فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      تطور علم أصول الفقه .. بين الشافعيّ والشاطبيّ – الجزء الخامس

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، المحمود على كل حال، وبكل لسان ومقال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      وصلنا في بحثنا إلى نهاية تأريخ العصر الذهبي لتدوين الأصول ما بين رسالة الشافعيّ، ومستصفى الغزاليّ، وهو ما استغرق نيف وثلاثة قرون من الزمن.

      (15)  السؤال الأول المطروح في هذا البحث هو: هل أنصف المتأخرون في وصفهم لتدوين علم أصول الفقه إنه انقسم إلى مدرستين، مدرسة الشافعية والمتكلمين، ومدرسة الحنفية؟ والاجابة  على هذا السؤال ستأتي في نهاية الجزء التالي من بحثنا في المادة المدونة في علم الأصول في الأعصر التي تحدثنا عنها، ما بين الشافعيّ والغزاليّ.

      والسؤال الآخر الذي سنجيب عنه بعد، هو: ما هي الإضافة التي برز بها الإمام الشاطبيّ في القرن الثامن الهجري، وتميّز بها عن أقرانه في هذا الباب في كتابه العظيم "الموافقات في أصول الشريعة" حتى استحق ما قاله فيه الشيخ الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله "حتى جاء الشاطبيّ في الموافقات فبلغ الغاية وأوفى على الكمال"؟

      مدارس التدوين بين الشَافعيّ والغَزاليّ

      (16)  حين يتحدث الباحث عن "مدرسة" في تناول موضوعٍ ما، فإنه يقصد عادة إلى ما يتعلق بلب الموضوع قيد البحث، مقدماته، نتائجه، مفرداته، دلائله. فعلى سبيل المثال، فإن مدرسة جديدة في أصول الفقه قد تكون ما يقصد اليه الداعون المحدثون إلى تجديد علم الأصول، من أمثال حسن الترابي وطه جابر علواني ومحمد عابد الجابري وأحمد الريسوني وغيرهم[1]، وإن كنا نشك في قدرة أيهم على الإتيان بما لم يأت به الأوائل!

      لكنّ الناظر في مباحث علم الأصول، وفي نتائجه، بين ما أسموه "مدرسة" المتكلمين و"مدرسة" الأحناف، لا يجد بينهما مساساً بجوهر العلم ولا بقواعده ولا حتى بأبوابه، بل غالبا ولا في تناوله لموضوعاته! إلا بعض توسعٍ في إيراد أدلة على القواعد المسرودة، سواء كانت من كتاب أو سنة، أو من فروع ثبتت بالكتاب والسنة حسب مذهب الأصولي الناظر. وهذا الذي قررنا سنعطي عليه شواهد وأدلة تجتمع كلها على تصحيح ما ذكرنا، من إنّ هذا التقسيم، بهذه الحدة، كان اعتسافاً من المتأخرين لأسباب سنحاول بسطها بعد أن ندلي بأدلتنا.

      أولاً: تدوين أئمة الأحناف:

      وسنخرج كتاب أصول الكرخيّ الحنفيّ ت 340 من حديثنا هذا إذ إننا لا نعرف كيف ينسبه أصحاب الفن إلى علم أصول الفقه! وهو كتاب ينضح كلّ ما فيه بأنه في القواعد الفقهية أصلاً، ذلك إذا نظرنا مثلاً إلى قوله "الأصل أن الظاهر يدفع الاستحقاق ولا يوجب الاستحقاق"[2] ويدلّل عليها بمسألة وضع اليد على العقار. ويقول "الأصل أن القول قول الأمين مع اليمين من غير بينة"[3]، وهكذا سائر الكتاب. فقد أخطأ من صنفوه في أصول الفقه ابتداءً. وهو وإن كان يُبيّن توجه الأحناف وقتها لتقعيد القواعد بناءً على الفروع، فإنه لا يقف دليلاً على مدرسة في أصول الفقه البتة. وقد يكون هذا هو مبدأ الخلط في موضوع "مدرسة" الأحناف الاصولية.

