فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل

      (1)

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      خلصت في مقال سابق إلى أن "قيام جماعة إسلامية تعيد الإسلام الى مسرح الأحداث ليس ضرباً من المستحيل، لكنه يحتاج الى ظروف تاريخية مناسبة ومواتية، لا أظن أنّ حاضرنا اليوم يُظِلّها. بل أظن أن دورنا اليوم لن يتعدى الإعداد لها، ومحاولة تهيئة الفرصة لِنَبْتَتَها أن تنمو وتُثمر في المُستقبل الأقرب، لا الأبعد بإذن الله". وقد وعدنا أن نعود لهذه الجملة لنبيّن ما قصدنا اليه.

      بعد إعدام سيد قطب رحمه الله وتقبله عنده في الشهداء، في الستينيات، اتخذت فكرة الجماعة الإسلامية التي تعمل على تغيير نظام الحكم، بعداً لم يكن موجوداً من قبل، وهو البعد العقديّ الذي لم يكن مطروحا قبلها، خاصة في فكر الجماعة الكبرى في ذلك الوقت، ونعنى بها جماعة الإخوان. ذلك أنّ جماعة الإخوان كانت جماعة إصلاحية ابتداءً، لا تلتزم بإتجاه عقديّ محدد، طالما يجتمع أفرادها على التلفظ بالشهادة. ومن ثم، أعطى هذا البعد زخماً كبيراً للحركات الوليدة، وإن صاحب ذلك قصورٌ معيب، بل مهلكٌ في بعض الأحيان، نتيجة ضعف الرؤية الواقعية، وخلل الفهم  الشرعيّ على السواء.

      أتذكّر في السبعينيات من القرن الماضى، حين كانت الجماعات الإسلامية تنشأ وتختفي في أسابيع أو أقل. كانت تلك "تجمعاتٍ" أكثر منها جماعات. وكانت فكرة التغيير عندها مشوّشة للغاية، وكان رصيد منتسبيها لا يزيد على الإخلاص للفكرة الإسلامية، دون تحقيق لأبعادها، ولا دراية بالواقع وارتباطه بالتاريخ الضارب في عمق الوجود الإسلاميّ على أرضنا. وكان من نتيجة ذلك أنْ فشلت تلك الجماعات في أن تكتسب أرضاً للإستمرار، ومن ثم للتأثير. ولم تترك إلا بَصماتٍ، ضَررها أكبر من نفعها، كما حدث من الجماعة الإسلامية المتخاذلة في أوائل الثمانينيات.

      يجب أن يكون مفهوماً أنّ الغَرض الشرعي من أي تجمع إسلاميّ ليس مجرد الإنتساب "لجماعة"، وإرضاء ذلك الوازع الخفيّ، الذي هو أقرب للهاجس منه للوازع، بل الغرض هو تحقيق هدفٍ لا يمكن تحقيقه بالعمل الفرديّ. ومن ثمّ فإنّ ذلك يَستدعى أوصاف معينة في ذلك التجمّع، لا يصلح إلا إنْ اجتمعَت فيه، أو أكثرها.

      كما إنه يجب أن يكون مفهوماً أنّ هذا التجمّع لنْ، أكرّر وأقرّر، لن ينشأ إلّا في مَحضن بيئة معينة تُعين على وجوده، وهذه هي البيئة التي نتحدث عنها وعن أوصافها.

      هناك وهمٌ عند الكثير من المصريين البسطاء، الذين لا يزالون يرون الإسلام هو الإخوان، وأنّ الإخوان هم المسلمون. هذا الوهم هو العائق الرئيس أمام الإسلام السنيّ الصحيح أن يعود ويَحكُم. وهي مسألة ليست ببساطة الكلمات التي تعبر عنها. بل هي مسألة إقامة الدعوة من رماد، إذ البعث من الجهل كالبعث من الموت، وصدق أمير الشعراء

      والجهل موتٌ فإن أوتيت معجزة   فابعث من الجهل أو فابعث من الرَجمِ (القبر)

      ما يجب أن تبدأ به الدعوة الآن، هو نشر مفهوم التوحيد، بشكلٍ واسعٍ واضحٍ صريح، لا لبس فيه. يجب أن تتحرر الدعوة من فكرة إقامة جماعة بالمفهوم التقليلديّ، إذ لا سبب يدعو لهذا اليوم. بل الأولى هو العمل الدعويّ الخيريّ، من خلال جمعياتٍ تقوم بنشر العلم، وتقديم الخدمات العينية للمواطن، والعمل على الإرتقاء بقدراته التي أصبحت تحت الصفر في كل مجال. وقد رأيت بعينيّ بعض عيناتٍ من خطِ بعض المسلمين من خريجي الجامعات، ولا ابالغ إن قلت إنها أدني مما كان يكتب تلميذ الثالثة الإبتدائي في زماننا السابق! هكذا دمّر مبارك أعوانه الجيل كاملاً.

