل وجوب، النفير والبيعة على النساء كما أسماه، دون محرم أو إذن وليّ أمر، إلى ساحة الشام للالتحاق "بالمجاهدين" كما أسماهم، ليحيوا في ظل "دولة الخلافة" كما أسماها، قد اعتمد فيه على قصة أم سلمة، ولحاقها بزوجها بعد أن أعيد اليها ولدها، وصحبة عثمان بن طلحة لأمّ سلمة رضى الله عنهما. وهو استشهادٌ يدل بلا شك على ما أردنا هنا، وهو اعتبار حكاية حال، أو رواية في السيرة، أو حديث، ينطح به قواعد كلية في الشريعة، ثبتت بما لا يحصى من النصوص والحوادث، تمنع المرأة من الخروج في سفر دون محرم، بل عدم وجوب الصلاة في المسجد عليها، بل صلاتها في قعر بيتها أحب إلى الله من صلاتها في ساحته، والصلاة أوجب الواجبات بلا شك، إلا ضرورة، خاصة إلى أرض حرب، لا يأمن الرجال أنفسهم على أنفسهم، وتحرّم أن تتزوج دون إذن وليها، وإلا بطل نكاحها.
كذلك إن نظرنا في مسألة سبي النساء من غير المسلمين، سواء أهل الكتاب أو غيرهم، فقد اتخذ هؤلاء المتعبدون بهذا النهج حكم حلّ سبايا الحرب ليجعلوه أصلاً من أصول الشريعة، وحكما واجباً يتفاخرون به كأنه واجب مفروض. وحكم السبيّ هو الاباحة المطلقة مستوية الطرفين لا إلى المنع ولا إلى الطلب. وما كان هذا حكمه فهو يدخل تحت تقدير المكلف إن كان في باب الأفعال الفردية، أو إلى الإمام المُنَصَّب إن كان في الشؤون العامة كالسبيَ في الحرب. لكنّ الناظر في كليات الشريعة يرى أنّ الأصل هو الدعوة للإسلام، وإعتاق الرقاب، وردّ الحرية على الرقيق، لا العكس. والسبيَ هو مضاد لهذه الكليات، يجب تجنبه قدر المستطاع. ولم نر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام احتفالاً بسبي نساء العدو، بل قام بما دعت اليه الضرورة، في وقتها، من إيجاد مأوى لهم وحماية، في ظلّ نظام الرق الذي كان قائما في كافة أنحاء الأرض، سواء عند الفرس أو الروم. كما إننا نلحظ أنّ السبي لم يحدث إلا بعد التمكين، في المدينة، لضمان القدرة على ردّ المعتدي. وهذا مما يجب أن يعتبره من يأذن في اتخاذ سبايا في ساحات الجهاد اليوم، مراعاة للظروف المحيطة. أما أن يُترك هذا الأمر لعبة في يد غلمان شبقى، جياع لممارسة جنسٍ حرٍ بلا تكاليف، يرونه في صالح الإسلام، ويجعلونه من شعائر الدين وأركان الجهاد، فهذا تقع مسؤوليته على وليّ أمرهم، إن كان لهم وليّ أمر.
هذا النهج من النظر، الذي يلغي كليات شرعية، ثبتت من عديد من النصوص، فصارت بها قواعد عامة حاكمة، لصالح نصٍ له مناطه الخاص تارة، أو كونه حكاية حالٍ أو قضية عين تارة أخرى، هو أسّ البلاء في باب البدعيات.
ومن الأمثلة كذلك استشهادهم بحديث البخاري عن جابر "نصرت بالرعب مسيرة شهر". استدلوا على أنّ الرعب الذي يلقونه في قلوب المسلمين لسماع قدومه هو ما نصر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا منتهى الخطأ والتجني على السنة. فإن الكفار هم من ألقي في قلوبهم الرعب، لا من أسلم. والإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستلزم التسليم له عليه الصلاة والسلام. أمّأ التسليم إبراهيم بن عواد السامرائي فليس إسلاماً، بل هو تسليم لعصابة شرّ مستطر.