      (17) كنز الوصول في علم الأصول: وخير ما نستدل به في تدوين أصول الفقه على يد الأحناف في هذا العصر هو كتاب "كنز الوصول" للإمام البزدويّ. ويلاحظ في كتاب البزدوي إنه قد قسم الأصول تقسيماً جميلاً في مبتدئه قال "وإنما يعرف أحكام الشرع بمعرفة أقسام النظم والمعنى وذلك أربعة أقسام فيما يرجع إلى معرفة أحكام الشرع: القسم الأول في وجوه النظم سيغة ولغة والثاني في وجوه البيان بذلك النظم، والثالث في وجوه استعمال ذلك النظم وجريانه في باب البيان والرابع في معرفة وجوه الوقوف على المراد والمعاني على حسب الوسع والامكان وأصابة التوفيق"[4]. ثم أخذ البزدويّ في بيان تلك التقسيمات بطريقة ممنهجة جميلة.

      ثم إذا واصلت الاطلاع وجدت إنه قد استمر في مناقشة وبيان وتقرير القواعد في طرق البيان التي قسمها حتى ص 42 دون الدخول في فروع إلا القليل مما لابد منه. ثم يتابع البزدويّ فيقدم أبواباً تكاد أن تكون هي هي ما وصل اليه العلم من أبحاثه، وإن كان دون ترتيب متفق اتفاقا كاملا مع ترتيب من تأخر عنه مثل السرخسي، الذي أكثر من الاستدلال على أصوله بالفروع، ولعله كذلك خلط الحديث عن القواعد الفقهية بالحديث عن الأصول، كما فعل مثلا في مناقشة ثبوت الأمر بمقتضى الحال، في باب "موجب الأمر بحكم الوقت"، ومعارضته للكرخيّ في قوله "وقت الأداء ثابت بمقتضى الحال"[5]، وهي ما ورد في مناقشة ابن رجب لأمر الأداء في قواعده الفقهية[6]. وأعتقد أنّ أمر "المدرسة الحنفية" يستوجب أن يُنظر اليه من ناحية الخلك بين القواعد الفقهية وأصول الفقه، لتمييزهما، ومن ثم تحديد طريقة النظر الحنفية في الأصول، والتي أرى ألا فرق يُذكر بينها وبين طريقة الشافعية.

      ونعود إلى كتاب البزدوي، فنجد إنه قد تناول دلالات الأمر والنهي، ثم العموم والخصوص، ثم السنة وحجيتها، ثم شرع من قبلنا ثم الاجماع والقياس، ثم عوارض الأهلية[7]. وفي أثناء ذلك كله، نرى البزدوي يثبت القاعدة الأصولية أو الدليل الشرعي بأنواعه في أبوابه التي نسقها، ويناقش حجيته ويدلل عليه أولاً بما هو من باب التقعيد، ثم يستدل عليه بحديث أو فرع حكميّ إن لزم الأمر. فأنت تقرأ مثلاً "باب شروط الإجماع" فتجده استدل فيه، بعد سرد قول أبي حنيفة والشافعي بحديث واحد "عليكم بالسواد الأعظم"[8]، وبفرع واحدٍ وهو صلاة الناس في قباء قبل نزول النص[9]. وهذا المنطلق والمنهج تجده سارياً في الكتاب كله. وهو دليل استقرائي قطعي، من أشهر كتبهم، على أنّ طريقة الأحناف في تدوين الأصول، على الأقل حتى القرن الرابع، تعتمد على تقعيد القواعد أصلاً، وهو ما سنرى إنه نفس ما اعتمدته علماء الشافعية في هذا المضمار.