      ثم إنّ المنظومة الأخلاقية التي تقوم عليها خلايا المجتمع اليوم، هي منظومة خربة لا تصلح أن ينشأ منها جماعة تقود، أو تجمعٌ يسود. لا أقول بسبب الفواحش الخلفية التي يروج لها الإعلام الكافر فقط، بل أقول تلك المنظومة الإخلاقية التي تسود بين الإسلاميين أنفسهم. فهم، في غالب أمرهم، كسالى، متواكلون، لا يحفظون موعداً، ولا يحافظون على كلمة، متعالمون بلا علم، لا يجيدون صنعة يصنعونها، ولا يهتمون بجودة ما يفعلون عامة. هم بصريح العبارة، كالعاميّ الذي يعيبون عليه، بزيادة اللحية، والثوب، وبعض الشكليات العلمية أو العلم الشكليّ.

      ولا أريد والله هنا أن أثبط عزما، بل أريد أن أواجه واقعاً قد تجاهلناه كثيراً، ثم ظللنا نتسائل، لم يتأخر النصر؟ هذا هو السبب. أن العجينة التي نريد أن نخبز منها غير صالحة، قد ضرب فيها العفن من حيث لا يدرى خَبّازُها.

      الواجب على الدعاة بحقٍ اليوم أن يركزوا جهدهم على إحياء الخلق الإسلاميّ، الخلق الأساسيّ، الخلق الذي كانت تتمتع به العرب، حين اختارها الله لتكون محضن دعوته. الخلق الذي بدونه لا يكون الرجل رجلاً، مسلماً أو جاهلياً. لقد إختار الله بيئة العرب في ذاك الوقت مع كلّ ما كان فيهم من عاداتٍ جاهلية، كالأنكحة الفاسدة، والمفاهيم الخائبة، لأنّ مجموعة الأخلاق الأساسية التي يجب أن يتمتع بها البشر حين يريدون الفلاح، كانت متوفرة فيهم على أكمل وجه، من كرمٍ وشهامة ورجولة وحفظ للعهد ونصرة للضعيف، ونخوة، وحياء، وإقدام في روية، وإحجامٍ في شجاعة. تلك هي منظومة الأخلاق الأساسية التي نفتقدها اليوم في هذه البيئة التي نريد أن ننشأ منها "جماعة"، تقوم بالحق وتهدى إلى الصدق وتصل إلى النصر... وهيهات هيهات.

      إن تكوين جماعة من وسط هذا "العكّ" البشريّ، وسامحوني في التعبير، لن يجدى نفعاً، كما رأينا في العقود الماضية كلها. إن الجهد اليوم يجب أن ينصرف كلية إلى الإرتفاع بمستوى البيئة الخلقية التي يعيشها الدعاة أنفسهم، ومن حولهم، بنشر الوعي الخلقيّ جنبا لجنبٍ مع فكرة التوحيد السويّ. من هذا المزيج، يمكن أن نبدأ. يمكن أن تتحسن البيئة، وتصلح الأرض لزراعة بذور الجماعة التي يمكن أن يستخلفها الله في الأرض.

      أما الآن، فهو حرث في الماء، أو زرع في الهواء.

      (2)

      كتبنا في مقال سابقٍ، في الأسابيع الأولى للثورة، أنْ يجب أن تُحلّ جماعة الإخوان، إذ إن وجودها في ظل دستورٍ كان مأمولاً أن يكون إسلامياً وقتها، وهو ما لم يتحقق على أرض الواقع، يُعتبر تجنياً على السلطة الحاكمة، وفصلاً بين أبناء الشعب الواحد، إلى إخوانيّ يدعى الإسلامي لنفسه، وعاميّ مسلمٌ بطبيعته. كتبت هذا حين كان الأمل موجوداً ومعقوداً أن تتغير الحالة الإسلامية للدستور. ولكن هذا لم يحدث. وظلّ الدستور يشتمل على عوار شركيّ، يبرّره دين الإخوان المتنازل على الدوام.

       ومن هنا، فإننا وجدنا أنفسنا نعود لنقطة الصفر من جديد. نعود إلى حيث بدأ سيد قطب رحمه الله تعالى، منذ نصف قرن من الزمان، في الخمسينيات والستينيات، يبشّر بجماعة سنية سلفية أصيلة، تعيد للإسلام حقيقته، وتنزع عنه تلك الحُلِىّ والبَراقع المُصطنعة، التي يقصد بها أهلها أن يجعلوه مقبولاً لدى كفار مصر، وكفار العصر في كلّ مكان على الأرض.

      من هنا عدنا نبشّر، مرة أخرى بذات الجماعة. مع فرق واحدٍ، هو إننا لا نرى أن البيئة المصرية، بل والإسلامية بشكلٍ عامٍ، يمكن أن تكون حاضنة لهذه الجماعة بتركيبتها الحالية. فمحاولة إيجاد هذه الجماعة، بالأوصاف التي يجب أن تكون عليها، هو ضربٌ من المستحيل اليوم، في تقديرنا على الأقل. ذلك للطبيعة المنحدرة الساقطة للإنسان المسلم في عصرنا الحاضر، وطبيعة الإنسان المسلم الملتزم التي هي ذاتها منحوتة من تلك الطبيعة. وحصاد الزارع موقوفاً على نوع البذور التي يبذرها. ولم نر يوماً زارع الفول والثوم، يجنى العِنب والقضب!

      إذن، نعود مرة أخرى إلى البيئة التي نتصور أنْ تكون حاضنة لمن يمكن أن يكون مؤهلاً لمثل تلك الجماعة الموعودة. هذه البيئة، هي على العكس من كلّ ما نراه حولنا اليوم، سواءً في البيئة المصرية العامة، أو في أوساط من ينتسبون لعملٍ إسلاميّ، في غالب أمرهم.

