فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      تطور علم أصول الفقه .. بين الشافعيّ والشاطبيّ – الجزء الربع

      تطور علم أصول الفقه .. بين الشافعيّ والشاطبيّ – الجزء الربع

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، المحمود على كل حال، وبكل لسان ومقال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      وصلنا في بحثنا إلى تقرير أنّ "يقوم القياس الأرسطي، باختصار شديد، على "التصور". أي تصور كنه الشئ كما يقول أرسطو في تعريفه "القول الدال على ماهية الشيء". وهو ما تقوم عليه المقدمة الكبرى أو الحد الأول في القياس المنطقيّ، ثم تأتي المقدمة الصغرى والنتيجة. ومن هذا "التصور"، جاء ضعف ذاك القياس، إذ لا أساس له إلا القضية الذهنية الذاتية. وهو ما بيّنه بن تيمية بوضوح في كتابه الفذ "الرد على المنطقيين". وقد بيّن بن تيمية أن القياس الأصولي، ومن ورائه، وأقوى منه الاستقراء بأنواعه، هو الطريق الأمثل للاستدلال، كما سنبيّن فيما يأتي، دون استغراق في القضايا الأصولية إلا ما يعين على فهم تطور العلم".

      تطور علم الأصول بين الشافعية والحنفية:

      مقدمة تأريخية

      كما ذكرنا، فإن ظهور الرسالة قد بدأ به عصر تدوين أصول الفقه، ومن ثم بدء تقعيد قواعده وتمهيد ممهداته. وهدفنا الآن هو النظر في مدونات الأصول التي تعاقبت بعد رسالة الشافعي رحمه الله، وما آل اليه التدوين في هذا العلم على مذهبي الشافعي وأبي حنيفة.

      وقد جمع الإمام الزركشي الشافعي في مقدمة كتابه "البحر المحيط في أصول الفقه"[1] عدداً هائلاً من مؤلفات أصول الفقه لمن أراد مراجعتها، على كافة المذاهب. كذلك تجد ثبْت الكثير منها في حرف الألف تحت "أصول" وغيرها في كشف الطنون لحاجي خليفة.

      ومن أشهر العلماء المدونين في علم أصول الفقه في القرن الثالث الهجري[2]، بعد الشافعيّ، كتاب الأصول لأصبغ[3] ت 226، داود الظاهري[4] ت 270، وكتاب إثبات القياس لعيسى ابن إبان ابن صدقة الحنفي[5]، وكتاب في الأصول لاسماعيل بن اسحق القاضي ت 282، وإن لم يصل الينا أي من هذه الكتب. أما البويطي المصري الشافعي ت 231، والمزنيّ فليس لهما كتاب معروف في الأصول، وإن كنا لا نرى كيف يصلا إلى ما وصلا اليه في إمامة مذهب الشافعي دون تبحر في هذا العلم. ثم ما كتب الحافظ ابن خزيمة الشافعي ت311 صاحب المسند في التعارض والترجيح.

      أما القرن الرابع الهجري، فقد كان غنياً بالعلماء الذين شاركوا في تدوين العلم. ويلاحظ الباحث تطور واضح في التدوين، من حيث تنسيق الأبواب الأصولية، ومن حيث اعتماد الفروع كمرجع للقواعد بدلاً من سرد أدلتها التفصيلية من الكتاب والسنة، كما فعل الشافعيّ. ولعل طريقة الشافعي في اعتماد الأدلة التفصيلية كانت لأسبب إنه أول من دوّن في العلم، ثم كانت "الفروع" على المذاهب، تطبيقاً لتلك القواعد في الفتاوى،

