فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      هل قضت داعش على الفرصة السانحة للأمة؟

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

      الأمر الذي لا يشك فيه اليوم عالم رباني، أو عاقل عاميّ أنّ داعشاً على ضلال وبدعة. هذا أمر لا يجادل فيه إلا عدد من البشر وصموا أنفسهم بوصمة عار الحرورية، علموا بذلك أم جهلوا.

      وهؤلاء، حقيقة، لا يعنينا أمرهم في شئ، لا قليلاً ولا كثيراً، من حيث إن الله قد تكفل بأهل البدعة، أن يفضحهم الفاضحون في الدنيا، وأن يكونوا كلاب أهل النار في الآخرة.

      ولن نضيع جهداً ولا وقتاً في وصف هؤلاء، فقد سودنا صفحات وصفحات في وصف بدعتهم، عقدياً وعملياً، وخراب منهجهم قصداً وفعلاً، وبيان سوء طويتهم وانحراف مسلكهم وتحدّر خلقهم، بما لا يدع في قاموس الفرق وصفاً لم نُعنى باختبارهم عليه، ونسبتهم اليه، بالحق لا بالباطل.

      لكن الأمر أمر الأمة اليوم. الأمر أمر أثر هذه الطُغمة الضّالة على مسار هذه الأمة نحو مخرج من ورطتها التاريخية التي تمر بها، منذ بدء انحلال الدولة العثمانية، إلى يومنا هذا.

      هناك مسارات عديدة حسبها الناس تقود إلى الإصلاح. وقد جربت الأمة، أو من له فيها شأن بأحوالها العامة، بعض هذه السبل والمسارات. لكن الفشل كان نهايتها كلها، كما هو ظاهر واضح، لا يحتاج إلى كثير جدال أو قليله. منها وسيلة الإخوان في استيعاب كل ذي عاهة وصحيح، دون محولة تقويم أو إصلاح. ثم، اعتبار الجماعة هي الأمة، والأمة هي الجماعة، وإن ظهر للعين المتسرعة خلاف ذلك، بادى الرأي. ثم التزام المسالمة المطلقة وغير المشروطة، كأن العدو أهبل جاهل، لا عقل له! فتبين أن العكس هو الصحيح. ثم تصوروا أن المفاوضات من واقع ضعف وخيبة وسوء تصور وتصرف يمكن أن تؤدى إلى شئ، وهو ما تأباه السنن الإلهية كما رأينا. ثم رايناهم يناصرون الديموقراطية، كوسيلة يتدسسون بها إلى السيطرة، وهو، مرة أخرى، إلى جانب إنه انحراف عقدي فهو سبب مختل واقعياً لا يعتمده غلى جاهل بطبيعة السياسة وشؤون الدنيا وطبائع الاستبداد المعاصر.

      ثم رأينا مسار الجماعات الجهادية، في السبعينيات والثمانينيات. وكانت تصوراتها تنحصر في قتال النظام، بطرق ساذجة قاصرة، تتناسب مع بداية مرحلة ذلك المسار. لكنها أثبتت أنها كارثة من حيث أوقعت نفسها في شَرَكٍ مبيّتٍ خلع عنها كلّ شرعية، وترك أفرادها دون سبب لنصر، مما أدى إلى التراجعات التي خرجوا بها، من واقع انهيار سيد إمام، وضياع ناجح إبراهيم، وتسييس عائلة الزمر.

      إلا أن ذلك المسار أنشأ طريقاً آخر، تبني الجهاد العالميّ، والخروج من الساحة المحلية إلى ضرب المصالح الغربية في بلاد الغرب. وهو ما قام عليه فكر القاعدة، في مرحلتها الأولى، ثم تحول، كما شرحنا في مقالتينا السابقتين، إلى الصراع المحلي لحرب الأنظمة الداعمة للغرب. وهو ما أحسبه شأن القاعدة اليوم، دون أن أكون منظراً لها أو منتمياً اليها.

      وكان أثر ذاك المسار الأخير، وتداعياته، نجاحاً في بعض الأحيان كأفغانستان، وإخفاقاً في أحيان أخرى كالعراق،عاملاً مساعداً في أن حلّت كارثة الغزو الأمريكي للعراق، مرتين. وكان أنْ ظهرت حركة داعش من رحم البعث المنحلّ ومخلفات الفكر الجهاديّ المنحرف.

      ومن المستحيل أن نحسب ظاهرة داعش على الفكر الجهاديّ السنيّ ومساره، بل هي تورم خبيث نشأ في جسد تلك الحركة التي كانت تصلح من مسارها، وتعدّل من تصوراتها لحقيقة الصراع وإمكانيات المواجهة، كما شرحنا في مقالتينا عن فكر القاعدة. وكان من الطبيعي أن تتمرد تلك الحركة على كلّ موروث، وتخرج على كلّ مألوف، وتستغل كل قصور في الساحة، من كمٍّ هائل من جهل الأتباع، وحداثة سنهم وسفاهة أحلامهم. وكان فكر التكفير الحروريّ هو الأنسب لذلك المسار، إذ فيه إيحاء وتخييل وبطولة مصطنعة وشهادة مزورة وجهاد تحت راية بدعة، هي اليوم قاب قوس واحد من الكفر!