      وحتى نتفهم تلك البيئة الوسيطة، التي يمكن أن يتمخّض عنها الجمع الكريم الذي يقيم الأمة من وهدتها ويقودها للنصر ، يجب أن ندرك أن الإنهيار الخلقي هو تلك السمة العامة التي ضربت سائر الحضارات وأخرجتها عن مسار التاريخ، وألقت بها وراءه ظهريا. ونظرة إلى تاريخ الدولة الرومانية يبين المقصود، حيث انتشر البغاء والظلم والفواحش والخنوثة والكذب، وساعد على ذلك موقف الكنيسة المخزى من استغلالها للوازغ الدينيّ، بدلا من تقويمه. بل ونظرة إلى الدولة الإسلامية ذاتها، يشهد على ما ذكرنا، حيث انحدرت البيئة الإخلاقية منذ العهد العباسيّ الأول، شيئا فشيئاً، حتى انهارت هذه البيئة عشية غزو التتار لبغداد. وانتشرت الفواحش وضيّعت الأمانة وانقلب المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وشاع الكذب والظلم، ولعبت الصوفية دورها الخبيث في إشاعة الكسل والتواكل.

      ليكن معلوما أنّ الإحياء الإسلاميّ له شروط وعليه موانع. أما الشروط فهي كثيرة من أهمها أن يكون أصحاب الإحياء هم أنفسهم أحياء، يعيشون الإسلام كاملاً، من كلّ ناحية، لا باللحية والبرقع والحوقلة والقلقلة. يحيونه جدية، ورؤية وتصرفا وخلقا وعلما ونشاطا، لا مؤتمراتٍ وحلقاتٍ وخطب ومواعظ. أما موانعه فهي الإستمرار على ذلك الخلق المتدني والفهم المنقوص لدين الله ولسننه العاملة في الأرض. ونبيّن هذه الجملة ما استطعنا في الجمل التالية.

      خذ مثلاً، قيمة العمل. الإنسان المصريّ، والمسلمون منهم، والإسلاميون خاصة، قد تراجعت لديهم قيمة العمل حتى أصبح عبئاً يتهرب منه المرء لا واجباً تكليفياً يسعى لأدائه. وقيمة العمل تأتي من حفظ ضرورات النفس والمال والنسل، ثلاثتها جميعاً. فهي إذن قيمة لها مكانتها في الشرع. وحين أقول العمل، أقصد به العمل المنتج الذي يؤثر في القوة الإقتصادية للأمة، من بيعٍ وشراء وزراعة وصناعة وعيرها من أبواب النشاط الإنسانيّ. لقد رَكِن أبناء الشعب المصري، ولا أُبْعِد إن قلت الشعوب الإسلامية كلها، إلى "الرضا"، وخلطوا مفهومه باليأس، واختاروا وسيلة "أقصر الطرق" إلى الربح، يعاندون به سنن الله في الأرض. وشابههم في هذا إخوانهم من الإسلاميين، لكن بحجة أخرى وهي "الإنخراط في العمل الإسلاميّ". فتجد أحدهم طبيباً يسرح في الشوارع يبيع الكتب والشرائط "الإسلامية". وتجد جلّهم يركن إلى الخلود إلى الأرض، متعللاً بشتى التعلات، مثل كفر أجهزة الدولة، أو احتياج الناس إلى دعاة، وهو لا يحسن الكتابة إن اختبرته، ولا يحمل من قشور العلم الشرعيّ إلا أقلها!

      هذا الخلل الأصيل في العقلية المصرية الحاضرة، إسلامية أو غير إسلامية، هو من أكبر الموانع التي تقف في سبيل تحقيق معنى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". فالقوة غير رباط الخيل. رباط الخيل هو العتاد بشتى أنواعه، والقوة هي القوة البشرية والمالية والعلمية.

      إنّ ظاهرة تكفّف الإسلاميين، واعتيادهم عدم العمل، واعتمادهم على مال الدعوة يعيشون على كفافه، ليست من دين الله، ليست من أصول الدعوة، ليست من وسائل النصر. وقد نجحت قيادات الإخوان في اجتياز هذه العقبة، وإن كان ذلك على حساب عقيدتهم البدعية، إلا أنها أعطت لهم زخماً ليس لأي جماعة أخرى عاملة، بلا خلاف على ذلك.

      إن الحرص على العمل المنتج، وعدم التأفف من ممارسته أيّاً كان هو مفتاح من مفاتيح القوة، يجب على دعاة البيئة الإسلامية الصحية أن ينتبهوا له، ويعملوا عليه. لقد رأينا في الغرب معنى قيمة المل متجلية في أحسن صورها البشرية، إذ لا يأنف أحد أن يعمل عملاً يدوياً ليتكسب رزقه، أو لزيادة دخله، وهو محافظٌ على احترامه لنفسه ومكانته، فالبيئة كلها تقدّر قيمة العمل، ولا تزن المرء "بوظيفته" أو "رتبته". هذا ما يجب أن يكن درساً للمسلمين اليوم في حيازة القوة بمعناها العام الشامل.

      ثم إلى مثالٍ آخر إن شاء الله.