      وأول ما وصلنا في هذه القرن عن كتابٍ جامعٍ في الأصول بعد الرسالة هو كتاب أبي بكر الصيرفيّ الشافعيّ المتوفي 330هـ، أي بعد وفاة الشافعي رحمه الله بحوالي قرن وربع قرن. وهو كتاب مفقود، يعتبر من أهم ما يبيّن تطور الفقه في القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجريّ. وقد قيد الله له مَنْ جمع شتات آرائه الأصولية[6]، مما جعلنا نتمكن من تحقيق منهجه في التدوين، وهو ما يهمنا في بحثنا هذا. وقريب من الصيرفي الإمام أبو علي بن إسحق الشاشي[7] الحنفي ت 344 صاحب "الخمسين في أصول الفقه"، نرى أن العلم قد نضج واستوى على ساقه، فخرج الكثير من الكتب والمدونات لكبار أعلام ذاك القرن، ومن أعلامه أبو الحسن الكرخي الحنفيّ ت 340، المنسوب لكرخ بالعراق وله كتاب مميّز في الأصول طبع بهامش أصول البزدوي، وكان فيه تعصبٌ شديد مقيت للأحناف حتى إنه قال "أصل: كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق"[8]، فسبحان الله على هذا التعصب المذهبيّ! ومعاصره الإمام أبو اسحاق المروزي[9] الشافعي ت 340، وانتهت اليه رئاسة الشافعية بعد ابن سريج، وله كتاب "الفصول في علم الأصول". ثم منهم محمد بن سعيد القاضي ت 343، ثم أبو بكر القفال الشاشي الكبير الشافعي[10] ت 365 المعتزلي ثم الأشعري، ثم أبي بكر أحمد بن عليّ الجصاص الحنفيّ ت 370، وله تصانيف في الأصول.

      والملاحظ أن كثيراً من الإئمة كتبوا في أبواب من الأصول دون أن يَستغرقوها مثل بن خزيمة، وابن المنذر ت 309 في كتابيه عن القياس والإجماع، وأبو الحسن الأشعريّ[11] ت 324 في كتبه عن إثبات القياس وفي العام والخاص[12].

      وقد ضربنا الذكر صفحا عن أعلام المذهب الاعتزاليّ، مثل الجبّائي والكعبيّ وغيرهما رغم مشاركتهم في التأليف الأصولي، لما هم عليه من البدعة أصلاً، مما لا يستحب معه تناول أو تداول ما كتبوا، والمتكلمون أهوَن منهم في هذا الصدد.

      أما في القرن الخامس الهجري، فعَلَمه الأكبر عبد الملك بن أبي محمد الجويني الشافعي[13] ت 478، صاحب الكثير من أنفع المؤلفات في بابها، مثل غياث الأمم في التياث الظلم" و"البرهان في أصول الفقه" وهو من عمد الكتب في هذا العلم. ومنهم الإمام أبي الحسن علي بن محمد البزدوي الحنفي[14] ت482، صاحب "كنز الوصول لمعرفة الأصول" وهو من أهم مراجع الأصول عند الأحناف، ومنهم الإمام أبو زيد الدبوسي الحنفي[15] ت 430، وله "تقويم الأدلة في أصول الفقه" الدبوسي وآخرهم هو الإمام أبو حامد الغزالي ت 505، وإنما عددناه من أعلام الأصول في القرن الخامس إذ قضى جلّ حياته فيه، وأخرج فيه "المستصفي في أصول الفقه".

      وإذ انتهينا إلى هذا من سرد من رأينا ممن لهم أكبر الأثر في تدوين علم الأصول في القرون الخمسة الأولى، حتى وصل إلى مبلغه واستوى على سوقه في كتاب "المستصفى للغزاليّ" فلا نرى داعياً، في هذا البحث أن نتابع ذلك البحث التاريخي، إذ هناك كوكبة عظيمة من أكابر العلماء والأئمة ممن ساهموا بأعمق المؤلفات في هذا العلم، من الإمام العالم الفقيه أبي محمد بن قدامة المقدسي صاحب كتاب "روضة الناظر وجنة المناظر" في الأصول، حتى عصر الإمام  الشوكاني[16] ت 1250 وصاحب "إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول"، فيرجع اليها القارئ في مظانها.

      ونسأل الله إنارة البصيرة، فالعقول قاصرة إلا من أمدّ الله بمدد من عنده.

      يتبع إن شاء الله تعالى

      د طارق عبد الحليم

      2 فبراير يناير 2015 – 13 ربيع ثان 1436


      [1]  ويظهر أثر علم الكلام في حديث الزركشي عن ماهية علم الأصول في أول كتابه "فإن قيل هل أصول الفقه إلا نبذة من علم النحو ... ونبذة من علم الكلام كالكلام في الحسن والقبح وكون الحكم قديماً .."البحر المحيط ص12.

      [2]  يجب على الباحث مراعاة استعمال لفظ الأصول في ذاك العصر، فهو قد ينطبق على أصول الفقه، وقد ينطبق على الأحاديث التي يعتمدها الفقيه كأصول.

      [3]  قال الذهبي " أصبغ ابن سعيد بن نافع، الشيخ الإمام الكبير، مفتي الديار المصرية، وعالمها أبو عبد الله الأموي مولاهم المصري المالكي"سير الأعلام ج10 .

