فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      السياسة الشرعية ... بين الصحة والبطلان

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      (1)

      السياسة الشرعية مصطلح مركب من لفظين، "السياسة" و "الشرعية". والسياسة في العرف الشرعي، والمدرك العربي، هي تحصيل المنفعة والمصلحة بأقل الضرر والمفسدة، وهي بطبيعتها "الشرعية" تقتضي اعتبار النظر الشرعيّ في معنى المصالح والمفاسد، ومجالهما، وأبعادهما، من عامة أو خاصة، عاجلة أو آجلة، دنيوية أو أخروية، معتبرة، صغيرة أو كبيرة[1]، مصادمة لنصٍ أو مندرجة تحت قاعدة، وهو ما يملى كونها معتبرة أو غير معتبرة[2]، في ميزان الأحكام الشرعية المستقاة من الكتاب والسنة، وما نشأ عنهما من اجتهاد صحيح.

      والسياسة في العرف المدنيّ، هي إدارة شؤون البلاد والناس بما يضمن مصالح تلك العصبة من الناس في الدنيا، وحسب النظر المدنيّ ّالذي اتفق عليه "مشرعوهم" و"عقلاؤهم" ممن اختارتهم العامة ممثلين لها، وحسب ما استقرت عليه قوانينهم وما لا يتعارض مع دستورهم الأعلى. فالفرق بين السياستين هو الفرق بين الإسلام والكفر، قولاً واحداً.

      ثم إنه حين نتحدث عن السياسة الشرعية، فإننا يجب أن نراعي بعض الأمور هنا، منها أنّ أمور السياسة هي في الغالب الأعم، أمورٌ محدثة اجتهادية، بل من النوازل، من حيث إن شؤون الناس لا تتكرر في مناطاتها تكرراً متطابقاً بالمرة، فلا يصح فيها تطبيق أحكام فقهية مسبقة إلا على سبيل الاستئناس أو القياس. وإنما يحتاج الناظر فيها، ومن بيده القرار، إلى عالِمٍ يدرك أبعاد الشريعة وأحكامها، لا أن يقول فيها ببادئ الرأي ومعطيات العقل.

      ثم إنه يجب أن يكون بَيّناً لمن بيده قرار السياسة، أنه ليس هناك فرقٌ بين الحكم الشرعيّ وبين المصلحة، فلا يقال، هذا الحكم الشرعيّ، لكن ماذا عن النظر في المصالح؟ هذا قول يحمل تناقضاً ذاتياً لا يقيمه على قدم. فالحكم الشرعي، أو الأولى الفتوى الشرعية الصحيحة، في أمر يتعلق "بالصالح العام" أو "بالسياسة" هي المصلحة عينها، لا غيرها. فلا يجب أن يتردد في هذا الأمر أمير أو قائد.

      إلا إنّ تطبيق هذا التوجه، ليس سهلاً ولا مباشراً، إذ يتعلق بدقة نظر الفقيه، وسعة علم الناظر. وهو باب واسع جداً لا يتسع له المقام هنا. لكن نكتفي بالإشارة ليفهم اللبيب منها أنّ هؤلاء المدّعين المتسوّرين على جدر العلم، أو أولئك المبتدعة من الفجرة القتلة الذين يستحلون الحرمات باسم الشرع، أن ليس لهم بالشرع علم البتة. كذلك حتى يتحرى من يريد التزام الشرع من أهل السنة هذه المصالح والمقاصد من وجه متكامل، يرجعون فيه للعلماء لا لقادة جند أو أمراء بنادق.

      فإنه قد تقرر أنّ كلّ حكم شرعيّ قد قصد فيه الشارع الحكيم مقصداً، بل مقاصداً، وإنه يجب أن يقع فعل المسلم المكلف على وفاق مع هذا المقصد وإلا بطل العمل أصلاً. فإن عُرف قصد الشارع، وجب الدخول في العمل من هذا الباب، لا من غيره تحقيقاً للمصلحة. إلا إنّ وجه المصالح المقصودة شرعا غير منحصر فيما يبدو لعين الناظر، يقول الشاطبيّ "المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر إلا دليل ناص على الحصر وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصيّ إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلا لم أشرع هذا الحكم إلا لهذه الحكم. فإذا لم يثبت الحصر، أو ثبت في موضع ما ولم يطرد، كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم فنقص عن كمال غيره"[3]. وهذا الكلام معناه أنّ إدراك كافة ما قصد الشارع من حكمٍ معينٍ في موضع معينٍ عزيز. ومن ثمّ، فإنّ ادعاء معرفة قصد الشارع، ثم البناء عليها، معارضة للحكم الشرعيّ غرور بالنفس وتهديد للمصلحة العامة.