      (3) 

      انتهينا في المقال الثاني من هذه السلسلة إلى أنّ الشخصية المسلمة، أو الإسلامية إن شئت، لا تتمتع بما يجعلها جديرة بأن تشكل تلك الجماعة التي تقود الأمة، ومن ورائها البشرية، إلى دين الله سبحانه. وما ذلك إلا لتخلف غالب الشروط الموضوعية التي يجب تحققها في تلك الشخصية. وبيّنا أن سبب ذلك هو خراب البيئة التي نشأت فيها تلك الشخصية، وما افتقدته، ولا زالت، تلك البيئة من عوامل ضرورية لصياغة مثل هذه الشخصية. فجاءت الشخصيات الإسلامية الحالية، مشهورها ومغمورها، ناقصة مشوهة، تفتقد إلى العلم إن صح توجهها، وتفتقد إلى الإخلاص إن توفر لديها علم. علمها الشرعيّ منفصل عن الواقع، وواقعها مجردٌ عن العلم الشرعيّ. هي مثالٌ لما أسميناه "عكّ بشري"، يريد أن يتعلق بالإسلام، وهو لا يعرف مقاصده، وإن عرفها نظراً لم يعرف حقيقتها واقعاً.

      ثم ضربنا مثالاً من "قيمة العمل" عند المسلم، بل عند الإسلاميّ، ورأينا خراب الفهم الشرعيّ لضرورة الدعوة، وشاهدنا كيف أن الكسل وخيبة الأمل ألقت بالكثير في محاضن الدعوة، لا بسبب إجادتها، بل بسبب العجز عن غيرها.

      مثال آخر، أصبح علماً على الشخصية المسلمة، والإسلامية، وهي عدم إحترام الكلمة. وأقصد بذلك أنّك ترى المرء يقول ويقول، بشأن أيّ التزامٍ في أيّ اتجاه، وهو، يشهد الله، لا يقصد إنفاذ كلمة واحدة مما قال! بل إن قيمة ما وعد لا تتعدى قيمة الهواء الذي أطلقه من فِيه وهو يصدر تلك الأصوات التي صاحبت قوله! إنّ البيئة المسلمة قد أقرّت فيما بينها هذه الخصلة البشعة، التي تجعل كلمات المرء لا قيمة لها على أرض الواقع. يَعِدك أحد الناس أن سيلقاك ساعة كذا أو كذا. ثم إذا به إما أن يأتي متأخراً ساعات، أو أن لا يأتي بالمرة، ثم يتصل بك بعد يوم أو يومين ليعتذر، إن كان من أصحاب المروءة! حين وعدك هذا الشخص بالحضور، لم يكن يعرف ما يَعِد به، ولا يقصد أنه سيوفي بعهده. لم يُقَدّر هذا الشخص، حين تفوه بالوعد، أيّ التزامات أخرى قد تمنعه من الوفاء. وهذا يمثل قمة الإنحطاط في تحمل المسؤولية واحترام الذات، بله التنظيم والترتيب، بله فقدان الثقة في النفس، وتعوّد الإخلال بالإلتزامات. والعجب أنك تجد هذا الخلق البشع صفةً متواترة عند الكبير والصغير في بلادنا، الملتحين وغير الملتحين، الشباب والمشايخ، كلهم سواء. هي "ثقافة" العصر، أصبحت جزءاً من تكويننا الخُلُقيّ. وكلمة "الثقافة"culture  تعنى في مفهومها الواسع، طرق التعامل التي ترتضيها وتتصرف بحسبها جماعة بشرية فيما بينها دون أن تقصد إلى ذلك[1].

      ثم أمر آخر، وهو ضعف الهمة. ولا أدرى إن كان ذلك الخلق نتيجة للبيئة المريضة أو إنه سبب فيها. لكن هذا الأمر، أمر ضعف الهمة والركون إلى الكسل واستصعاب الواجبات أصبح علماً على شباب هذه الأمة. فأنت ترى كلّ منهم يريد أن يصل في شهورٍ معدودات، إلى ما لا يصل اليه الغير من الجادّين العاملين في عقود متواليات. ترى الرجل يريد أن يمتلك بيتاً وسيارة، ويقضى عطلته، إن كان يعمل أساساً، في أماكن المترفين ومتنزهاتهم، وهو لا يزال حديث النشأة، قليل الخبرة، لم يمارس عملاً إلا بالكاد. أما في وسط الإسلاميين، فإن هذا الخلق أكثر تغوّلاً، وأشد خطراً. فترى الشاب أو الرجل، لم يحظى من العلم إلا قليله، أو حتى ولا بقليله، إذا هو يريد أن يكون شيخاً عالماً يناديه "الإخوة" بالشيخ فلان! وهو لا يصرف وقتاً ولا جهداً في قراءة أو تحصيل، إنما هي وريقات حفظها، لا يعلم ما وراءها، ثم إذا به يدلى بآراءٍ ويفتى بفتاوى في الشرع والواقع، يزيد بها الطين بلّة. وما هذا إلا لضعف همته على التحصيل، وإرادة استباق السنن، وتجاوز حدودها. وهؤلاء لا يعلمون أنهم بهذا يسيئون إلى الدين، ولا يحسنون إلى أنفسهم. إنّ المشيخة ليست اسماً يطلقه الناس على أحدٍ فيكون له حقاً ويقيم لنفسه به وزناً. فالشيخ لغة هو من تجاوز الستين من العمر، واصطلاحاً هو من قدّم للدين علماً، كانت له به سابقة فيه، فاحترمه الناس لعلمه، حين يُعرف به، كما يُحترم من تجاوز الستين، فصار شيخاً وهو دون ذلك من العمر. لكن ضعف الهمة واستباق السنة أخرج تلك الأجيال المريضة التي تعبث على "الفيس بوك" فساداً، وإذا بآلاف من "المشايخ" مصطفين على "الكيبورد"، يهنؤون أنفسهم بالمشيخة! ويتصدّرون مشهداً هم أنفسهم رواده وجمهوره. هذا نوع من التغييب العقليّ الذي ضُرِبَت به العقلية الإسلامية الحاضرة، نتيجة الإستشراف إلى مجدٍ راح وانقضى، ثم ضعفت الهمة عن أنْ تعيده حقيقة لا خيالاً.