      [4]  قال الذهبي "داود بن علي بن خلف، الإمام، البحر، الحافظ، العلامة، عالم الوقت أبو سليمان البغدادي، المعروف بالأصبهاني، مولى أمير المؤمنين المهدي، رئيس أهل الظاهر .. أخذ العلم عن : إسحاق ابن راهويه، وأبي ثور وكان زاهدا متقللا" سير الأعلام  ج13

      [5]  القاضى والفقيه، لزم محمد ابن الحسن بعد جفوة، وكان ورعا تقيا حافظاً. سير الأعلام ج10

      [6]  الآراء الأصولية لأبي بكر الصيرفي – توفيق عون، طبعة جامعة الجزائر كلية أصول الدين 2001

      [7]  هو الإمام بن إسحاق الشاشي وله كتاب الخمسين في أصول الفقه (وهو غير كتاب الخمسين في أصول الدين للرازي) وليس القفال الشاشي الشافعي ت365.

      [8]  راجع شرح أصول البزدوي والكرخي طبعة مركز العلوم والآداب بكراتشي ص 323

      [9] قال الذهبي "الإمام الكبير ، شيخ الشافعية ، وفقيه بغداد أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي ، صاحب أبي العباس بن سريج ، وأكبر تلامذته"سير الأعلام ج15

      [10]  وهو من شراح الرسالة، قال الذهبي " الإمام العلامة الفقيه الأصولي اللغوي عالم خراسان أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي الشافعي القفال الكبير إمام وقته" سير الأعلام ج16.

      [11]  هو إمام المتكلمين أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أمير البصرة بلال بن أبي بردة بن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي موسى عبد الله بن قيس بن حضار ، الأشعري اليماني البصري، قال الذهبي "وكان عجبا في الذكاء وقوة الفهم ، ولما برع في معرفة الاعتزال كرهه وتبرأ منه ، وصعد للناس ، فتاب إلى الله - تعالى - منه ، ثم أخذ يرد على المعتزلة ، ويهتك عوارهم . قال الفقيه أبو بكر الصيرفي : كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم ، حتى نشأ الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم" سير الأعلام ج15. وقد انتشر عن الأشعري إنه تبرأ من أقواله السالفة في الأشعرية التي وقف بها بين المعتزلة وأهل السنة، في كتابه الإبانة، وقد أنطر بعضهم نسبته اليه، الصحيح صحة نسبته.

      [12]  راجع "طبقات الأصوليين" عبد الله مصطفي المراغي طبعة الإوقاف الأهلية 1947

      [13]  قال الذهبي "الإمام الكبير، شيخ الشافعية ،إمام الحرمين أبو المعالي، عبد الملك ابن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه الجويني، ثم النيسابوري، ضياء الدين الشافعي، صاحب التصانيف" سير الأعلام ج18، وقد ورد عنه في الرسالة النظامية ما يفيد رجوعه عن الكلام وتأويل الصفات إلى مذهب التفويض كما ذكر بن تيمية في درء التعارض، وهو أقرب من التأويل، وأخطأ في ذلك.

      [14]  قال الذهبي "شيخ الحنفية عالم ما وراء النهر أبو الحسن علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي صاحب الطريقة في المذهب" .سير الأعلام ج18، وقال فيه السمعاني: وكان إمام الأصحاب بما وراء النهر، وله التصانيف الجليلة.

      [15]  راجع سير أعلام النبلاء ج17  ووفيات الأعيان ج1 في سيرته. وهو صاحب كتاب تأسيس النظر، ويعده الناس أول من دُون في علم الخلاف. وقد ذكر صاحب كشف الظنون أن الإمام البزدوي الحنفي قد شرح كتاب التقويم راجع كشف الظنون ج1ص274.

      [16]  هو أبو علي بدر الدين محمد بن علي الشوكاني المجتهد صاحب "إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول"، راجع ترجمته لنفسه في البدر الطالع ج2 ص214، طبعة دار الكتاب الاسلامي. وقد تفقه على مذهب الرافضة الزيدية ثم عاد لمذهب أهل السنة والجماعة. وله مؤلفات كثيرة جدا تجدها في ترجمته المذكورة.

      راجع الأجزاء الثلاثة السابقة في الروابط التالية:

      الجزء الأول: http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72836

      الجزء الثاني: http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72837

      الجزء الثالث: http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72840