فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      تطور علم أصول الفقه .. بين الشافعيّ والشاطبيّ – الجزء الثامن

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، المحمود على كل حال، وبكل لسان ومقال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      (28) انتهينا إلى أنّ "الحكم على الكتب يحتاج لميزان قسطٍ دقيق يتعاون فيه طول النظر وسعته وعمقه، وهو ما تيسر لنا بحمد الله تعالى مع كتاب الموافقات".

      وقد اخترنا أن تكون مقارنتنا بين كتابيّ الغزاليّ والشاطبيّ، وليس بين كتابي الشافعي والشاطبي لسبب واضح، وهو أن الشافعيّ هو مؤسس العلم تدوينا، لكن الغزالي،، فيما نرى وصل إلى حده الأعلى تطويراً وتحقيقاً.

      يتلخص الأصل فيما تفرّد به الشاطبيّ في الموافقات على نظرائه في أمور:

      • نظرته وتقديره لدور الإستقراء في الشريعة.
      • موضع المصالح من بنائه الأصوليّ.
      • قصده من وضع الكتاب وموضوعاته.

      وسنتوسع في بيان تلك النقاط إن شاء الله، بما يليق بالمقام دون توسع خارج موضوع بحثنا، وبما يفيد في فهم أقوال الشاطبي ومذاهبه على الخصوص، ليتم لنا بذلك كشف النتيجة التي نسعى اليها من أنّ كتاب الشاطبي كان تجديداً لا ينتمى إلى أصول الفقه التقليديّ الذي وصل إلى منتهاه على يد الغزالي في المستصفى. ومن قارن بينهما على غير هذا الأساس، أو فاته اعتبار هذه النقطة، فقد أخطأ في التقدير.

      (29) التعريف اللغوي للاستقراء:

      الاستقراء لغوياً مشتق من مادتي "قرْو"، و"قري". جاء في القاموس المحيط : القرْو، القصد والتتبع، كالاقتِراء والاستقراء"[1]، وجاء في مقاييس اللغة "قري .. يدل على جمع واجتماع ومن ذلك القرية"[2]، وقال "القرْو وهو كل شئ على طريقة واحدة"[3]، أي جمّع واستقصى.

      والحق أن هناك خطأ شائع أن الاستقراء المقصود في هذا الباب الأصولي يلأتي من مادة "قرأ" بالهمزة، وهذا غير صحيح، ولم يأت في معجم لغوي. بل معنى استقرأه، أي طلب منه القراءة، وتأتي بلفظ استقريت. وينبني علي ذلك تأويلاً للكلمة يلجأ اليه من يذهب إلى هذه النسبة الخاطئة. بل إن استقرأ تأتي بمعنى تربص، جاء في القاموس المحيط في مادة قرأ "اسْتَقْرَأ الجمل الناقة، تاركها لينظر ألقحت أم لا"![4]. والأصل أنّ اللجوء إلى إخراج الأصل اللغوي عن حقيقته بتأويل لا يجب إلا بدليل. فاستعمال "قرأ" كمصدر للاستقراء بمفهومه المقصود، لا يصح هنا. ويجب على من تصدى للبحث أن يحذر من تلك النقطة.

      (30) معنى الكليّ والجزئيّ

      استخدم و(استحدث) الاصوليون هذه المصطلحات في بيان مفاهيم محددة يقصدون إلى بيانها. وقد اعترض البعض على أنّ هذه المصطلحات واردة من علم الكلام، ولمّا كان علم الكلام مرفوضاً رأساً، فهي مرفوضة بالتبعية. وهذا الذي قررنا مثال على قياس فاسد لا يصح، من عدة أوجه. أولها أنّ المقدمة الكبرى هنا وهي رفض علم الكلام رأساً ليس يقينية ولا ثابتة مشتركة، فقد قال بن تيمية مثلاً بأن هناك في علم المنطق ما هو حق، وإنْ كان أكثر حقه غير مطلوب قال بن تيمية "وأما هو في نفسه فبعضه حق وبعضه باطل، والحق الذي فيه، كثير منه أو أكثره لا يحتاج اليه"[5]. ونضرب مثالاً في الفرق بين قضايا الكلام، من ناحية الردّ لا العرض، كما سنبينه تفصيلاً في كتابنا "التقريب" إن شاء الله، فالفرق بين الردّ والعرض هو أنّ الردّ سلبيّ تدفع به قضية باطلة، كما يتبين مثلا في الحديث عن التحسين والتقبيح، فيحسن تناول الموضوع لرد الشبهات. والعرض هو قضية إيجابية يتم بها ابتداءً عرض قضايا مثل التوحيد أو الإيمان، وهذا لا يصلح فيه علم الكلام، بل فيه ضلال وإضلال. وذم علم الكلام إجمالاً لا يشك فيه مسلم سنيّ، ولكنّ التفصيل عند المحققين أولى.