      ثم آخر، وهو الحياة في الوهم والإنقطاع عن الواقع. الواقعية هي أساس ركينٌ من أركان البيئة الصالحة التي يسعى أبناؤها إلى النهضة والتقدم، والوهم ليس إلا مرضاً عضالاً، يصيب الضعفاء فيدفع بهم إلى أحلام يقظة لا حقيقة لها. بلاد الإسلام يغزوها اليوم كل محقّرٍ من الصليبيين. فلسطين يحتلها كلاب الأرض وقردتها وخنازيرها. العراق يتنافس عليها الرافضة والصليبيون. العلمانية تضرب بجذورها في الأرض العربية المسلمة. حكام العرب وملوكها هم أخبث الخبائث في تاريخنا كله، خاصة من يسبحون في بحار النفط، ينفقون أموال الله في ملاهيهم ويدفعون بها إلى الصليبيينن يختزنونها لهم، إلى حين. جيوش العرب تدك شعوبها كما في سوريا، وفي سيناء مصر. هذا هو الواقع. هذا هو ما صرنا اليه. فلا يتوهمن أحدٌ أنّ الأمر أمر إعلان دولة خلافة عن طريق نصرة أحد من هؤلاء الشياطين، كما يتوهم غائبي العقل من أمثال منتسبي حزب التحرير. لقد كانت الصدمة من أعتى ما يكون حتى أذهلت العقلاء عن الحقيقة، والجأت الضعاف إلى الوهم والحلم.

      ثم إنّ آفة التقدم والرقيّ الإستهانة بالوقت وإضاعته. وهذه الآفة مما يسرى في كيان المصريين اليوم ويجرى منهم مجرى الدم في العروق. فإن وحدة الزمن التي أصبح الناس يتعاملون بها لم تعد الساعة، بل صارت الأسبوع، إذ قد انحطّ قدر الزمن كما انحطّ قدر العملة، فصار جنيه اليوم هو قرش الأمس، وصار أسبوع اليوم هو ساعة الأمس. تجد أنّ الكلمة التي تسبق على لسان أحدهم "الأسبوع القادم إن شاء الله"، وكأنّ الأيام السبعة حتى ذلك الأسبوع هي من فضول الزمان، لا قيمة لها ولا لزوم. ويشهد الله أنه ليس فيها، عادة، مانعٌ يمنع من إنهاء المهام الموكولة، ولكنه حسّ البطء والتراخي والكسل واللامبالاة وضعف الهمة قد اجتمعت كلها لتعطي للزمن هذا الحسّ المتراخى، الذى يرى أن تأجيل عمل اليوم إلى الغد، بل إلى غداة بعد الغد، أمرٌ طبيعيّ عاديّ لم يعد مستنكراً حتى عند كبار المشايخ ممن ينتسبون إلى أهل السنة! هذا الخلق هو خلُقٌ حالقٌ لكلِ محاولة للتقدم وحيازة القوة التي يريدها الله سبحانه للجماعة المسلمة التي سيكتب لها تتسلم زمام الأمر.

      إن النوعيات البشرية التي تمثل الدعوة اليوم تعيش في عالم خاص بها. وهي تعيش فيه بنفس آفات العالم العاديّ، إذ هي خريجة نفس البيئة. وأضرب مثالاً من واقع شخصي يبينّ طرفاً مما أقصد. فقد عرفت منذ عقودٍ عدة بعض الدعاة من دكاترة الشريعة، ممن اشتهر اسمهم وارتفع قدرهم بين الاسلاميين،. وصارت لهم مواقع تتحدث عنها الشباب ويرجعون لها في كثير من أمور العلم. وكانت علاقتنا أوطد من علاقة الإخوة الأشقاء. ويشهد الله إني كنت لهم خير عون في ملمات نزلت بهم في حينها. ثم وقعت كارثة ابني شريف، فكّ الله أسره، وإذا بهؤلاء ينقطعون عنى كلّ الإنقطاع، لا يتصلون ولا يسألون، بل يتبرؤون من معرفتي، خوفاً ورهبة من أن تصيبهم دائرة من الصليبيين. ولولا بقية من حِفْظِ العشرة لسَمّيتهم. فهل لهذا الخلق أيّ علاقة بما يجب أن يكون عليه المسلم، بل حتى بما كان عليه كفار قريشٍ من نصرة المظلوم، ووصل المكلوم؟ أبهذا الجيل من الدعاة الجبناء يمكن أن تقوم أمة أو تنهض حضارة؟ هذا هو نتاج البيئة التي أتحدث الي قرائنا عنها. هذا هو خِراجُها ونتاجُ زرعِها.