      ومن هنا وجب في مسائل السياسة الشرعية، التي تنبني على الاجتهاد، بإدراك أوجه المصالح والمفاسد أن يُرجع فيها إلى عالم متحقق بالعلم، ليدرك بما أفاء الله عليه من فهم تحصيل وتحليل، وجوه المصالح المتعددة في المسألة المطروحة، فقها وواقعاً.

      ولا نريد أن نسترسل هنا في الجوانب الفقهية أو الأصولية من هذه المسألة في أوسع مما يمكن أن يلمّ به مقال، بل كتاب أو مجلد.

      (2)

      فإذا انتقلنا من هذا التعليق النظريّ إلى واقع حال "السياسة الشرعية" التي يتعلق بها كثير من العاملين في الساحة الجهادية اليوم، بحقٍ أو بباطل، وجدنا أنّ جلّ ما يصدر عنهم فيه قصور أو إهمال، بل كما في حالة فرق المبتدعة الغلاة الحرورية العوادية، كله ظلم وفجرٌ وباطلٌ محض، كما في موضوع قتل المصلحة وغيره.

      ونضرب لذلك مثلاً من موضوع المفاوضات مع النظم الكافرة، ومثالها النظام المصري سابق قبل سيطرته على الحكم، والنظام السوري حالياً.

      إطلاق القول أنّ "التفاوض مع نظام كافر حرام" هو قولٌ فيه تجوّز ورعونة، كما أن قول "التفاوض من النظم الكافرة بابه مفتوح بإطلاق" حمق وفساد. إنما يجب أن يقال إن "التفاوض مع نظام كافر بما يجرّ مصلحة أو يدفع مفسدة غير مجبورة على المسلمين ممكن مطلوب بحسب مناطه". ومن صحح هذا من باب فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فقد أحسن، لكن فاته أنه استشهد بجزئية يمكن الردّ عليها كما كان من الكثير. إنما نريد هنا أن نقيم كليات لا يردّ عليها إلا بكليات مثلها.

      وقد قلنا في الكلية التي ذكرنا قيداً على مطلق التفاوض، وهو أنْ يجرّ مصلحة أو يدفع مفسدة، ثم زدنا على وصف المفسدة إنها غير مجبورة، مما يعنى أنه لا يمكن جلبها او دفعها إلا بهذه الوسيلة. وقد قلنا مطلوب من حيث تختلف درجة الطلب بين الإباحة والندب والوجوب، حسب الحال.

      ومما لا شك فيه أن الوضع القائم هو ما يحدد المفسدة والمصلحة، وما يحدّد عِظم أحدها أو صغره، وما يحدد إمكان جبرها من عدمه. ففي مصر مثلاً، أيام تفاوض الإخوان مع العسكر في كامب سليمان وبعدها، كان هذا من أبعد الأمور عن الشرع وأكثرها غفلة تصل إلى درجة خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فإن مركز القوة كان في يد الغالب من الناس، ولم تكن هناك أية مصلحة ظاهرة في التفاوض لم يكن ممكن تحصيلها بغيره، إذ قد خرج الأمر أيامها من يد العسكر، إلا ما سمح لهم به الإخوان بغباء التفاوض. وقد رأينا ما حلّ بالحركة وبالإخوان نتيجة عدم الخضوع لأحكام الشرع، والسير وراء من ادعى لهم العلم من جماعتهم المعروفة بخلوها من العلماء، إلا من هم على دين الإرجاء.

      والأمر في الشام يختلف عنه في مصر، إذ النظام السوريّ لا يزال في موضع التحكم، خاصة بعد خيانة السامرائي وكلاب أهل النار من ورائه، مما أضعف الجهاد. لكن هذا لا يعنى أنّ التفاوض مع النظام أمرٌ محتوم كما يحاول بعض قادة فصائل أن يروجوا له. بل إن هناك أمور يمكن أن تكون جابرة لهذه المصلحة، أو دافعة للمفسدة الناشئة عن التفاوض، إن خلصت النيات. ومن الواجب أن يكون معلوماً أنّ التفاوض سيؤدى إلى مفسدة ولا شك، لكن النظر هو فيما يجلب من مصلحة أعظم كثيراً حتى تلغي في جانبها تلك المفسدة، أو إنه يدرأ مفسدة أعظم كثيراً من مفسدة التفاوض مع الكفار النصيرية.