      ثم إنه مما لا يجب الاعتراض عليه هو استخدام مصطلحات معينة مثل الجزئي والكليّ. إذ لا مشاحة في الاصطلاح، وإلا لاعترضنا على مصطاحات علم مصطلح الحديث، كالمقلوب والمعنعن والمسند وغيرها كثير، ولا فرق! وأمر المصطلحات يُعنى بموضوع المصطلح، لا بمن استخدمه، وهي النظرة الموضوعية التي يجب أن يكون عليها أهل الحق. وقد استخدم بن تيمية مصطلح الكليّ والجزئي في كثير جداً من كتاباته، ولا يضر الأصولي أن يستخدمها إن كان قد بيّن المقصود بها.

      ومعنى الكُليّ مغاير عند أهل المنطق عنه عند الأصوليين، وسنورد ما يقصده المناطقة ليمكن المقارنة لا أكثر. فالكليّ المنطقي كالعام، وهو الذي يمنع تصوره مشاركة كثيرين فيه، ويقابله الجزئي[6]. أمّا الكليّ عند الأصولين فهو إما بمعنى "العام" النصي كما سبق، أو، وهو مقصودنا في هذا الموضع، هو القاعدة الكلية[7] التي تتكون من تتبع الجزئيات التي تشترك في معنى معين ليتكون منها معنى كليّ، وهو موضوع الاستقراء. أمّا الجزئي، فمعناه تلك الأفراد المندرجة تحت المعنى الكليّ – العام أو الاستقرائي – سواءً كان نصاً أو فرعاً فقهياً. والكليّ، في حقيقة الأمر ليس بموجود إلا بعد تصفح الجزئيات، وتجميعها تحت المعنى العام المشترك بينها، وهو الكليّ. قال بن تيمية "والكليّ لا يكون كلياً إلا في الذهن، فإذا عرف تحقق بعض أفراده في الخارج، كان ذلك مما يعين على العلم بكونه طلياً موجباص. فإنه إذا أحس الانسان ببعض الأفراد الخارجية، انتزع منه وصفا كلياً، ر سيما إذا كثرت أفراده، والعلم بثبوت الوصف المشترك لأصل في الخارج هو أصل العلم بالقضية الكلية"[8]. ومن هنا قال الشاطبيّ "وبيان ذلك أن تلقى العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود فى الخارج وإنما هو مضمن فى الجزئيات"[9]. وهذا أمر هام سنعود اليه في سياق بسط موضوع كتاب الموافقات إن شاء الله.

      (31) تعريف الاستقراء الاصلاحي وأنواعه ومتعلقاته:

      ومن المهم هنا، بعد أن عرفنا ما يعنى الأصوليون بالكليّ والجزئي، أن نناقش تعريف الاستقراء، من حيث هو محور حديثنا بعد. والاستقراء له تعاريف عدة، تتبع نوعه، إن كان منطقياً أو أصولياً. فالتعريف المنطقي للقياس الأرسطيّ، كما ذكرنا سابقا، قد نسب لأرسطو وأن لم يكن ناك نص ثابت للتعريف، لكنّ العرب، كوسيط حامل للفلسفة والمنطق اليوناني، قد وضعوا تعاريف للقياس المنطقي، مثل ابن سينا والفارابي، وقد أورده ابن تيمية عنهم، قال "وذلك أن الاستقراء هو الحكم على كليّ بما تحقق في جزئياته، فإن كان في جميع الجزئيات كان الاستقراء تاماً كما في الحكم على المتحرك بالجسمية لكونها محكوما بها على جميع جزئيات المتحرك من إنسان وحيوان ونبات"[10]، وقد رد ابن تيمية هذا القياس الأرسطي في كتابه الرد على المنطقيين، تفصيلاً، وبين إنه لا داع له عند الباحثين، قال "أنك لا تجد أحدا يريد أن يعلم مطلوبا بالنظر، ويستدل عليه بقياس برهاني، إلا ويمكنه العلم به بدون ذلك القياس"[11]. وهذا الاستقراء هو نوع من القياس، لكنه مبنيّ على "تصور" المقدمة الكبرى، ثم وجه الشبه (أو الحد الأوسط حسب نوع القياس تمثيل أو شبه) والمقدمة الصغرى. والأمر في إثبات المقدمة الكبرى، إذ لا طريق إلى ذلك في أكثر الأحيان. والعلاقة بين القياس والاستقراء وثيقة، والقياس المنطقي هو، إن أمعنا النظر، استقراءٌ، مقدمته الكبرى هي القضية الكلية ذاتها[12] وحده الأوسط، وهو العلة، مُتضمن في المقدمة الكبرى، لكن هذا ليس محل الحديث عنها. وقد عارض الغزاليّ هذا المعنى من "التصور" للكليات عند المناطقة، قال "ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان وتارة يعبرون عنها بأنها غير موجودة من خارج بل من داخل يعنون خارج الذهن وداخله"[13].

