فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      سلامة المنهج ... بين التصلب والتسيب

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد

      نشرنا منذ ثلاثين عاما مقالاً بعنوان "حديث عن المنهج"[1]، خلاصته أنّ كلمة المنهج لم يشرحها أحدٌ إلى يومنا هذا، بما يجعلها مشتركة بين الفصائل التي تدعى السنية، يتحاكمون اليها كمرجعية متفق عليها. لكننا نراها تدور على الألسنة وفي المقالات، كأنها أمرٌ متفق عليه، يكون مخالفا من خالفه، وموافقا من وافقه!

      أيقصد بالمنهج التوحيد؟ أيقصد به دروس السيرة النبوية؟ أيقصد به طريق خاص في النظر والاستدلال من القواعد الأصولية والفقهية؟[2]

      لذلك، فإنه يجب الحذر حين نرى مقالا أو كلمات تتحدث عن المنهج، وكأنه أمرٌ متفق عليه، معروف محدود بحدّ جامع مانع. بل، واسأل به خبيراً، إن من أصعب الأمور الحديث في المنهج، لا عنه ولا حوله. ومن أسهل الأمور إدعاء التحقق به ومعرفته، خداعاً للنفس، ولجهلة القوم.

      المنهج"، إذن، كما هو متداولٌ، لفظ لا تعريف له حتى يومنا هذا، بل هو لفظ مجمل يعني أموراً بين إجمال وبيان، لكنه يتحد، في رأينا في إنه الأداة بين الغاية والوسيلة التي تقود إلى الغاية. وقد أجملنا عنه كلمات في مقدمة مقالنا عن المنهج بأنه " الثوابت الراسيات في العقول، الراسخات في الفطر، الموسومات في الشرع، والتي يسير عليها الناظر في تصيّده للمعنى، ثم تجريده للفتوى". ويأتي وراء ذلك الكثير من المصادر والمعارف  التي تتعاون على بناء هذا المنهج السني البديع المتكامل.

      ولست بصدد استكمال مشروع بناء ذلك المنهج بالمعنى الذي أقصد، لكني سأتناوله بما أرى أنّ غالب من يكتب اليوم، مشايخا وطلابَ علم يقصدونه. وهو "التوحيد".

      ومما دفعنى إلى كتابة هذا المقال هو ذلك الصراع الدائر على الساحة الفكرية المعنية بأحداث الشام، من وراء الستار، بين اتجاهين مختلفين، يمثلهما مشايخ الساحة الفلسطينية-الأردنية خاصة من ناحية، وبعض طلاب العلم العاملين في الساحة الشامية، ممن يؤيد بعض تصرفات فصائل معينة في تصرفاتها حيال التدخل العربي أو التركي في العملية الجهادية، وموضوع الدعم الماديّ وما يستتبعه من موضوعات الاعانة والاستعانة، ثم الولاء والبراء، وما إلى ذلك.

      وقد رُمي هؤلاء الطلبة المجتهدون بالانحراف والإرجاء والتسيب والخروج على "المنهج". كما رُمي أولئك المشايخ بالتصلب والتعنت وعدم مسايرة الواقع وعدم الاكتراث بآلام الشام. ولا شك عندي في أن كلا الطرفين قد شطّ في حكمه على الأخر.

      وقد يقول البعض لم لا تحدد موقفك من المسألة ابتداءً لنعرف أي الفريقين تؤيد وأيهما تعارض؟ لكن أجيب هنا: ألا يكون ذلك مجرد إضافة اسم شيخ إلى الشيوخ أو إلى طلاب العلم، فيزيد عدد المؤيدين أو عدد المعارضين واحداً، لا أكثر؟ فما جدوى ذلك إذن؟

      وبداية، يجب أن نتفق على أمرين في غاية من الأهمية

      1. أنّ الخبرة العلمية، وأقصد إلى استعمال كلمة الخبرة هنا من حيث تمثل العلم مقرونا بالزمن، وهو بُعدٌ يفوت على الكثير من أبنائنا الناشئين من طلبة العلم، هي عاملٌ حاسم في الاختيار بين الآراء المطروحة، طالما اعتمدت على الدليل. وهي، في صعوبة فهمها كمفهوم الزمن ذاته، وتداخله مع العالم الفيزيقيّ. وهذا لا يعنى أنّ صاحب الخبرة والسابقة أصح على الدوام، بل يرفع درجة احتمالية صحته لحدٍ أعلى حين تتساوى الأدلة الإجمالية العامة، وتتوافق المناطات.
      2. أنّ تحديد مواضع الخلاف، هو من أكبر عوامل تفهمه والعمل على حلّه. ومن أهم مواطن الخلاف هو "المناط" المطروح، كما سنرى.

      سأضرب مثلاً بمسألة يدور حولها الجدل كثيرا، وهي حكم الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله.

      والرأي "المنهجي" هو كفر من لم يحكم بغير ما أنزل الله". هذا هو المنهج القرآنيّ تدعمه الآيات والأحاديث، وكلّ ما ثبت عن الصحابة والسلف الصالح. هذا هو "المنهج". لكن كفر الملك فلان، أو الحاكم علاّن ليس "منهجا". بل هو "تحقيق مناط" بعد أن اتفق المسلمون على المنهج. ومن ثم، فإن الخلاف حوله لا يُعدّ خلافا على المنهج إلا إن ثبت تحقيق المناط بما لا يدع مجالاً لشك، أو بتبريرات لا يحتملها معنى ولا تحملها لغة، ولا يقبلها عقل أو منطق. ومن هنا يفترق الحديث عن كفر مثل د مرسى، وكفر السيسي أو أمثاله وحلفائه.