      كذلك، فإن الشام اليوم ساحة قتال حقيقي وجهاد قائم، مما يجعل كفة المسلمين فيها نوع رجحان لا ينبغي أن يتنازل عنه الناظر في المسألة بسهولة. بينما لم يكن في مصر أيّ نوع من الجهاد أو إظهار القوة، بل مال الإخوان، كعادتهم، إلى السلمية الغبية البدعية المقيتة، حتى وهم على قمة الموجة الثورية! ووجود المجاهدين على الأرض عامل هام في تحديد قيمة المفاوضات واتجاهها، إن رأي العلماء والقادة فيها فائدة للمسلمين.

      ومثال آخر، هو موقف حماس، منذ القديم، وسراياها، الذي ظهر عام 2012 في شكر سرايا القدس لجمهورية المجوس على دعمهم[4]! وهو أوضح مثال على قصر النظر المتناهي في عقول هؤلاء الصغار. فالنظر في مآل هذا الشكر، وسبب هذا الدعم لم يتوافد على عقولهم. وقد يجد أحد لهم عذراً لما مروا به من مصائب، وما رأوه من خيانة من يدعى السنة من كفار مصر والخليج، لكنّ هذا لا يصحح خطأ ولا يحلّ حراما ولا يجوّز ممنوعاً، ولهم في الصمت مندوحة.

      وهناك الكثير مما يقال في هذا الموضع مما يجب اعتباره في موضوع قدر المصلحة والمفسدة، وموضوع التفاوض، فإن هناك ما لا يمكن التفاوض فيه مثل إجراء أحكام غير أحكام الشريعة، أو التنازل عن أرضٍ يعيش عليها مسلمون سنّة، أو تسليم إخوة مسلمين أو أخوات مسلمات، أو ما شابه مما كان مصادما لنصٍ شرعيّ واضحاً لا يحتمل اجتهاداً.

      وما يجب أن ننبه اليه أنّ الإيغال في تبرير التفاوض في الشام لا يصح إلا ممن ينظر إلى الجهاد هناك على أنه حكرٌ على جماعته، فيرى نفسه، وحده، أضعف من العدو، فيندفع وراء المفاوضات، ظنّا منه إنه على هدى من الشريعة. بل ساعتها يكون قد خرج عن قيد "غير مجبورة" التي وضعناه، إذ يمكن جبر الضعف الجزئي بالتوحد بين الفصائل، ولو في جبهة مؤقتة لتقوية الصف.

      الأمر هنا ليس لتقرير شرعية التفاوض من عدمه، بل لتقرير إنه لا يجب أنْ لا يترك أمر تقدير وتقرير خوض مفاوضات مع النظم الكافرة لقادة الحرب أو أمراء الجماعات، دون أن يكون إلى جانبهم عالماً، أو علماء، متحققين بالعلم الشرعي الذي ذكرنا منه طرفاً، ليكون الواقع متناغماً مع أحكام الشريعة، في إصدار فتوى يعمل بها المسلمون. والعلماء المتحققون بالعلم السنيّ متواجدون بحمد لله، كالشيخ السباعي والشيخ أبي قتادة وغيرهما، ولا يلزم وجودهم في ساحة القتال، إذ إن عيونهم هي أولئك القادة، ولم نعرف أنّ مالكاً أو أبي حنيفة أو الشافعيّ لم يستشرهم أحد لأنهم لا يتواجدوا في الثغور! هذه بدعة كلاب أهل النار حين تولى عنهم أهل العلم فلم يجدوا إلا أن يتحججوا بما ليس بحجة ليفوتوا الحق على غيرهم كما فوتوه على أنفسهم.

      ونحن اليوم نرى أنّ الكثير، بل أغلب أمراء الحرب وقادة البنادق يضعون أنفسهم وجماعاتهم في يد من سماهم أحد الإخوة الأحباب "شرعيو الاضطرار"، أو يضعون أنفسهم في موضع العلماء فيصدرون بيانات ملؤها الفتاوى والتأصيلات الشرعية التي يعتقدونها هي العلم وهي الفقه، لا غيرها.

      والله ولي التوفيق

      د طارق عبد الحليم

      23 صفر 1436 – 15 ديسمبر 2014


      [1]  ارجع إلى مناسبة صغر المصلحة أو عظمها إلى جانب المفسدة إلى الموافقات ج2ص372 ففيها فائدة عظيمة.

      [2]  ارجع على كتابنا "مفتاح الدخول إلى علم الأصول" ص203 وبعدها

      [3]  الموافقات ج2ص373

      [4]  https://www.youtube.com/watch?v=PKMARe7y22k