      أما الاستقراء الأصولي، فقد عرّفه الغزاليّ بقوله "الاستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات"[14]. وعرّفه الشاطبيّ بأنه "استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام فيجرى في الحكم مجرى العموم المُستفاد من الصيغ"[15]. وقد أورده في مبحث العموم، من حيث إنه طريق من طرق إثباته، بل هو الكريق الأقوى، بحب نظره، في لإثبات العموم المعنوى.

      (32) الاستقراء التام والناقص

      وللاستقراء نوعان، تام، وهو ما يتم فيه استقراء كلّ الجزئيات التي تدخل تحت الكليّ المعتبر. وهذا ما يقصد اليه في الغالب أصحاب المنطق، إذ إن قضاياهم الكلية هي تصورات ذهنية بالمقام الأول. ويفترق الأصوليون عن هؤلاء، إذ يعتبر بعضهم الاستقراء التام متضمناً لكلّ الجزئيات[16]، وبعضهم يعتبره متضمناً لأغلبها، وبعضهم الأكثرية، وبعضهم ما يفيد الظن الغالب فيها بغض النظر عن العدد. وأهمية هذا تكمن في اعتبار نتيجة الاستقراء من حيث تمامه أو قطعيته. أما الاستقراء الناقص، فوصفه بالنقص من باب عدم استقراء كلّ جزئية تدخل تحت حكمه، وليس بمعنى إنه لا يفيد العلم أو القطع. ففي الاستقراء المنطقي، تجد إنه رغم تشبث المناطقة بأن قضاياهم كلية تامة، فإنه يتعذر إثبات أن قضية تصورية في الذهن تشمل كلّ أفرادها دون تخلف، وهو ما ذهب اليه ابن تيمية. وقد ذهب الأصوليون إلى أنّ نتائج الاستدلال تبني عليها قواعد كلية إن شاعت في جزئياته على الغالب. وقد أورد ابن العربيّ نصاً في معرض حديثه عن حكم قتل الحيوان المؤذي للمُحرِم، فقال "فجعل حكمها حكم حالها في الأغلب وإن كانت لا تبتدئ (بالأذى) في حال، لأن الأحكام تتعلق في الأشياء بالأعم الأكثر ولا حكم للشاذ النادر"[17]، وكرر ذلك في مواضع قال "فخرج الحكم على الغالب ولحق النادر به".

      (33) القطعية والظنية في الاستقراء

      وهذا أمرٌ في غاية الأهمية في بحث الأصول، من حيث إنه يقرر رتبة التعويل على نتيجة الاستقراء في مراتب الاحكام. ومن الطبيعي أن يتفق الناس على أنّ ما استقري فيه كلّ الجزئيات فهو استقراء تام يفيد القطعية، وهو الاستقراء التام الي يشمل كلّ جزئياته، كما جاء عن الغزالي في المستصفى والتهانوي في كشاف مصطلأما الاستقراء الناقصات الفنون. أما إن كان ناقصاُ فالوجه المعتبر في إفادة القطعية هو أن يثبت الحكم الكليّ في الجزئيات بما يرتفع به إلى درجة القطع وأن كان ناقصاً، وهو ما ذهب اليه الشاطبيّ. وذهب ابن تيمية إلى أنّ الحكم إذا بني على ظنٍ غالب فقد أفاد القطعية، إذ إن الظن الغالب عنده يفيد العلم. أما الاستقراء الناقص، فقد قال البعض إنه يفيد الظن، وهو ما حكاه عنهم ابن تيمية في مجموع الفتاوى. والحق إن الاستقراء يمكن أن يكون قطعياً ولو كان ناقصاً، أو غلب على الظن إنه قد تحقق به العلم ولو لم يكن تاماً، سواء بكثرة الجزئيات أو قوتها أو النص على العلة الجامعة، كما ذهب لذلك ابن تيمية في الرد على المنطقيين.