      البيئة التي يسعى الدعاة القادرون إلى استصلاحها اليوم، بيئة قد مُلِئَت بخَشاشٍ لا يسمن ولا يغنى من جوع. هذه الثقافة المريضة التي انتشرت بيننا هي ما يجعل الإصلاح عسيراً. فما أسهل إدعاء الإصلاح، وما أصعب تحقيقه. 

      وللحديث بقية إن شاء الله

      (4)

      أريد أن أبيّن هنا، قبل أن أمضى في الحديث، أنّ هناك من المسلمين، المجاهدين الصابرين العاملين، ما يفخر بهم الإسلام، وترتفع بهم آمال المسلمين. نراه في كلّ مكان، في العراق وسوريا والجزائر وسيناء والشيشان والصومال ومالي وكافة أقطار بلاد المسلمين، يدافعون عن دين الله، ويدفعون حياتهم ثمنا لإيمانهم، صدقوا الله فصدقهم الله، وصحّ فيهم قول المولى جلّ وعلا "مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌۭ صَدَقُوا۟ مَا عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبْدِيلًۭا"الأحزاب 23. هؤلاء رجالٌ قد اقتطعوا أنفسهم من تلك البيئة التي نتحدث عنها هنا في مقالنا. هؤلاء قد خرجوا عن منظومة الفساد والتشويه ليمارسوا أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، ألا وهو الجهاد في سبيله، حقّ الجهاد. لكن الأمر أن، هذه الجماعات المباركة، بما هي عليه الآن، وبحساباتنا الأرضية التي لا نملك إلا سواها، إلا ما شاء الله، لن تتمكن من إزالة العدوان الجائر الظالم الكافر الذي تتعرض له بلاد المسلمين في كلّ مكان. قد نوّهنا من قبل أنّ الواقعية هي صفةٌ لازمة لتكامل الشخصية الإسلامية. ومن هذه الواقعية أن نرى العدو على ما هو عليه دون تضخيمٍ أو تصغير. الواقع أنّ هذا العدو، سواءً منهم الصهيو-صليبيين، أو المنافقين من كفرة حكام العرب وملوكهم، قد بيّتوا النية أن لا يتوانوا في القضاء على أية بوادر إسلامية مهما كان الثمن الذي يدفعونه في هذا الصدد. وها هم أمراء الخليج يعادون مصر عداءً سافراً رغم أنهم يتعرضون لهجمة صفوية شرسة قد يحتاجون فيها لمصر دفاعاً عنهم. لكن الصفوية عند هؤلاء أخفّ وطأة من حكم الله السنيّ الشرعيّ. بل هاهم يقدمون الدعم الماديّ لفرنسا الداعرة للقضاء على مسلمي مالي، قاتلهم الله أنيّ يؤفكون.

      هذا الجهاد مطلوبٌ مبروكٌ، فهو شوكة في حلوق الطغاة المستبدين، يؤرقهم وينغص عليهم فرح النصر على الإسلام. لكن مسألتنا هنا ليست بصدد شوكة في حلق، بل هي بصدد رصاصة في قلب. نحن نتحث عن دعوة تقضى ابتداءً على مصادر الكفر في بلادنا، ولا علينا أن يكون الكفر في بلاد الغرب، فهذا قدرهم وما خلقوا إلا له. هذا لا يكون إلا بمناهج في غاية التقدم والتخطيط والتكتيك والمثابرة. ولن يكون هذا بخطباء يهزون المنابر، بل يكون بعقولٍ وهِمَم ومقومات شخصية تحيّ موتي النفوس والقلوب والعقول.

      وهذه النظرة ليست تشاؤماً، ولا غضّاً من قيمة الجهاد والمجاهدين، وإنما هي تقديرٌ دقيقٌ للمعطيات الحاضرة التي تعمل فيها الدعوة الإسلامية المرتقبة، والعوامل التي يجب أن تأخذها في حسبانها، والشروط التي يجب توافرها لتحقيق مرادها. إن التوكل على الله سبحانه دون أخذ كافة الأسباب المؤدية للنصر، أو حتى جلّها، هو إلى التواكل أقرب، وهو ما يقترب فيه منتسبي أهل السنة الى الصوفية دون قصد. فهؤلاء يدخلون الصحراء دون زادٍ إدعاءً منهم أن الرازق سيرزقهم في البرّ كما يرزقهم في الحضر! وأولئك يقيمون دعوة للتغيير والإنقلاب على العلمانية بعدتها وعتادها دون إعداد الوسائل البشرية والبيئية والمادية الكفيلة بالنصر! كلاهما صوفيّ المنهج، واأسفاه.