كذلك ما جاؤوا به في موضوع الذبح، وهو يقع تحت نفس الأصل المنحرف، حيث اعتبروا جزئيات وردت في الشريعة، بنوا عليها أصلاً لا يتأصل وقعّدوا بها قاعدة لا تنهض. وقد رددت عليه تفصيلاً في مقال بعنوان: هل ذبح البشر من الإسلام – جُرْمُ على جُرم؟[4] فارجع اليه.
وهذا الذي قلنا تجده منبثاً في أدبياتهم كلها، سواء كان استشهادهم بنصوص قرآنية أو حديثية، أو كان بإيراد أقوال أئمة في مواضع لا تليق بالاستشهاد، كما أوردوا قول النووي في باب قتال المحاربين من دفع الصائل تدريجياً حتى لو وصل إلى قتله قُتل، وهو ما ورد عن بن تيمية كذلك، فإن ذلك ثابتٌ في حكم الصائل، لا في حكم المخالف.
(3)
اعتبار الكليات والعمومات دون جزئياتها ومخصصاتها:
يجب أنْ نذكر هنا أن تمزيق أوصال الشريعة واتخاذها عضين، هي السمة الرئيسة لأهل البدع عامة، وللحرورية خاصة. وكما يقع الحرورية في الاشكال الأول من اعتبار الكليات دون جزئياتها، يقعوا في النقيض والضدّ من هذا، باعتبار الكليات دون جزئياتها، وهو دليل على التخبط في المنهج، بل عدم وجوده أصلاً. فالمنهجية تستلزم وحدة في طرق النظر، لا تضاربا صارخا بينها.
والخلل الأول، اعتبار الكليات دون جزئياتها، ينتج تلك الفتاوى المخالفة للسنة النبوية في أبواب المعاملات بشكلٍ عام. أما الخلل الثاني، اعتبار الكليات دون جزئياتها، فهو أخطر شأناً، إذ ينشأ عنه الخلل العقدي أساساً.
ذلك أنّ الحرورية قد نظروا إلى النصوص العامة، مثل "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، أو "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، فأطلقوها دون قيد أو شرط، على عمومها، دون أن ينظروا في الحالات التي قد تقع تحتها، من اعتبار المقاصد أو تحقيق المناطات، أو وجود الموانع. وهذا هو عين اتباع المُتشابه وترك المُحكم. فقد أجمع علماء الأصول، من المُعتبر إجماعهم، على أنّ العمومات والمطلقات دون مخصصاتها أو مقيداتها، هي من المتشابه، وتقع تحت مفهوم آية آل عمران "فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌۭ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ"7. فإن أحد أوجه المتشابه هو غير الواضح بذاته، وما يحتاج لغيره لبيانه، كالعام والمطلق والمجمل. ولذلك يجب الرجوع فيه إلى العلماء الراسخين بنص الآية.
ومن هنا انفتح باب التكفير بالعمومات، وباب تكفير المسلمين، ومن ثمّ قتلهم، على مصراعيه، كما انفتح باب الفسق والفجور على مصراعيه من نفس الباب لدى المرجئة باعتبار العمومات مثل "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة". تشابهت قلوبهم.
ولسنا هنا نقصد ما قصد اليه المرجئة من اسقاط قول بن عباس "كفر دون كفر" على آيات المائدة، بل قد رددنا عليهم عشرات المرات[5] وأوضحنا أنّ هذا في الرد ّعلى الأزارقة الذين جعلوا ارتكاب الذنوب والظلم في بني أمية كفراً، وأرادوا حمل ابن عباس علي القول به، وهو ليس بكفرٍ أكبر، إذ ليس تشريعاً من دون الله. إنا نقصد هنا اعتبارات أخرى، كالتأويل أو شبه الاكراه أو غير ذلك، مما قد يرفع صفة الكفر الأكبر في بعض المناطات. وإطلاق الأحكام جملة دون تفصيل، هو عمل الجهال من الرجال، إذ لا تستوعب عقولهم التفصيل ولا فهومهم المناهج.