      فإن حدث خلاف، فهو بين أمرين، أن لا يكون اتفاق على المنهج ابتداءً، أو اختلاف في المناط، وإلا الثالث وهو الهوى والعمالة والخيانة، كما في حالة علماء السلطان الرسميين وغير الرسميين ممن اتخذ العلم وسيلة لمنصب، وليس من هؤلاء من نعنى والحمد لله. وهذا ما يفرّق بين الكافر والمبتدع والمخطئ في هذا الشأن.

      ومما لا شك فيه أنّ هناك مناطات يكون الجدل حولها عبثاً، ويكون من ينكر تحقيقها ممن أصيب بحول سياسيّ، أو بفيروس إرجاء أو غلو طرحه عن "المنهج". وفي هذه الحالة، يحسن ألا يرجع العالم المصيب إلى الأوليات  الراسخات، العامة المطلقة، بل يرجع إلى التفاصيل وإلى أدلة تحقيق المناط بدلاً من الرمي بالخيانة والانحراف، قولاً واحداً.

      مثل آخر، يتعلق بالولاء والبراء. و"المنهج" في هذا هو عدم موالاة الكفار والبراءة منهم، ورفض التعامل معهم "تعاونا"، بما فيه إيذاء للمسلمين مباشراً أو غير مباشر، حالا أو آجلاً، أو تلقى أي "دعم" منهم، مشروطاً أوغير مشروط، بنفس الغاية، فإن في هذا خرق لجناب التوحيد.

      مرة أخرى، فإن هذا الأمر، أمر الولاء والبراء في مفهومه العام المجمل، أمر "منهج" بلا شك. لكنّ الخلاف على هذه الصورة أو تلك من "التعاون" أو "الدعم" أو "التفاوض" ليست من المنهج بحال من الأحوال. فإنه من الضروري اللازم أن يتم تحديد تفاصيل شكل "التعاون" ومجاله، وحدّه، ورايته الأعلى، ومدته، وأطرافه.

      والأهم، هو تحديد ضرورة هذا "التعاون" أو "الدعم" أو "التفاوض"، ثم تحديد ما منه يقع تحت حدّ الضرورة فيكون كأكل الخنزير، أو للحاجة، بدرجاتها، وعلى هذا ينبني فقه كبير جداً. ولا شك أنّ الأصل هو تحريم هذا "التعاون" أو "الدعم" أو "التفاوض" إلا بثبوت ضرورة أو حاجة حسب ما يحددها الفقيه الناظر.

      ولا أريد أن أخوض في تفصيلات هذا الأمر وتحليله إلى مكوناته الأصلية، بل ما أريد هنا هو أن أبيّن أنّه يجب اعتبار هذه العوامل قبل أن نحكم بمخالفة منهج أو الخروج على الأصول.

      والأمر الدائر على الساحة الشامية، الفكرية والجهادية المبنية عليها، هو من قبيل تلك الأمثلة، بل هو غالبا تلك الأمثلة بالذات. فعلى تلك الساحة من يأخذ دعماً مفتوحاً و"يتعاون" برحابة صدرٍ مع من عُرف موقفهم من الإسلام، ومن المسلمين، ومن قيام دولة إسلامية سنيةّ حقاً، لا متأمركة. ولعل في هؤلاء من يتأول هذا التصرف، بعدم تحقق الشرط الذي ذكرنا وهو " إيذاء للمسلمين مباشراً أو غير مباشر، حالا أو آجلاً". وهنا يقع الخلاف، ويرجع البعض إلى أنّ النية لا محل لها في اعمال الولاء والبراء، والبعض إلى اختلاف المناط كلية، إذ هذا "التعاون والدعم" فيه مصلحة المسلمين لا إيذائهم.

      وهذا الخلاف، لا يرقى إلى خلاف المنهج بحال كما قلنا، بل، مرة أخرى، يحسن ألا يرجع العالم المصيب إلى الأوليات الراسخات، العامة المطلقة، بل يرجع إلى التفاصيل وإلى أدلة تحقيق المناط بدلاً من الرمي بالخيانة والانحراف، قولاً واحداً.

      وحتى لا أترك الأمر على المستوى النظري دون توجيه عملي على الإطلاق، فأود أن أعيد ما كتبت في مقالات سابقة مراراً، إنه يجب الحذر أشدّ الحذر حين ننحرف عن الأصول في شكلها العام وأصلها المقرر. فالأصل هو بقاء العام على عمومه حتى يثبت ما يخصصه. ثم هذا التخصيص يجب أن يخضع لمقاييس ومعايير الأصول، ويُعرض على أشكال الاستثناءات، مما يجعل الناظر حذراً، ويجعل شرطه العلم الحقيقيّ والخبرة، لا الشهرة.

      ولعل في هذه الجمل بعض ما يمكن أن يكون أساساً لإعادة الثقة بين الأطراف المتنازعة، بين التصلب في الرأي "المنهجيّ" في مستواه العام المجمل المطلق، دون مناقشة تفاصيل، وإظهار صواب المناط، بناء على شهرة القائل بالرأي، لا غير، وبين أوهام طلاب العلم ممن لم ينضج فيه الحس الفقهيّ إلا بقدر يكفي لفهم الأدلة دون استخدامها.

      د طارق عبد الحليم

      30 أغسطس 2015 – 16 ذي القعدة 1436

      [1]  "حديث عن المنهج"، البيان 1986    http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-109

      [2]  وهو ما اخترناه، وكتبناه في مقدمتنا لكتاب "التقريب". راجع المقدمة http://tariqabdelhaleem.net/new/DownloadList-24