      ونحن نعلم أنّ هناك من الشخصيات التي ظهرت في قرون الخَلَف المتأخرة، بل وفي العقود السالفة، ما يعتبرها البعض من فتوحات الإسلام، وأحدثها سيد قطب والمودودي وأسامة بن لادن وبقية أعلام المجاهدين في هذا العصر. لكنّ هذا هو الإستثناء الذي يثبت صحة القاعدة. فإنّ ظهور تلك الشخصيات، متناثرة على خريطة الزمان والمكان، لا يغيّر من حقيقة ما قدّمنا شيئاً، إذ لسنا بصدد مناقشة ظواهر فردية، وإن عظم قدرها، بل نحن بصدد مناقشة ظاهرة إجتماعية تلقي بثقلها على مجتمعً بأكمله. مجتمع فشل في أن يحقق الشروط الخُلقية والمادية التي تكفل له نهضة، لا أقول النهضة. إن أوروبا حين تجردت من ثياب المسيحية البالية، وظهر فيها رجال يقيمون لها منظومة أخلاقية وعقلية، تكون لهم مرجعاً عقدياً بديلاً عن الدين، من أمثال كانْت وديكارت وبيكون وتوماس مور وغيرهم، اتبع أبناؤها هؤلاء الرجال والتزموا بتعاليمهم، وأقاموا صرح حضارتهم المادية عليها. لكننا نحن المسلمين، في المقابل، تخلينا عن كل عقيدة، ونبذنا تعاليم الأفراد الأفذاذ الذين منّ الله بهم علينا، وفقدنا حتى أخلاق الجاهلية الأولى. فالأمر ليس أمر ظهور شخصياتٍ فرادى، بل أمر مجتمع يحتضن ما يقولون، ويأتمر بما يعلمون.

      ثم أين هؤلاء المجاهدين اليوم في مصر؟ كيف نترك فرق التخريب النصرانية كهؤلاء المُشركين البلاك بلوك، دون أن يخرج أبناء الرايات السود، الذين سمعنا كلامهم فصدقناهم، ورأينا أمورهم فتعجبنا، أقرب للنساء منهم للرجال؟ أين الإخوان الذين هم مخنثي هذا الأمة، يتركون مقراتهم تُحرق وتنهب، وهم أخنث من خصيان المماليك؟

      وللحديث بقية إن شاء الله

      (5)

      منذ ثلاثين عاماً مضت، وبالتحديد في عام 1983، نشرنا كتاباً عن "أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم"[2]. كان هذا الكتاب معبراً بحقٍ عما رأيناه من أدواء المجتمع الإسلاميّ، خاصة داخل ما عُرف بالتيار الإسلاميّ. وقد حددنا في هذا الكتاب أسباباً خارجية لهذا التفرق والإختلاف، وأسباباً داخلية تعمل عملها في الجسد الإجتماعيّ كما يعمل الفيروس في جسد المُعَنّى. ونحن معنيون هنا بالسباب الداخلية التي لازالت تنخر في الأمة، كما كانت تنخر فيها يوم رصدناها منذ عقود عدة. هذه الأسباب التي أشرنا اليها آنذاك كانت الهوى والجهل والتعصب. عوامل ثلاثة تتعاون كلها على تفرقة الجمع وتشتيت الشمل.

      الهوى، آفة النفس البشرية. وإن شئت فانظر كم من جماعة وتجمعٍ وحركة وتيارٍ على الساحة اليوم. أكاد أجزم أنها بعدد من ينتمون للتيار الإسلاميّ. هذا التشرذم والتفتت ليس إلا لأنّ كلّ يرى نفسه رأساً، ويهيؤ له شيطانه وغروره أنه جدير بقيادة جماعة، أو تزعم حركة! ترى هؤلاء في أنحاء مصر كلها، ولو سأل أحدهم نفسه، ما يفرقني عن غيرى؟ لم يرَ إلا إرادة العلو وهوى الرياسة والغرور بالذات، لا غير. ومن هؤلاء سذجٌ طالبي خير، لكن من غير بابه بغير مكياله.

      ثم آفة الجهل، وإنه لفي غاية الصعوبة أن تقنع أحدا بأنه جاهل، أو محدود العلم، ذلك أن النفس قد خلقت بديناميكية دفاع ذاتية، ترفض الإعتراف بالجهل، إذ يضعها ذلك موضع الخطر، تماماً كما ترفض الدخول إلى النار أو الوقوف أما سيارة متحركة. ثم هناك أمرٌ آخر وهو الفرق بين المعرفة والإدراك. فقد يعرف أحد أنه جاهل، لكنه لا يدرك هذا إدراكاّ يرتفع إلى مستوى أن يتعامل مع هذه المعلومة على أنها حقيقة، فيسعى إلى تغييرها والتعامل معها. والجهل منه بسيط، وهو أن يعرف من يجهل أنه يجهل، ثم مركبٌ وهو أن يجهل الجاهل أنه جاهلٌ وهو أكثر ما نرى من حولنا. ولا تغتر بما يقوله البعض "نعم، أنا والله أجهل الكثير، وأريد التعلم ..الخ"، فإنّ هذا لا يعدو مخارج لفظه، إذ تجده بعدها يسعى لقيادة جماعة أو يجلس يلقى دروساً، أو ما شئت من أنشطة، تعود بنا إلى أصل الهوى، الذي يُضل عن سبيل الله. وسبيل الله ليس هو كل ما يتلفظ به من حَسُنَت نيته، وأراد أن يخوض غمار التجربة الإسلامية، وأن يجد لنفسه مكاناً على خريطتها. بل هوسبيل من تحقق بهذا الطريق، وسلك دربه على علمٍ وهدى، دون القفز على القيادة والمشيخة. وقد يسّرت الإمكانات التكنولوجية مثل هذا الهراء العلميّ. فتجد موقعا لكل من هبّ ودبّ، وتجد أتباع الفيس بوك وغيره من تلك الكوارث التي لفتت الناس عن الدراسة الحقة، وجعلت القشور هي الأصل، فصغر العالم وكبر الجاهل.