      (34) الجزئيّ الحقيقي والإضافي

      الجزئي الحقيقي هو "المفهوم الذي لا يمنع نفس تصوره من وقوع شركة كثيرين فيه، ويقابله الجزئي الحقيقي ..وهو المفهوم الذي يمنه نفس تصوره من وقوع شركة كثيرين فيه"[18]، ومثال الحقيقي كالانسان، وجزئياته مثل محمد وعلى، لا يقبلا الشركة، والإضافيّ مثل المطعومات والمشروبات، فجزئياتها مثل الخبز أو المياه والعصائر .. وتلك الجزئيات في ذاتها تحتمل الشركة لتعدد ما تحت الخبز بأنواعه، وهكذا. وفي الشرعيات يجرى هذا المعنى في أنواع الزكوات والديات ومثلها، والقياس عليها. وقاعدة الضرر مرفوع، مبنية على الاستقراء الحقيقي، إذ إن جزئياتها في الشريعة وردت بلا احتمال الشركة فيها، كحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، ثُمَّ أَرْسِلِ إِلَى جَارِكَ". والجزئي الحقيقي هو ما نعنيه حين تناول الأدلة الشرعية وآيات الكتاب وأحاديث السنة وغيرها من النصوص.

      هذا ما أردنا بسطه في هذا المحل ليسهل على القراء أن يتتبع ما سنسرده في دعم دعوانا بأنن الشاطبيّ قد قّدم جديداً في بابه، لم يأت بمثل من سبقه. وقد لا يعجب البعض مناقشتنا لمثل هذه التعاريف، من باب اشتباهها بالمنطق وعلم الكلام. لكننا لا نهتم لذلك، فإنها ليست منهما في شئ إن تناولناها كما بيّنا. وقد أوضحنا افتقار المنطق إلى سندٍ يعينه، وأنّ علم الكلام يعنى بالإلهيات وإثبات وجود الله عن طريق الممكن والواجب وما إلى ذلك، وهذا ليس من الباب الذي نتحدث فيه البتة، فمن خلط بينهما فقد خلط وشرق وغرّب!

      ونسأل الله إنارة البصيرة، فالعقول قاصرة إلا من أمدّ الله بمدد من عنده.

      يتبع إن شاء الله تعالى  (تكملة الأصول بين الغزاليّ والشاطبيّ)

      د طارق عبد الحليم

      17 فبراير يناير 2015 – 28 ربيع ثان 1436


      [1]  القاموس المحيط الفيروذبادي ص 1324، وانظر طشاف مصطلحات الفنون ج1 ص 172 تحت مصطلح الاستقراء.

      [2]  مقاييس اللغة لابن فارس ص 852

      [3]  السلبق ص 853

      [4]  القاموس المحيط ص 49، وليس في هذا الاستقراء صلة بما نحن فيه كما يظهر!

      [5]  السابق ج 9 ص 269

      [6]  كشاف مصطلحات الفنون للتهانوي، طبعة مكتبة لبنان ج2 ص 1376. وفيه بحث ممتع عن هذا الموضوع.

      [7]  الكليّ والكلية قد يترادفا في مصطلحات الأصوليين. راجع "الاستقراء وأثره في القواعد الكلية" ص 66.

      [8]  مجموع الفتاوى ج 9 ص 204

      [9]  الموافقات ج 3 ص 8.

      [10]  مجموع الفتاوي ج9 ص 196

      [11]  مجموع الفتاوى ج 9 ص 109.

      [12]  راجع تفصيل معنى القاعدة في كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي تحت حرف القاف "قاعدة"، ففيها بحث ممتع.

      [13]  المستصفى ج 1 ص 29

      [14]  المستصفي ج 1 ص 41

      [15]  الموافقات 3 ص 298

      [16]  كشاف مصطلحات الفنون باب الاستقراء 172

      [17]  أحكام القرآن للجصاص ج 4 ص 192

      [18]  كشاف اصطلاحات الفنون باب الكليّ ص 1376