      (18) الفصول في علم الأصول: فإن  انتقلنا إلى علم آخر من أعلام الحنفية، وهو الإمام أحمد بن علي الجصّاص ت 370، في كتابه "الفصول في الأصول"، وجدنا أنّ الجصّاص وضع كتابه الفصول كتوطئة لكتابه الشهير "أحكام القرآن"، فكان من هذا التوجه، باب لمناقشة العديد من الفروع في كتاب الفصول في الأصول. وبداية الكتاب مؤشرٌ على ذلك، وإن خفت وطأة الفروع. ففي بدايته، تراه يذكر القاعدة في باب العام "في الظواهر التي يجب اعتبارها"، ثم سَرَد فروعاً بدأها بحكم الماء النجس ثم ألفاظ العموم المعطوف عليها وحكمها إن انفردت، ودلّل على ذلك بآيات العدة، وهكذا. ثم في الفصل الثاني، رجع إلى الطريقة العامة في تدوين القواعد ومناقشتها بتوسع، والتفريع عليها بذكر قواعد تتعلق بها،حيث تناول تناول اللفظ لمعنيين، وذكر قول شيخه الكرخيّ وناقشه، وسار على هذا المنوال بذكر القواعد الأصولية اللغوية في الإجمال والاشتراك، ثم أبواب العموم والخصوص، والمجمل والمتشابه، ومعاني الحروف، ثم البيان وصفاته، والأمر والنهي، وشرائع من قبلنا والاجماع والاجتهاد والتقليد، وبقية ما عليه اهل الاصول في أبواب التدوين دون نقص أو زيادة. وهو في كلّ ذا يقرر القواعد أولاً ثم يناقش حجيتها آراء السابقين لها، ويرجع في غالب أمره إلى قول شيخه الكرخيّ. وهو في هذا يقر بدور أدلة العقول. وانظر إلى مناقشته لمن يعتد بخلافهم، حيث نقل عن أبي الحسن قوله "ولا يعتد بخلاف من لم لا يعرف أصول الشريعة، ولم يرتض بطرق المقاييس ووجوه اجتهاد الرأي، كداوود الاصبهاني والكرابيسي واضرابهما من السخفاء والجهال ... إلى قوله عن داوود الظاهري "قوله إني لا أعرف الله تعالى من جهة الدلائل اعتراف منه بأنه لا يعرفه، فهو أجهل من العامي وأسقط من البهيمة"[10].

      ونسأل الله إنارة البصيرة، فالعقول قاصرة إلا من أمدّ الله بمدد من عنده.

      يتبع إن شاء الله تعالى (القول في كتاب تقويم الأدلة في أصول الفقه: للإمام أبو زيد الدبوسي الحنفي ت 430"

      د طارق عبد الحليم

      6 فبراير يناير 2015 – 17 ربيع ثان 1436


      [1]  وهذا الموضوع، التجديد في أصول الفقه موضوع سنفرد له دراسة خاصة إن شاء الله لنرى مدى ما يقصد اليه دعاته، وهل حقاً وراء الأكمة ما وراءها في هذه الدعوة!وسنفعل ذلك إن شاء الله مستعينين ببحث للدكتور خليفة بابكر حسن بعنوان "التجديد في أصول الفقه : مشروعيته وتاريخه وإرهاصاته المعاصرة".

      [2]  أصول الكرخيّ ص 362 من كنز الوصول للبزدوي

      [3]  السابق ص369

      [4]  كتاب كنز الوصول للبزدويّ ص5 وبعدها

      [5]  أصول السرخسي ج1 ص 26

      [6]  القواعد الفقهية لابن رجب الحنبلي ص 79 وبعدها

      [7]  وقد تعرض قبلها لأهلية الاجماع والاجتهاد في قبل باب شروط الاجماع، انظر ص 232

      [8]  رواه بن ماجة والحاكم وهو ضعيف.

      [9]  كنز الوصول ص 233

      [10]  الفصول ج3 ص 296