      ثم آفة التعصب، وهي ما نراه اليوم في تعصب أتباع الإخوان لقياداتهم، وتعصب أتباع السلفية المنزلية لمشايخهم، وأتباع حزب التحرير لمفاهيم حزبهم، إلا أهل السنة. فأهل السنة في عصرنا قد آلوا على أنفسهم ألا يتعصبوا لأحد، إلا أنفسهم! بأن يكون كلّ فرد فيهم رأساً قائداً، يدعى الإتباع والنفور من التقليد والتعصب، وهو يقع في أسوأ من ذلك بخلع ربقة العلم والإستهانة بالفتوى وارتداء ثياب الزور.

      فما العمل اليوم إذن؟

      يخطأ من يظن أنّ الأمر سهلٌ هينٌ قريب. لا والله بل هو صعبٌ شاقٌ بعيد. الحل اليوم لا يقوم به رجلٌ واحد، إذ ليس هنا مثل هذا الرجل قائمٌ بين ظهرانينا. الأمر يحتاج إلى ان تجتمع عزائم أصحاب العزائم، لتضع تصوراً يخرج بالأمة من هذا الموات الخلقيّ والعقليّ والماديّ. ولن يكون ذلك إلا إن اعترفنا بنقصنا، وعرفناه وحققناه وتحدثنا عنه، ليصبح شاغلنا الشاغل. حينها يمكن أن يكون ثمة تحديد صحيح للدواء الفاعل. يجب أن نتهادى بعيوبنا أولاٌ، وأن نعرص مواضع النقص فينا، بدلاً من أن نحيا في وَهمٍ أننا بخير إذ نحن المسلمون وهم الكفار. إنّ العلو في الدنيا والنصر على كفارها يلزمه خلق الصحابة، وعزائمها وتصميمها وإيمانها، أو أقرب ما يكون إلى ذلك، إذ يعزّ أن يوجد مثل هؤلاء مرة أخرى. 

      إنّ الأمة اليوم في حاجة إلى أن تتوحد. ولا أقول ذلك بالمعنى الذي يُردّده أمثال القرضاوى أو محمد حسان أو غير هؤلاء من المتحدثين باسم الإسلام، داعين إلى وحدة الشرك والإيمان، أو السنة والبدعة، أو الفسق والتقوى. بل الأمة تحتاج إلى أن تتحد على منهج التوحيد الخالص لا غيره. وأن يعمل أبناؤها على تصحيح ما انحرَف من أخلاقٍ وتصرفات ومفاهيم. يجب أن يقوم الفرد المسلم اليوم بمراجعة جادةٍ صارمةٍ لكل ما هو عليه من خُلُقٍ وتوجهاتٍ، لا فقط في باب العلوم الشرعية، ومدى تحصيله في علم التوحيد أو الأصول أو المُصطلح، بل في خلقه الأساسيّ ونشاطه وهمته وتصرفاته، وصدق وعده ووعيده، وإخلاصه لله لا لنفسه وغروره. ولا أجد أصدق من كلمات الله سبحانه يصف فيها المفلحين "قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴿1﴾ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَـٰشِعُونَ ﴿2﴾ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿3﴾ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوٰةِ فَـٰعِلُونَ ﴿4﴾ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ ﴿5﴾ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزْوَ‌ٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿6﴾ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَ‌ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ ﴿7﴾ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَ‌ٰعُونَ ﴿8﴾ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَ‌ٰتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿9﴾".

      ثم ها هي كلمات الخنساء التي وصفت أخاها صخراً، تمثّل النوعية التي نرجوها لبناء جماعة إسلامية:

      هو الفتى الكامِلُ الحامي حَقيقَتَـــــهُ     مأْوى الضّريكِ[3] اذّا مَا جاءَ مُنتابَا

      يَهدي الرّعيلَ إذا ضاقَ السّبيلُ بهم     نَهدَ التّليلِ لصَعْبِ الأمرِ رَكّابــا

      المَجْدُ حُلّتُـهُ، وَالجُـــــودُ عِلّتُــــــهُ       والصّدقُ حوزتهُ إنْ قرنهُ هابـــاَ

      خَطَّابُ محفلـــة ٍ فرَّاجُ مظلمــــــةٍ         إنْ هابَ مُعضلة ً سنّى لهاَ بابـــاَ

      حَمّــالُ ألويَــةٍ ، قَطّاعُ أوديَــــــــةٍ         شَهّادُ أنجيَة ِ، للوِتْرِ طَلاّبــــــــــا

      سُـمُّ العداة ِ وفكَّــــــاكُ العُنــاةِ، إذَ         لاقى الوَغَى لم يكُنْ للمَوْتِ هَيّابا

       

      د طارق عبد الحليم

      29 يناير 2013

      [1] المعنى الأفضل الذي وجدته في أبحاث الغرب في معنى الكلمة هي ما أوردته هنا وترجمته

      “Without knowing it, People Behave alike”.

      [2]  طبع طبعته الأولى، بالإشتراك مع الأخ الدكتور محمد العبدة، في مطبعة دار الأرقم، الكويت ،.

      [3]  الضّريكِ: المحتاج البائس