وقد دوّنت مقالاً مخصوصاً، تحت عنوان "رفع الشبهات في موضوع الولاء والبراء"، من جزئين، فليرجع اليه من شاء التفصيل[6] في هذه الجزئية.
وقد أعان على تلك الفتنة، عالم آل سعود، الحازميّ، الذي تخصص في تتبع عبادة القبور وترك عبادة العروش والقصور، وكيف لا وهو يعيش في أكناف أصحاب العروش والكروش ويدرّس في معاهدهم، فخلّط في مسألة الإعذار بالجهل، ومنح العوام صكّ الفتوى في الدماء والأعراض. وقد دوّنا مقالات في الرد على ادعاءاته، وحمّلناه كِفلا مما حدث للمسلمين بسبب جهله بمآلات الكلام، على خطئه في أصولها ومناطاتها.
لذلك، ترى التخبط في أحاديث هؤلاء، سواء متحدثهم، صبحي حمام، المعرف بالعدناني، من استشهادات في غير محلها، بعضها عمومات يستدل بها على مخصوص، وبعضها جزئيات يستعملها للتعميم، أو ما تفيض به مواقع التواصل الاجتماعي من فتاوى عوامهم التي لا نهاية لها، والتي تشهد بالفوضى التي ألقوا فيها الساحة الإسلامية عامة. وهو أمر لا يحسن كشفه إلا عالم متحقق، كما كشفه الشيوخ الأفاضل السباعي والمقدسي وغيرهما.
(4)
عدم اعتبار الاستثناءات في الشريعة الإسلامية[7]
انتهينا في المقالين السابقين إلى بيان أصلين منحرفين من مناحي الحرورية في التفكير، وهما اعتبار الجزئيات دون كلياتها، واعتبار الكليات والعمومات دون جزئياتها ومخصصاتها.
والمنحى الثالث الذي يلحق بهما هو عدم اعتبار الاستثناءات في الشريعة الإسلامية، وتقدير الفرق بين العذر والرخصة والاستثناء والأدلة الشرعية الاجتهادية في المصلحة والاستحسان، وعلاقتهما بالتقييد والتخصيص. وهو أمر لا يعتبره أو يتصدر له إلا عالم حقٍ.
فالعذر في الشريعة هو ما يقع من المُكلف، أو له، فيرفع عنه الحكم أو مقتضاه، جزئيا أو كلياً، مؤقتا أو مستديماً، حسب النظر الفقهي، كما في العوارض الأهلية، كالجهل والخطأ والاكراه. فإن وقع العذر سبباً رفع الحكم، وإن وقع مانعاً رفع مقتضاه، حسب ما تقرر في الأصول.
وللعذر صلة بمعنى الرخصة، إذ الرخصة هي استثناء من الأصل، لوقوع مشقة فوق الطاقة عادة. وإن كانت الرخصة مشروعة أصلاً للكلّ دون استثناء إن وقع مقتضاها، خلاف العذر، فيجب فيه التعيين. والتقييد والتخصيص نوع من الاستثناء وإن كان منفصلا لا متصلاً. كذلك النظر الفقهي في دليل الاستحسان والمصلحة. فالاستحسان هو عدول عن مقتضى القياس الجليّ إلى حكم آخر أليق بالمسألة لعلة مناسبة فيه. والمصلحة هي حكمٌ يخرج به المجتهد في محل ليس فيه دليل على الخصوص إلا ما اجتمعت عليه قواعد هامة دلت على جنسه.
ومن أمثلة ذلك النظر ما يطبقونه في مسألة الإعذار بالجهل، ومسألة إعذار العاذر، وذلك المسلسل التكفيريّ الذي هو وصمة عار وبصمة شنار في بنائهم الهار. وما استباحوه، ولا يزالوا، من دم المسلمين إلا بسبب الخلط في هذا المفهوم الي عنونا له هنا. وعدم اعتبار هؤلاء للشروط والموانع، وللمقيدات والمخصصات، وإطلاق التكفير العينيّ وقتل النفس التي حرم الله بناء عليه، دون ايّ نظرٍ فقهيّ، هو أصل داء الحرورية، وأسّ بلائهم العقديّ.