      كان الوضع، قبل نشأة هذا التورم، قد لاحت فيه بعض بشرياتٍ للأمة. فقد طفح كيلٌ الشعوب من احية، فظهرت حركات "تمرد"، تحولت إلى المسار "الديني" في بعض الأحوال، تحت الشعارات الإخوانية، وإن لم تفلح بطبيعة الحال. كما تحولت الثورة السورية إلى مسار إسلاميّ تحت إشراف القاعدة "عن بعد"، وتوجيهها لجبهة النصرة، وانضواء ذلك التورم العوادي تحت رايتها أولاً، دون إعلان، لعدم استنفار القوى العالمية، وهو مظهر من مظاهر التغير في الفكر القاعدي الذي أشرنا اليه مسبقاً.

      لكن الخطة الداعشية كانت تختلف عن الخطة القاعدية، والفكر الداعشي يختلف عن الفكر القاعدي السلفي،أيما اختلاف.

      ولسنا بصدد الحديث بتفصيل عن أيهما، لكننا نكتفي هنا بأن نُبيّن أنْ الوضع الذي وصلت اليه الحال في أوائل عام 2010 من ظلمٍ وقهرٍ وقتلٍ في الشام، قد شلّ أيدي الغرب عن معاونة بشار، إذ فعله، ولا يزال، يمثل فضيحة بشرية متكاملة الأطراف، لا يمكن أن يقبلها "شعب" شرقي أو غربيّ. ولا ننسى هنا ما ذكرنا مسبقاً من أنّ الحكومات الغربية لا تعمل ضد مُسِلّمات حاضنتها الشعبية، كما في شرقنا التعيس، بل تعمل من خلال تضليله، وإيهامه بعدو شرس غادر يهدده، وإيقاظ مستحاثات الخوف في نفوس البشر.

      كان المخرج الوحيد للغرب، كي يستمر في دعم الوضع القائم في الشرق المسلم، رغم ما فيه من قتل وقهر وإجرام، أن يظهر في الساحة، من هم أشد قتلاً وظلما وإجراما من بشار أو السيسي، أو على الأقل، مساو لهما. ساعتها يمكن أن يُزيّف الوضع إلى "إما نحن أو هم"، أي إما أن نسقط بشاراً ونرفع الظلم عن شعبه، لكن على حساب شعوبنا إذ سيظهر هؤلاء الأشرس والأعتى ظلما وقتلا وقهراً. والخيار لا صعوبة فيه، إذ هو ببساطة شديدة، "نحن وليذهب الشرق إلى الجحيم". وقد كان.

      رأينا كيف ضخّمت الدعايات من قوى داعش، بل لا نشك في أن أمريكا كانت متواطئة في قتل الصحافي من مواطنيها. ونرى كيف رسمت بعض الصحف العربية صورة القوة الداعشية، مثل ما يقوم به عبد الباري عطوان، لتعطى الغطاء الكافي للغرب ليضرب كافة الاتجاهات السنية، أولاً، ثم ينتبه لتلك القوة البعثية الحرورية، وما أسهل الخلاص منها بعدها.

      نرى إذن أنّ ظهور أولئك المغفلون التائهون عن حقائق الوضع السياسي، كان كارثة حلّت بساحة المسار الإسلامي للتخلص من قوى القهر والظلم والإجرام.

      ذلك أنّ ذلك الورم الخبيث له وجهان. وجه إسلامي حروريّ، يقصد إلى جمع الشباب والدعم لضمان استمرار الحركة، ولا يكترث كثيراً لمن يقتل، أو يذهب هباءً، فهذا الشباب فرحٌ فخورٌ إذ يعتقد إنه في خدمة الغاية الأعلى والأسمى، والقيادات فرحة فخورة لأنّ لديها الرصيد الكافي للاستمرار، فالكلّ فرح فخور مستبشر، البعض بالجنة والبعض بالذهب والفضة، مهما كانت التكاليف، أو النتائج، إذ ليس في خط القيادات الاستمرار طويلاً على أي حال. وهو مقتضى الوجه الثاني لذلك التورم، وهو الوجه البعثيّ العلماني، الذي يهدف لأمر واحد، هو جمع ما أمكن من أموال، يتحصنون بها بعد أن انهارت امبراطوريتهم إثر سقوط صدام.

      فلكي نفهم المسار العوادي الداعشي الحروري، يجب أن نعتبر هذين الوجهين للحركة، الوجه الإسلاميّ، الذي يحفز الشباب، رجالاً ونساءً، ويبني في خيالهم امبراطورية إسلامية قادمة. نعم، أليس هناك ولاية سيناء، وولاية أفغانستان، وولاية اليمن، وسائى الولايات، التي في أيّها عشرات ممن ينتمون لهذه الحركة، لا أكثر. لكن الأمر هو أمر إيحاء ووهم، لا حقيقة وجدّ. ومن هذا الوجه، تأتي البيانات والإصدارات والصور والأفلام، وسائر الإعلام. ثم الوجه البعثي، الذي يبرر الصراع مع سائر المجاهدين من ناحية، وهو محض السيطرة على مصادر المال، لا دخل لها بخلافة ولا يحزنون!

      هذا ما أتت به حركة الزوابرية الجدد، حركة ابن عواد السامرائي، حركة الحرورية التكفيرية، حركة البعثية العلمانية، كمساهمة في تحويل المسار الإسلامي للتخلص من الظلم والقهر والقتل النصيري الرافضي، إلى مجزرة للشباب المخدوع، الذي يقودونه إلى اليم، كجنود فرعون.

      والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.

      د طارق عبد الحليم

      28 فبراير 2015 – 8 جمادي الأولى 1436