وكلّ هذا مقرر في الأصول، ولا أقصد شرحه هنا بأي شكلٍ كان. لكن ما أريده هو توجيه النظر إلى أنّ هناك الكثير من التفريعات الفقهية المبنية على أصول الشرع الحنيف، ما يخرج بالحكم عن مجرد منطوق حديث أو آية، كما يفعل عوام الحرورية، أتباعا ومشايخاًّ، إذ كلهم لا يرتقي عن رتبة العوام. وعدم اعتبار مثل هذه الفروق، وجعلا لبنة في بناء النظر الفقهي الذي تخرج التصرفات بناء عليه، لهو افتئات على الشرع وجهل مركب، لا يؤدى إلى خيرٍ أبداً.
(5)
إسقاط أحاديث آخر الزمان على الواقع الحال.
وهذا المنحى وإن لم يكن من الأصول بمعناها، إلا إنه تطبيق مباشر على سوء فهم الأحاديث النبوية، والسنن الإلهية، والوقائع التاريخية. ومفاد هذا المنحى هو النظر في أحاديث آخر الزمان، ثم محاولة إسقاط الواقع، بل الأدهى من ذلك، اصطناع واقع، يتمشى مع ما في الأحاديث، ثم تصديق ما صنعته أيديهم، ثم اعتبار أنّ ذلك دليل على صدق توجههم وصحة مسيرتهم، إلى لقاء الدجال. وهذا على ما فيه من خطأ عقديّ مضرٍ بدين الله، دليل على خبلٍ عقليّ أصاب هؤلاء، من شدة الجهل والإحباط من الواقع الحالّ. فهم يتشوفون إلى نهاية الدنيا وآخر الزمان، لمّا رأوا أنه، بمنظارهم الأعوج، لا فائدة ترجى في الزمان. وهو ضعف إرادة وقصر نظر. ولم يعتبر هؤلاء أن أحاديث آخر الزمان لا يمكن اصطناع أحداثها، وما قصة جهيمان منّا ببعيد.
والعلامات التي ترد في تلك الأحاديث صحيحة، ستقع بنصّها بشكلٍ من الأشكال، إذ ذكرها الصادق المصدوق. لكنها ليست لتحديد الواقعة ابتداء، أو التعرف عليها، ومحاولة تتبع وجودها بطريق العرافة والقيافة! لكنها علامات للإرشاد، وتوجيه النظر إلى حركة السنن، وتتبع الأحداث التي تقع، لا التي تُصطنع.
وأشهر ما يتداوله هؤلاء الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم فيقول المسلمون لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله ويفتتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل فإذا جاءوا الشأم خرج فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فأمهم فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته"
وأنت ترى هذا الجهل المطبق في تناولهم لهذا الحديث، واستدلالهم بأنهم سيحاربون الروم في حلب، وأنّ المسيخ الدجال سيخرج، وأنّ مسخهم إبراهيم بن عواد سيسلم الراية للمهدي، أو للمسيح، أو ما شاءوا من تطبيقات للحديث! وهاهم يستدعون "الروم" لقتالهم في الشام، بما فعلوا من ذبح الصحافيين، ثم نداءاتهم المتكررة أن يأتوا بخيلهم ورجلهم لأرض الشام، لقتالهم! حتى تتحقق شروط النبوءة. هم، من ثم، يريدون أن يتواجدوا في حلب، وعلى حدو تركيا، ليفتحوا "القسطنطينية"! فترى الصنعة في الأحداث الجارية، تكاد تلمسها.
- استعداء واستدعاء القوات المقاتلة الغربية للهجوم على الشام.
- محاولة السيطرة على حلب حيث تقع النبوءة.
- الإصرار على حرب عين العرب ليكونوا على أهبة الاستعداد، قريبا من "القسطنطينية".
خرفٌ في خرفٍ في خرف! ولا حول ولا قوة إلا بالله. جعلونا مسخرة الأمم[8]، كما جعلنا الرافضة بتأويلاتهم الخائبة الشركية.
أرأيتم خبل من يستعدى قوات أجنبية لاحتلاله وللقتال على أرضه! الناس يسعون لدفع الصائل ومنع دخوله لأراضيهم يعيث فيها فساداً، وهؤلاء، بتأويلاتهم الخائبة لأحاديث آخر الزمان، يستدعون القوى الغاشمة لاحتلال الشام! ثم يدعون أنّ هذا دين الله، وهذا وعده! والله ما هذا إلا جهلهم وخسارهم وخستهم وحروريتهم.
وقد وقعت في التاريخ من قبل معارك في دابق بين المسلمين والروم، وكانت أقرب لأن تكون هي المقصودة في الحديث من حيث كانت قوة المسلمين حقيقة لا دعاية، وذلك أيام نور الدين زنكي وأيام السلطان سليم الأول. لكنّ هؤلاء الحمقى يعتقدون أنهم هم أول "المسلمين على الأرض" بعد عصر الصحابة، وهم أفضل جيش تكوّن في سبيل الله.
ثم، أين خروج هؤلاء من المدينة؟ ثم كيف يكون هؤلاء خير أهل الأرض، وهم يكذبون بلا خلاف، ويقتلون المسلمين بالشبهة والظنة بلا خلاف، ويفتون بجهل ويخربون العقيدة بلا خلاف، ويسبّون العلماء ويسلطون عليهم السفهاء بلا خلاف؟ بل هم الوجه الآخر للعملة السلولية. هؤلاء لا يمكن أن يكونوا جيش الخلافة الموعودة، بل هؤلاء مجموعة من السذج الجهلة، اختلطوا بالمجرمين والقتلة والسفاحين. كيف يكون السامرائيّ وتابعه صبحي حمام العدناني، والسفاك الأنباري العراقي هم من صحت فيهم هذه الأحاديث التي تصف أفاضل الناس؟ وهم بالعين المشاهدة أرذلهم خلقاً وأخسّهم طبعاً؟
(6)
الحرورية إذن، في عصرنا هذا، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، لهم أصول نظرية، وإن كانوا لا يعرفونها، لجهلهم. لكنهم يسيرون عليها كأي فرقة من فرق المبتدعة التي حدثنا عنها علاء السنة. وقد ذكرنا منها ثلاثة، ومثال تطبيقي.
هذه الأصول التي يتبعونها، بجهل وسفسطة وغواية وهوى، هي:
- اعتبار الجزئيات دون كلياتها
- اعتبار الكليات والعمومات دون جزئياتها ومخصصاتها
- عدم اعتبار الاستثناءات في الشريعة الإسلامية
- إسقاط أحاديث آخر الزمان على الواقع الحال
ولعل أهل النظر أن يتوسعوا في شرح هذه الأصول، فإنها أجدر أن يستفيد منها شباب أهل السنة، ليروا تطبيقاً عملياً للانحرافات التي تحدث عنها علماء السنة، وكيف تخرج واقعا من باطن الكتب، لتعمل في إفساد الناس والزمان.
19 نوفمبر 2014 – 26 محرم 1436
[1] الاعتصام ج1 ص 245
[2] انظر "الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد" ص 18
[3] ويجب ملاحظة الفرق بين الاستنباط والاستقراء والاستدلال، ولهذا موضعه إن شاء الله
[4] http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72725
http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-140 راجع على سبيل المثال "البيان الجليّ في الردّ على المدخليّ"
[5] http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72572 &
http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72573 [6]
[7] نشرنا مؤخراً بحثا متكاملاً في هذه النقطة بعنوان "الاستثناءات من القواعد الكلية في الشريعة الإسلامية" http://www.alukah.net/sharia/0/85060/
[8] وقد تناول الشيخ الحبيب د هاني السباعي هذا الأمر في تسجيل ممتع https://www.youtube.com/watch?v=xunHnvHHlFc&feature=youtu.be